الأسرة المنتظرة
المكان : بربورة / من قرية النويدرات ـ مسجد المؤمن .
اليوم : مساء الخميس ـ ليلة الجمعة .
التاريخ : 20 / شعبان / 1427هـ .
الموافق : 14 / سبتمبر ـ أيلول / 2006م .
المناسبة : مولد الإمام الحجة ( عجل ) .
أعوذ بالله السميع العليم ، من شر نفسي الأمارة بالسوء ، ومن شر الشيطان الرجيم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين .
اللهم صل على محمد وآل محمد ، وارحمنا بمحمد وآل محمد ، واهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد ، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد ، وأجمع بيننا وبين محمد وآل محمد ، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة يا كريم .
اللهم معهم .. معهم لا مع أعدائهم .
السلام عليكم أيها الأحبة : أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله تعالى وبركاته .
في البداية : أرفع أسمى التهاني وأطيبها إلى مقام إمامنا ومولانا وسيدنا وشفيع ذنوبنا يوم القيامة الحجة بن الحسن العسكري ( أرواحنا لتراب مقدمه الفداء ) بمناسبة الذكرى السنوية المباركة لمولده السعيد المبارك ، وإلى مقامات مراجع الأمة وفقهائها وعلمائها ، وإلى كافة المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وإليكم أيها الأحبة الأعزاء ، بهذه المناسبة العظيمة الخالدة العزيزة جدا على قلوب المؤمنين ، والتي نعيش من خلالها قمة الوعي والإيمان والأمل والمسؤولية .
قال الله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ( الروم : 21 ) .
قول الله تعالى : { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } .
مِّنْ أَنفُسِكُمْ : أي من جنسكم ، وهو يدل على أن الرجل والمرأة من نفس إنسانية واحدة ، ولهما نفس القيمة الوجودية الإنسانية المشتركة الواحدة . فلا فضل لرجل على امرأة ، ولا لامرأة على رجل إلا بالعلم والتقوى والعمل الصالح .
فالمرأة العالمة أفضل من الرجل الذي يقل عنها علما .. والعكس صحيح .
والمرأة التقية أفضل من الرجل الذي يقل عنها تقوا .. والعكس صحيح .
والمرأة العاملة أفضل من الرجل الذي يقل عنها عملا .. والعكس صحيح .
َ
أزْوَاجًا : جمع زوج ، وهو اثنان من نفس الجنس ، يقترن أحدهما بالآخر ، على أساس أن كل واحد منهما يفتقر إلى الآخر في خصائصه التكوينية ويكمله . فكل واحد منهما قبل الاقتران ناقص ومحتاج إلى الآخر تكوينا ، ثم يصبحان بالاقتران كيانا واحدا متكاملا في الخصائص والأدوار ، لتأدية وظائف محددة ومواصلة دورة الحياة على وجه الأرض .
لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا : لتطمئنوا إليها و تألفوا بها و يستأنس بعضكم ببعض . وهذا السكن يقوم على أساس النفس الإنسانية المشتركة الواحدة ، والتجاذب بين الزوجين ، والتكامل في الخصائص والأدوار ، والمنافع المادية والمعنوية المتبادلة بينهما .. أما المنافع المادية : فتتمثل في إشباع الغريزة الجنسية والأولاد والخدمات المتبادلة وتقاسم العمل بينهما في داخل الأسرة .. وأما المنافع المعنوية : فتتمثل في دور الزواج في العفـة والطهارة الروحية والرقي والتكامل المعنوي . وقـد أشـارت الكثير من الأحاديث الشريفة المروية عن أهـل البيت ( عليهم السلام ) إلى المنافع المعنوية للزواج .. منها : الحديث المروي عن الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي قال فيه : ” من تزوج فقد أحرز نصف دينه ، فليتق الله في النصف الآخر ” .
وأن التعبير بالسكن في الآية الشريفة : يوحي بالكثير من اللطائف والنكات الفكرية والروحية والأخلاقية والاجتماعية . فالسكن يوفر للإنسان الحماية والستر وهو مستودع أسراره ، ويشعر فيه الإنسان بالأمن والراحة والاطمئنان .. وهكذا ينبغي أن يكون الزوجان لبعضهما في عش الزوجية .
كما استخدم القرآن الكريم عبارات أخرى توحي بالكثير من اللطائف والنكات المماثلة .. مثل قول الله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } فاللباس يستر العورة ويحمي الجسم من البرد وحر الشمس ، وهو زينة وجمال للإنسان .. وهكذا ينبغي أن يكون الزوجان في علاقتهما مع بعضهما البعض .
قول الله تعالى : { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } .
المودة : هي الحب الظاهر أثره في مقام العمل .
والرحمة : هي الشفقة الناتجة عن الإحساس بحاجة الطرف الأخر إلى المساعدة والوقوف إلى صفه ومناصرته في الحياة .
هذه هي الأجواء الصحية التي ينبغي أن تتوفر في الأسرة ، لينشأ فيها التفاهم والتعاون والتضامن بين أفراد الأسرة ، لتنجح الأسرة في تأدية وظائفها التعليمية والتربوية والاجتماعية على أحسن وأكمل وجه . وليس الشجار والتسلط والتنافس على الامتيازات الخاوية داخل الأسرة ، وحرص كل طرف منهما على فرض هيمنته وسيطرته على الطرف الآخر ، مما يشكل أجواء أسرية سقيمة ، تؤدي إلى اضطراب أوضاع الأسرة وفشلها بامتياز في تأدية وظائفها التربوية والتعليمية والاجتماعية . هذه هي الأجواء الصحية التي تنسجم مع الفطرة الإنسانية ويدعو إليها الدين الإسلامي الحنيف . فمن كان متأدبا بآداب الدين الإسلامي الحنيف ، ويحمل رسالته في الحياة ، فليكن حريصا كامل الحرص على توفير هذه الأجواء في أسرته ، لكي تنجح في تأدية وظائفها التعليمية والتربوية وتحقيق أهدافها الرسالية والاجتماعية . وإنني أحذر الأزواج من رؤية كل واحد منهما نفسه في مقابل الآخر ، وأنصحهما بأن يذوب كل واحد منهما في الآخر ، من أجل تحقيق النجاح المطلوب لبناء الأسرة اجتماعيا ورساليا .. وأذكرهما : بأن رؤية أي من الزوجين لنفسه في مقابل الآخر ، يدل على الأنانية وقمة الاستغراق في حب الذات ، ويمثل الفشل في المستوى الأدنى لتربية النفس وتهذيبها ، وهو الطريق إلى فشل الأسرة في تأدية وظائفها المطلوبة منها اجتماعيا ورساليا .
أيها الأحبة الأعزاء : إن الأجواء الصحية التي يريدها الله الرب الرحيم في الأسرية ، هي نفس الأجواء التي يريدها في المجتمع والدولة ، لكي ينجحا في تحقيق الأهداف المنشودة لهما رساليا واجتماعيا .. وهنا أرغب في الإشارة إلى نقطتين هما :
النقطة الأولى : بين أفراد المجتمع ومؤسسات الدولة تكامل وحاجات متبادلة ، ولهم حقوق وعليهم واجبات لا يجوز الإخلال بها . وأن العلاقات بين أفراد المجتمع وبين الحاكم والمحكوم ، يجب أن تقوم على أساس المودة والرحمة والرضا ، والتفاهم والتعاون والتضامن من أجل العيش الكريم والمصالح المشتركة ، وليس على أساس الصراع وتجاوز الحقوق والواجبات والسعي لفرض الهيمنة بالقوة .. وما لم يتم الالتزام بذلك : فإن البديل هو الاضطراب والإخلال بالأمن وعدم الاستقرار ، والفشل في البناء والتعمير والتقدم بالمجتمع والدولة .
النقطة الثانية : لا يمكن أن تتوفر تلك الأجواء الصحية في المجتمع والدولة ما لم تتوفر في داخل الأسرة . لأن الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع ، وأن الثقافة والتربية والأوضاع الأسرية تنعكس بصورة مباشرة : سلبا وإيجابا على ثقافة وأوضاع المجتمع ككل . وبمناسبة الاحتفال بالمولد السعيد لمنقذ البشرية الحجة بن الحسن العسكري ( أرواحنا لتراب مقدمه الفداء ) سوف أسعى للربط بين الموضوعين .
أيها الأحبة الأعزاء : هناك شروط لظهور القائم المنتظر ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) منها الشروط الثلاثة التالية :
الشرط الأول ـ توفر الجيش المقاتل الذي به يحرر العالم : وهذه مسؤولية الدولة الإسلامية والحركات الإسلامية الجهادية المقاتلة .
الشرط الثاني ـ توفر الجهاز الإداري الذي به يدير ويحكم دولة العدل الإلهي العالمية : وهذه مسؤولية الحوزات والجامعات وسائر المؤسسات التعليمية ومؤسسات التدريب والتأهيل .
الشرط الثالث ـ توفر البيئة الاجتماعية الحاضنة : وهذه مسؤولية المؤمنين جميعا ، وفيها يأتي الحديث عن دور الأسرة المؤمنة ، التي تحرص على أن تكون أسرة منتظرة بكل معنى الكلمة ، فتتحمل مسؤولية تعريف أبنائها بالإمام المهدي المنتظر ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) وبرسالته وقضيته التي ادخره الله ( جل جلاله ) من أجلها وتثقفهم بثقافة الانتظار وتربيهم عليه .. مثال :
إذا تأخر الولد أو البنت في تأدية الصلاة .. يقال له : المنتظر للإمام المهدي لا يؤخر أداء الصلاة .
وإذا قصر الولد أو البنت في أداء الواجبات المدرسية .. يقال له : المنتظر للإمام المهدي يجب أن يمتلك كفاءة وقدرات عالية .
وإذا اعتدى الولد أو البنت على أحد إخوانه .. يقال له : المنتظر للإمام المهدي لا يعتدي على الآخرين ولا يظلمهم .
وإذا قصر أحد الزوجين أو الأولاد في مسؤولياته .. يقال له : المنتظر للإمام المهدي لا يخل بالتزاماته ولا يتخلف عن أداء واجباته .
وأيضا حث أفراد الأسرة على قراءة دعاء العهد صباح كل يوم ، ودعاء الندبة صباح كل جمعة ، والتشجيع على القراءة الجماعية للأدعية في داخل الأسرة بتأثر وخشوع وإجلال لصاحب العصر والزمان ( أرواحنا لتراب مقدمه الفداء ) والدعاء له والحج والطواف والزيارة نيابة عنه والتصدق بقصد سلامته . فإنه من خلال هذه الأعمال وغيرها من الأعمال المناسبة التي حث أهل البيت ( عليهم السلام ) شيعتهم على القيام بها في عصر الغيبة لتأدية حق إمامهم عليهم ، تخلق أواصر المحبة والعشق والتعلق والارتباط الروحي به ( عليه السلام ) وبهذا وأمثاله نستطيع أن نجعل أسرنا بحق وحقيقة من الأسر المنتظرة ، التي تشارك في خلق البيئة الاجتماعية المؤمنة الحاضنة لرسالة الإمام وقضيته ثم تقوم بنصرته فعلا حين ظهوره ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) .
وفي الختام : أيها الأحبة الأعزاء : أيها المؤمنون والمؤمنات . أسألكم وأطلب منكم بحق الله وبحق صاحب الذكرى عليكم ، أن تهتموا بأسركم ، وأن تحرصوا على استقرارها ، وإبعادها عن التشاجر والاضطراب والتشاحن ، وأن تحفظوا حقوق بعضكم البعض فيها ، وأن لا يرى أحدكم نفسه في قبال الأخر ، ولا تقصروا ولا تظلموا بعضكم بعضا ، وأن تحرصوا على إعطاء الثقافة الإسلامية النقية الأصيلة لأبنائكم ، وتربوهم التربية الإسلامية الصالحة ، ففي ذلك يتجلى الحب الحقيقي والإخلاص لهم ، وليس في إعطائهم أفضل الطعام والشراب والدلال ، ثم تسليمهم إلى النار ليكونوا من حطبها ووقودها المستعر ، مخالفين في ذلك وصية الله الرب الرحيم .. قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } فإنكم إذا التزمتم بما قلت لكم : تكونوا ـ إن شاء الله تعالى ـ على منهج الإمام الحجة ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) وتقدموا له أعظم هدية ، وتثلجوا صدره ، وتفرحوا قلبه ، وترضوه عنكم ، وتشاركوه في قضيته وتكونوا من المنتظرين والناصرين له بحق وحقيقة .
أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته