محنة الإمام الرضا (ع)

الموضوع : كلمة للأستاذ عبد الوهاب حسين .

المناسبة : مولد الإمام الرضا ( عليه السلام ) .

المكان : مأتم شيد الشهداء ـ قرية المعامير .

اليوم : مساء الجمعة ـ ليلة السبت .

بتاريخ : 11 / ذو القعدة / 1430هج .

الموافق : 30 / أكتوبر ـ تشرين الأول / 2009م .


أعوذ بالله السميع العليم، من شر نفسي الأمارة بالسوء، ومن شر الشيطان الرجيم .

بسم الله الرحمن الرحيم .

الحمد لله رب العالمين .

اللهم صل على محمد وآل محمد، وارحمنا بمحمد وآل محمد، وأهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد، واجمع بيننا وبين محمد وآل محمد، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة يا كريم .

اللهم معهم .. معهم لا مع أعدائهم .

السلام عليكم أيها الأحبة : أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله تعالى وبركاته . 

في البداية : أرفع أسمى التهاني والتبريكات إلى مقام إمامنا وسيدنا ومولانا وشفيع ذنوبنا في يوم القيامة الحجة بين الحسن العسكري ( أرواحنا لتراب مقدمه الفداء ) وإلى مقامات مراجع الأمة وفقهائها وعلمائها، وإلى كافة المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها، وإليكم أيها الأحبة، بمناسبة المولد السعيد لإمامنا الرضا ( عليه السلام ) .

الأهداف الاستراتيجية والتفصيلية لعمل الأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام ) ..
أيها الأحبة الأعزاء ..

الإمام الرضا ( عليه السلام ) هو الإمام الثامن من أئمة أهل البيت ( صلوات الله وسلامه عليهم جميعا ) وللأئمة جميعا هدف استراتيجي يعملون من أجل تحقيقه، وهذا الهدف هو نفسه الهدف الاستراتيجي لجميع الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) وهو إقامة دولة العدل الإلهي العالمية التي تتجسد فيها الخلافة الإلهية للإنسان في الأرض، قول الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } (البقرة : 30) والتي تتجلى في أحوالها وأوضاعها العامة صفات الله ذي الجلال والإكرام، مثل : الحياة الروحية العالية، والعلم، والرحمة، والقدرة، والحاكمية، وفرض السيطرة، وغيرها من صفات الجمال والجلال . 

وإلى جانب هذا الهدف الاستاراتيجي، هناك أهداف تفصيلية عمل الأئمة ( عليهم السلام ) من أجل تحقيقها، على الطريق إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي المذكر، وأهم هذه الأهداف التفصيلية، أربعة، وهي :

الهدف ( 1 ) : إثبات الحق الحصري لأهل البيت ( عليهم السلام ) في خلافتهم الشاملة الكاملة التامة للرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهذا يتطلب إثبات خطأ الرأي الآخر، لكي يسلّم المسلمون بإمامة أهل البيت ( عليهم السلام ) ويرجعوا إليهم في أمور الدين والدنيا، كما قال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” يا أيّها الناس !! قد تركت فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ” ( صحيح الترمذي . ج5 . ص621 ) .

الهدف ( 2 ) : التبليغ بعلوم أهل البيت ( عليهم السلام ) التي تمثل الإسلام المحمدي الصحيح، وتشمل : الرؤية الكونية والقيمية والتشريع ( الفقه ) وغيرها من العلوم . وهذا يتطلب النقد العلمي للأطروحات الأخرى في العقيدة والتشريع والأخلاق والسيرة وغيرها . 

الهدف ( 3 ) : بناء الكيان المجتمعي الذي يؤمن بإمامة أهل البيت ( عليهم السلام ) ويحمل علومهم ويسعى معهم بجد واجتهاد ويبذل النفس والنفيس في سبيل تحقيق أهدافهم الاستراتيجية والتفصيلية .
الهدف ( 4 ) : تشخيص القيادة الشرعية للأمة في عصر الغيبة الكبرى، المتمثلة في الفقهاء الجامعين للشرائط، لتواصل المسيرة على نفس النهج، وتتحمل مسؤولية الاعداد للظهور .

ثلاث ملاحظات مهمة:

وهنا تجدر الإشارة إلى ثلاث ملاحظات مهمة في عمل الأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام ) وهي :
الملاحظة ( 1 ) : أن عمل الأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام ) عمل تراكمي متصل، بمعنى : أن عمل كل إمام يتصل بعمل الأئمة الذين قبله، والأئمة الذين بعده، وتتراكم الانجازات في عمل الجميع على طريق تحقيق الأهداف الاستراتيجية والتفصيلية . 

فكل إمام على علم وبصيرة تامة ..

  • بالمسيرة العامة المتكاملة الحلقات لمجموع الأئمة ( عليهم السلام ) .
  • وبالانجازات والأهداف التي حققها الأئمة الذين سبقوه .
  • والأعمال والأهداف التي يجب أن ينجزها الأئمة الذين بعده .
  • والأعمال والأهداف التي يجب عليه إنجازها، في سبيل المحافظة على ما سبق انجازه، ومواصلة الطريق من حيث انتهى الذين قبله، والتمهيد للذين هم بعده .

الملاحظة ( 2 ) : أن الأئمة ( عليهم السلام ) قد اعتمدوا في جميع عملهم على قوة الحق الذي معهم وقوة الحجة والبرهان، إلا أن أعداءهم واجهوهم بقوة السلاح والعنف والإرهاب، فقتلوا من قتلوا، وسجنوا وعذبوا، ومارسوا النفي عن الوطن للأئمة وشيعتهم، ووطنوا الأجانب، فقد استخدم كل فريق السلاح الذي يناسبه ويعبر عن حقيقة نفسه وحقيقة أمره، إلا أن قوة الحق والحجة والبرهان، قد انتصرت في هذه المعركة على قوة السلاح والعنف والإرهاب . 

ولكي نعرف هذه الحقيقة الناصعة، علينا أن ننظر إلى التأريخ الطويل ونتفحصه جيدا .. 

  • فقد حارب النظام الأموي أهل البيت ( عليهم السلام ) بشتى وسائل وصنوف العنف والإرهاب المتاحة لديه في ذلك الوقت، إلا أن النظام الأموي ذهب وبقي أهل البيت ( عليهم السلام ) .
  • ثم جاء النظام العباسي، وقد فعل في أهل البيت ( عليهم السلام ) أسوء مما فعله النظام الأموي، إلا أن النظام العباسي ذهب وبقي أهل البيت ( عليهم السلام ) .
  • ثم جاء النظام العثماني، وقد فعل في أتباع مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) مثل ما فعله النظامان : الأموي والعباسي، إلا أن النظام العثماني ذهب وبقيت مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) .

وهكذا يكون دائما : يذهب كل نظام يعتمد في وجوده على الباطل وقوة السلاح والعنف والإرهاب، ويبقى الحق وأصحابه طال الزمن أم قصر .

الجدير بالذكر : أن رئيس الوزراء التركي الحالي : ( الطيب أردغان ) قد ذكر في خطاب له قبل زمن غير بعيد، وجوب الاعتذار لأهل البيت ( عليهم السلام ) عما لحق بهم من الظلم والأذى على أيدي المسلمين أنفسهم، وهذا خطاب جريئ وهو جدير بالاحترام والتقدير حقا .

الملاحظة ( 3 ) : أن كل إمام من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) قد واجهته محنة أو مجموعة من المحن العظيمة، التي كان عليه أن يواجهها ويبذل في مواجهتها النفس والنفيس في سبيل البقاء على الطريق الصحيح والصراط المستقيم، ومواصلة السير لتحقيق الأهداف المطلوبة .

محنة الإمام الرضا ( عليه السلام ) ..

وكانت المحنة العظيمة التي واجهت الإمام الرضا ( عليه السلام ) هي فرض ولاية العهد عليه ..
أنظروا أيها الأحبة : فرض ولاية العهد التي تجعل منه الرجل الثاني وصاحب النفوذ القوي في الدولة ـ لو أراد ذلك ـ هي محنة عظيمة، وليست مكسبا بالنسبة للإمام الرضا ( عليه السلام ) الذي ينظر بعين الله ذي الجلال والإكرام، وبعين الحق والعدل والفضيلة والجمال، وليس بعيون الدنيا والمكاسب الدنيوية .

وقد جاء فرض ولاية العهد من الخليفة المأمون على الإمام الرضا ( عليه السلام ) في ظل:

  • نتائج الصراع بين الأمين والمأمون على الخلافة، حيث التصدعات والانقسامات الخطيرة في النظام العباسي، التي تتطلب من المأمون معالجتها في سبيل المحافظة على وجوده على رأس السلطة، وعلى نظامه من الانهيار .
  • وجود التشيع كقوة عقائدية وسياسية معارضة للنظام، وكانت قوة فاعلة ومؤثرة على الساحة الإسلامية التي تمثل ساحة سلطة النظام العباسي كلها، وكانت مصدر قلق للنظام .
  • وجود الإمام الرضا ( عليه السلام ) كقائد عقائدي وسياسي رسالي قوي وفاعل وناجح، وهو قائد معارض للنظام، وكان وجوده مصدر قلق كبير للنظام .

وقد تصرف المأمون بدهاء حينما عرض ولاية العهد على الإمام الرضا ( عليه السلام ) وفرضها عليه حينما رفضها، وكانت للمأمون ثلاثة أهداف سياسية رئيسية من وراء ذلك، وهي :

  • دمج الإمام الرضا ( عليه السلام ) في النظام، وهذه وسيلة جهنمية لإحتوائه وفرض الرقابة على نشاطه . وهذا العمل يستهدف الإمام الرضا ( عليه السلام ) كقائد، والكيان العقائدي والسياسي الذي يقوده، فلا شك أن السيطرة على القائد، مدخل للسيطرة على الكيان الذي يقوده .
  • احتواء التشيع ودمجه في النظام، للقضاء على استقلاليته وعلى دوره المعارض للنظام .
  • تضليل الرأي العام، والإساءة إلى طهارة الإمام الرضا ( عليه السلام ) كقائد رسالي، وطهارة الكيان الذي يقوده، وهذه نتيجة طبيعة للدخول في أي نظام فاسد بدون حصانة كافية : فكرية وروحية وقانونية وسياسية وعملية .

مواجهة الإمام الرضا ( عليه السلام ) للمحنة

لم يجد الإمام الرضا ( عليه السلام ) مناصا من القبول بولاية العهد، فهو أفضل في الحسابات : الدينية والقيمية والسياسية، من تقديم نفسه لقمة سائغة وسهلة للمأمون، وقد شرط على المأمون أن يكون توليه للمنصب شكليا وليس حقيقيا أو فعليا، وقد قبل المأمون بالشرط، لأن فيه تحقيق الحد الأدنى من أهدافه، ويغنيه عن المواجهة مع الإمام الرضا ( عليه السلام ) وشيعته ومحبيه .

وفي ظل هذه المحنة : كيف تصرف الإمام الرضا ( عليه السلام ) ؟

الجواب : لقد حرص الإمام الرضا ( عليه السلام ) في مواجهة المحنة على أمور عديدة، وهي أمور واضحة لمن وقف على سيرة الإمام ( عليه السلام )، منها:

  • التأكيد على إمامته، وأنها امتداد لإمامة آبائه الطاهرين ( عليهم السلام ) وقد فرض القبول بذلك عمليا على المأمون ورجال السلطة والبلاط، وتعاطوا معه عمليا على هذا الأساس، حتى قال بعضهم بتشيع المأمون !!
  • واصل مسيرته العلمية في التبليغ بعلوم أهل البيت ( عليهم السلام ) وسعى لفضح اجندة النظام وخططه من خلال ممارسات ذكية وقوية في تحقيق أهدافها، مثل : الهيئة التي خرج بها إلى صلاة العيد، حتى أضطر المأمون إلى إرجاعه قبل أن يصل إلى الجامع .
  • حافظ على استقلالية التشيع وأصالته وصفاء مشاربه ـ كما فعل آبائه من قبل ـ ولم يسمح بذوبانه في النظام العباسي بأي شكل من الأشكال، مع المحافظة على سلامة الوجود الإسلامي العام .

وقد ضاق المأمون ذرعا بالإمام الرضا ( عليه السلام ) ولم يستطع عليه صبرا، فدس إليه السم، فقضى الإمام ( عليه السلام ) حياته ومضى شهيدا مظلوما وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها مع السعداء .

وفي الختام : هنا مسألة أرغب في طرحها باختصار، وأطلب من الجميع أن يفهموها فهما علميا لا غير، فالمناسبة جيدة لطرحها، وطرحها والتفكير فيها يمكن أن يفيدنا عمليا في عملنا الإسلامي والوطني، وهذا هو القصد .

أيها الأحبة الأعزاء : منصب ولاية العهد منصب مهم وحساس جدا في تحديد مستقبل النظام، ويجعل صاحبة في موقع نفوذ قوي ومؤثر جدا في الدولة ومصالح المواطنين .

والسؤال : لماذا لم يطبق الإمام الرضا ( عليه السلام ) قاعدة : ” دفع الضرر ” وقاعدة : ” تحصيل ما يمكن تحصيله ” وهما قاعدتان صحيحتان في نفسهما في القبول التام والفعلي بولاية العهد ؟

الجواب : لقد طبق الإمام الرضا ( عليه السلام ) ـ بحسب ما أفهم ـ قاعدة : ” دفع الضرر ” في القبول الشكلي الذي أكره عليه بولاية العهد، ولم يطبق أي من القاعدتين المذكورتين للقبول التام والفعلي بولاية العهد، وذلك : لأنه ليس كل قاعدة صحيحة في نفسها يصح تطبيقها في جميع الأحوال والأوضاع، فيجب البحث عن ملاءمة الأوضاع العامة لتطبيق القاعدة الصحيحة في نفسها أو عدم ملاءمتها، ليكون التطبيق صحيحا ويأتي بالنتائج المطلوبة، ولم تكن الأوضاع العامة في زمن الإمام الرضا ( عليه السلام ) ملائمة لتطبيق تلكين القاعدتين للقبول التام والفعلي بولاية العهد، ولهذا لم يطبقهما . 

وهكذا ينبغي أن يكون دائما : البحث عن ملائمة أو عدم ملاءمة تطبيق القواعد الصحيحة في نفسها في الأوضاع العامة، ليكون التطبيق صحيحا، ويأتي بالنتائج المطلوبة، ولا يكفي أن تكون القاعدة صحيحة في نفسها ليكون تطبقها صحيحا في جميع الأحوال والأوضاع .


أيها الأحبة الأعزاء

أكتفي بهذا المقدار

واعتذر لكم عن كل خطأ أو تقصير

واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم

واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .

صادر عن : إدارة موقع الأستاذ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى