لقاء الثلاثاء (77) | 7-2-2011
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
رؤية إسلامية حول الغربة والاغتراب
بدأ الأستاذ عبد الوهاب حسين حديثه الفكري في مجلسه لهذا الأسبوع حول الغربة والاغتراب، وقال: الغربة والاغتراب من المفاهيم الدقيقة التي استحوذت على اهتمام المفكِّرين بجميع مشاربهم الفكرية والدينية والسياسية ودرسوها بعمق وعناية فائقة، وأوصي بقراءة الموضوع في التغطية المكتوبة كاملاً وبشكل جيد، وعدم الاكتفاء بالذي يسمعوه الآن.
وقال: الغربة والاغتراب في اللغة بمعنى واحد، وتعني: الندرة، والاختفاء، والغموض، وعند أصحاب المعاني: كون الكلمة وحشية، أي: غامضة وغير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال.
وأغرب: جاء بشيء غريب، وسافر سفرًا بعيدًا، أي: صار غريبًا.
والغريب: المحتاج لأنّه بعيد عن مصادر الثروة، والمسافر لأنه لا يجد حوله من يؤنسه، والسجين لأنه في عزلة عن المجتمع، والأمر النادر لأنه مختلف، والشي الذي لا يكون في الوضع الطبيعي، والذي ليس من القوم أو البلد، والجمع: غرباء.
وتغرّب: نزح عن وطنه وذهب إلى بلاد الغربة، أو تزوّج من غير أقاربه.
والتغريب: النفي القسري من البلد، أو فرض العزلة الجسمية أو المعنوية على شخص.
وفي الاصطلاح: انفراد الإنسان بوصف يجعله مختلفًا عن أبناء قومه فيكون بينهم غريبًا، وانفصال الانسان وجدانيًا عن أشياء كان شديد التعلّق بها من قبل، ومخالفة المحيط الاجتماعي في الرؤية والمنهج والمواقف، وغيره.
وقال: هناك معاني اصطلاحية أخرى كثيرة في الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والاقتصاد والتصوّف والعرفان وبعضها أكثر أهميّة مما ذكرت، ولكنّي أعرضت عن ذكرها لتعقيدها وعدم مناسبتها للمقام عندنا في هذا المجلس، وسوف أذكر في ثنايا الحديث ما هو مأخوذ منها بشكل سلس وبعيد عن التعقيد.
وقال: تنقسم الغربة إلى قسمين.
- غربة حسية، مثل: السفر لطلب الرزق أو العلم أو السياحة ونحوها.
- غربة روحية أو معنوية، مثل: انفصال الإنسان عن فكر وقيم وأسلوب حياة ومنهج مجتمعه أو حزبه أو أسرته.
وقال: من الغربة الروحية غربة المؤمن في عالم الدنيا، فالمؤمن غريب فعلاً في عالم الدنيا حتى وإن كان له مُلك كملك نبي الله سليمان (عليه السلام) قول الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر” فالمؤمن في سفر روحي حقيقي ودائم في عالم الدنيا، لأنّه متعلّق فكريًا وقلبيًا وروحيًا بعالم النور والطهارة والمعرفة والملكوت والجبروت، وعاشق لذلك العالم، وهو في سفر دائم بعقله وقلبه وروحه إلى ذلك العالم وإن لم يغادر ولم يبرح مكانه، ويتطلّع إلى الاستقرار في الوطن الأبدي في عالم الآخرة.
يقال: إنّ أبو يزيد البسطامي خرج من بلده في طلب الحقيقة، فالتقى به رجل من الصلحاء، فسأله: يا أبا يزيد!! ما الذي أخرجك عن وطنك؟ فأجاب: طلب الحق، فقال له الرجل الصالح: إنّ الذي تطلبه قد تركته في بسطام (أي بلده) فتنبّه أبو يزيد ورجع إلى بلده.
وقال: يكون الإنسان غريبًا أيضًا حينما يكون ضائعًا تائهًا لا هدف له الحياة، لأنه لا يمتلك الشعور بالانتماء الحقيقي إلى أي شيء، ويفتقد الرؤية والمنهج والمعايير للتمييز بين السلوكيات والمواقف المختلفة ولضبطها، ويكون فاقدًا للبعد الوجداني والقيم والمبادئ، فلا يستطيع توجيه سلوكه ومواقفه بشكل واقعي وصحيح في الحياة.
وقال: فرق كبير جدًا بين الغربة الروحيّة التي يعيشها الإنسان المؤمن، وبين الغربة الروحيّة التي يعيشها الإنسان الضائع التائه في الحياة، حيث لا يعرف ماذا يفعل، ولا إلى أين يتوجّه، فهو تائه ضائع غريب بلا وطن ولا طمأنينة، أمّا المؤمن فوطنه الذي عشقه وأخلص إليه كل الإخلاص هو الحقيقة، وهو يعيش في طمأنينة وسكينة أينما حل أو رحل.
وقال: تنقسم الغربة الحسية إلى قسمين.
- غربة اختيارية وذلك حينما يسافر الإنسان باختياره لطلب الرزق أو العلم ونحوهما.
- وغربة قسرية وذلك بسبب التهجير القسري عن الوطن، أو لانقطاع سبيل العودة إلى الوطن لأي سبب خارج عن الإرادة، ونحوهما.
وقال: أشد أنواع الغربة هي الغربة التي تُفرض على الإنسان قسرًا.
وقال: الإنسان قد يكون غريبًا وهو في وطنه، وذلك في حالات، منها:
- السقوط في التبعية بحيث يكون أسير حضارة أجنبية غير حضارته، أو مقهورًا من قبل قوة استعمارية أجنبية أو من قبل سلطة طاغية مستبدة (حاكمة أو حزبية أو مجتمعية أو غيرها) تفقّده حريّته وتهضمه حقوقه، وتسحق إنسانيته وكرامته، وتحوّله إلى مجرد أداة تتحكّم في آرائه وسلوكه ومواقفه، فلا يمتلك القدرة أو الاستطاعة على التفاعل الحقيقي، وتكون تفاعلاته سطحيّة ومجرّدة من العمق الفكري والوجداني، والسبيل إلى النجاة والخلاص في هذه الحالة هي الثورة.
- وحينما يكون مظلومًا أو متّهمًا بدون حق، ويكون مطاردًا بالفتاوى الباطلة وبالقوانين الجائرة، وتتعرّض سمعته للتشكيك والتشويه والإساءة، ويُمارس الطعن في نزاهته، وذلك بهدف الضغط عليه من أجل أن يتنازل عن آرائه ومواقفه، أو إسقاطه وفرض الحصار والإقصاء عليه، ولا ناصر له ولا معين إلا الله عز وجل، والسبيل إلى النجاة والخلاص في هذه الحالة هو الصبر والمقاومة والتوكّل على الله العزيز الحكيم والتعلّق باللطف الإلهي والرحمة الربانية.
- وحينما يحمل فكرًا ومنهجًا وموقفًا مغايرًا لأبناء قومه، فيكون هو في وادٍ وقومُه في وادٍ آخر، ويحاول أن يشرح ويبيّن لأبناء قومه عدالة قضيته وعذره فيما اختاره لنفسه ولكنّهم لا يستمعون لما يقول ولا يفهمونه، وأبرز المصاديق لهذا المعنى وأصدقها الإمام الحسين (عليه السلام) وذلك حين بيّن مكانته في الإسلام، وعدالة قضيته، ودواعي موقفه، وطلب من المعسكر اليزيدي التفكّر والتأمّل، فيجيبه الشمر بن ذي الجوشن: “يا بن فاطمة إنّا لا نفهم ما تقول” والسبيل إلى النجاة والخلاص في هذه الحالة هو الإصرار على الحق والصواب والتضحية حتى الشهادة في سبيل الله عزول والعزة والكرامة والحياة الطيبة مع أولياء الله الصالحين كما فعل الإمام الحسين (عليه السلام) أو الهجرة والبحث عن وضع جديد من أجل الوصول إلى المقصود (الغايات والأهداف) كما فعل الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
- وحينما يكون عبدًا مملوكًا (رقيقًا) لأنّه لا يملك نفسه ولا حريته.
- وحينما يفتقد الرؤية والمنهج والمعايير للتمييز بين السلوكيات والمواقف المختلفة ولضبطها، فلا يستطيع توجيه سلوكه ومواقفه بشكل واقعي وصحيح في الحياة، والسبيل إلى النجاة والخلاص في هذه الحالة هو التعلّم والحرص على الاستقامة والاستقلالية في التفكير وتقرير المصير واتّباع أحسن القول، قول الله تعالى: )الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(([1]).
وقال: أغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه، لاسيما إذا اجتمعت عليه أشكال عديدة من الغربة التي سبق ذكرها ونحوها.
وقال: تحدّث الرسول الأعظم الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن غربة الدين، فقال: “بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء”([2]).
وقال: ذكر العلماء معاني عديدة لغربة الدين، منها:
- سوء الفهم للدين.
- التنازل عن الدين من أجل المنافع الدنيوية.
- ظهور البدع وضياع قيم الدين الحنيف وأحكامه.
- قلِّة الصالحين وكثرة المعاندين والفاسدين.
- أن يُكرم المفسدون ويُهان الصالحون.
- ونحو ذلك.
وقال: لقد بدأ الإسلام غريبًا في أطروحاته، ولم يؤمن به إلا القليل من الناس في مكّة المكرّمة، وتعرّض الرسول الأعظم الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى السخرية والإساءة والاستهزاء ولاقى الكثير من الأذى من المشركين، ثم أظهره الله عزّ وجل بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، ثمّ حدث الارتداد عن الدين بعد وفاته، قول الله تعالى: )وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ(([3]) وتمادى المرتدون وكثرت ظواهر الارتداد، فاستولى السلاطين على الحكم، وظهر وعّاظ السلاطين والفقهاء الجبناء، فظهرت المفاهيم الباطلة والفتاوى المنحرفة عن الدين، وساء الفهم للدين القيم، وظهرت البدع، وضاعت مفاهيم الدين الحنيف وقيمه ومعاييره وأحكامه الحقيقية، وسلّمت الأمّة رقابها وأزمّة أمورها للسلاطين الفاسدين ووعّاظ السلاطين والفقهاء الجبناء، وألِفت المجتمعات الإسلامية البدع والفهم السيء للدين، وأصبحت المفاهيم والقيم والمعايير والأحكام الحقيقية للدين غريبة وغير مقبولة لدى غالبية المسلمين، فأصبح المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، ويكرم فيها المفسدون، ويهان الصالحون، ونحو ذلك!!
وقال: يصبح القلّة من الصالحين وأصحاب منطق الخير والصواب الذين يستقيمون على الحق في حال الفساد والتباس الأمور على عامّة الناس هم الغرباء، ويصبح الفاسدون والمنتفعون هم أصحاب الدار والوطن، وفي هذه الحالة يجب على الغرباء أن يعتزّوا بغربتهم، فهم الصفوة والأمل والبؤر الصلبة وأركان التغيير والإصلاح في المجتمعات، وعليهم أن يصبروا علمًا يلاقوه من الأذى، وما يعترض طريقهم من التحديات والصعوبات، ويحتسبوا إلى الله عزّ وجل، ويتوكّلوا عليه، ويضحّوا في سبيله وفي سبيل العزّة والكرامة والحياة الطيّبة حتى الشهادة، ولا يهنوا ولا يحزنوا ولا يضعفوا، فإنّ الله تبارك وتعالى مؤيّدَهم وناصرَهم، وسوف يضاعف لهم الأجر والثواب، وهم السعداء والفائزون في الدنيا والآخرة.
وقال: المؤمن الصادق في إيمانه يدور في مواقفه وعلاقاته مدار الحقيقة التي عشقها وأخلص إليها، ومدار العدالة التي تمثل قضيّته الأم، وتمثِّل جوهر وجوده في الحياة، ولا يقدِّم عليهما أيَّ شيء.
وقال: سوف أنتقل من هذه النقطة للحديث عن الهجرة التي تلتقي مع الغربة في المعنى، ولكن أُبقي على عنوان الهجرة في سبيل سهولة الفهم.
وقال: الهجرة موضوع في غاية الأهمية من الناحية الروحية والعملية.
وقال: أيهما أفضل: المعاشرة والبقاء مع القوم أم الانزواء والغربة عنهم (الهجرة)؟
وأجاب: في الأصل يجب أن يكون الإنسان في حالة ألفة ومعاشرة مع قومه وجماعته، وعلى هذا يتوقف النضج العقلي والنفسي للإنسان، وتكامله الروحي والمعنوي، والسير في طريق الرقي الحضاري، وتوفير أسباب القوّة والمنعة والنجاح، حيث يتبادل أبناء المجتمع المعارف والخبرات والخدمات بينهم، وهو السبيل إلى وصول الإنسان إلى السعادة في الدنيا والآخرة، وهذه هي (المعاشرة البنّاءة) وإليها دعا القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، قول الله تعالى: )وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(([4]) وقول الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “أيها الناس!! عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة”([5]) وقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): “الزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما ان الشاذ من الغنم للذئب”([6]).
وقال: أساس الاجتماع والمودّة بين الناس في المجتمعات ليست الأمور المادية، لأّن المادة فقيرة إلى المعاني والمبادئ والقيم السامية، والحرص على الأمور المادية ينبع من شهوات النفس، وهي في الحقيقة سببٌ للتنازع والاختلاف والفرقة بين الناس وليس الاجتماع والمودّة بينهم، والسبيل الوحيد لتحّقق الاجتماع والمودة على أكمل وجه، هو:
- أن يقوم الاجتماع على أساس عقيدة التوحيد والمحبة في الله تبارك وتعالى، قول الله تعالى: )وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ` وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(([7]).
- الطاعة لله ذي الجلال والإكرام والالتزام المطلق بالشريعة.
- وجود قيادة حكيمة تمسك بأزمة الأمور وتدير شؤون المجتمع بكل ثقة وحزم ومحبة.
- تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
- الأخذ بمبدأ الشورى (المشاركة الشعبية في صناعة القرار) وتجنّب الاستبداد بالرأي.
وقال: الاتّحاد والألفة هما السبيل إلى القوة والنجاح في تحقيق الأهداف، قول الله تعالى: )وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(([8]) وينبغي على الإنسان الصبر والتحمّل في سبيل البقاء في صفوف الجماعة والقيام بالإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهو خير له من الانزواء أو المخالفة ما دام هناك أمل في الإصلاح وتحسين الأوضاع، قول الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “لصبر أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته خاليًا أربعين سنة”([9]).
وقال: ولكن حينما يستحكم الانحراف أو الفساد أو الفوضى ويكون البقاء سببًا إلى الضياع أو الذوبان، أو يستحكم الاستبداد بالرأي، وتنقطع سبل الإصلاح، وتفرض على الإنسان التبعية، ويصبح مجرّد أداة لتحقيق إرادة الآخرين، وتتعرّض المواقف والخيارات إلى الاهتزاز والتشويه والارتباك، وتشوِّش الرؤية على أبناء الشعب أو الأمّة، فلا يستطيعون رؤية الصواب في المنهج والخيارات والمواقف (المعاشرة الهدامة) ففي هذه الحالة يكون الفرار والتغرّب بالهجرة أو الشهادة أو تغيير الموقع هو:
- السبيل إلى النجاة والخلاص، كما يفرُّ الإنسان العاقل من الأماكن التي تنتشر فيها الأوبئة والأمراض المعدية.
- والسبيل إلى الإصلاح من خلال إيجاد مواقع جديدة ينطلق منها إلى المقصود (الغايات والأهداف) وبدون الهجرة أو الشهادة أو تغيير الموقع تنعدم فرصة الإصلاح.
وقال: تُعتبر الهجرة من الأصول الأساسية التي قرّرها الدين الإسلامي الحنيف للإنسان في مثل هذه الحالات، فتصبح كل بلاد الله ذي الجلال والإكرام أوطان، ويكون وطن الهجرة أفضل من وطن الولادة، وذلك من أجل:
- الفرار بالدين والقيم والمبادئ من المحيط الملوث أو من الاستبداد وقمع الحريات.
- وسلامة النفس ونجاتها وتهذيبها وتكميلها.
- والإصلاح في المجتمع وتمكين الحق والعدل والخير والفضيلة على الأرض.
- وحفظ حقوق الناس الطبيعية، وحرياتهم المشروعة، ومصالحهم الحيوية.
قول الله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(([10]) وقول الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرًا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإبراهيم (عليه السلام)”([11]) وهذا يدلُّ على إنّ الهجرة والغربة في مثل الحالة المذكورة يأتي متوافقا في الروحية والمنهج مع كان عليهما خاتم الأنبياء والرسل الحبيب محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخليل الرحمن إبراهيم (عليه السلام) ثمّ قول أمير المؤمنين (عليه السلام): “سلامة الدين في اعتزال الناس” وقوله (عليه السلام): “اعتزال أبناء الدنيا جماع الصلاح”([12]) والمراد منها في الحالات والأوضاع غير الصحيّة، والعجز عن التصحيح، سُئل الإمام الصادق (عليه السلام): اعتزلت الناس؟! فقال: “فسد الزمان، وتغيَّر الأخوان، فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد”([13]).
وقال: قد يكون خيار الفرار والغربة من خلال الشهادة في سبيل الله عزّ وجل والعزّة والكرامة والحياة الطيبة مع أولياء الله الصالحين كما فعل الإمام الحسين (عليه السلام) ويفعله الكثير من الأولياء والصالحين، ومن يفعل ذلك يقع أجره على الله الغني الحميد، ولا يعلم ثوابه ومكانته إلا الله تبارك وتعالى.
وقال: في الشهادة تتجسّد غاية الصدق والإخلاص والبر، قول الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): “فوق ذي كل بِرّ بِرّ حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله، فليس فوقه بِرّ”([14]).
وقال: المحيط الفاسد يُضعف التعقّل وتأثير الإرشادات والتوجيهات السديدة والصادقة، فيجب السعي لإصلاح المحيط وخلق الأجواء الصحية المناسبة في سبيل صفاء العقل وجودة التفكير، والاستفادة من الارشادات والتوجيهات السديدة، وتهذيب النفس وإصلاحها وتكميلها، ومع العجز عن إصلاح المحيط، يجب الفرار بالنفس في سبيل نجاتها وخلاصها من الهلاك، ويجب الحذر:
- من الاستسلام لعناصر التلوّث والقبول بمصادرة الحرية.
- ومن التبريرات الوهمية والتذرّع بالحجج الواهية في سبيل البقاء ضمن المحيط الفاسد، فإنّ سلامة الروح والدين، أهم بكثير من سلامة البدن وحفظ المصالح الدنيوية.
وقال: إنّ المحيط الذي يعيش فيه الإنسان عامل مهم في تكوين شخصيته، والتأثير على عقله وروحيّته وقراراته ومواقفه وتوجيه سلوكه نحو الخير أو الشر:
- فالمحيط السليم والصالح، يساهم في تطهير النفس، وتهذيب الأخلاق، وتربية الملكات الفاضلة، ويفرز أناسًا صالحين وفاعلين في المجتمع.
- والمحيط السقيم الفاسد الملوَّث يضغط على العقل والروح، ويلوِّث النفس، ويفسد الأخلاق، ويقتل الملكات الروحية، ويمنع المواهب والألطاف الإلهية، ويفرز أناسًا سيئين ومفسدين أو سلبيين في المجتمع، قول الله تعالى: )وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ(([15]).
وقال: طلب الفضائل والارتقاء في معارج المعرفة والكمال وطلب الإصلاح في المجتمع لا يكون إلا في المكان المناسب وبالأدوات المناسبة ومع الناس المناسبين، والسعي إلى تحصيلها في المكان غير المناسب وبالأدوات غير المناسبة ومع الناس غير المناسبين، هو بمثابة العبث وإهدار للوقت والطاقات والجهود بغير فائدة، قول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ(([16]).
وقال: تكون الهجرة في الحالة المذكورة، واختيار طريق ذات الشوكة والشهادة في سبيل الله عز وجل والعزة والكرامة والحياة الطيبة مع أولياء الله الصالحين، دليل على:
- صدق الإيمان وقوة اليقين.
- سلامة الفطرة وحسن العقل.
- الروح المعنوية العالية.
- قوة العزم والإرادة.
- التحلّي بالصفات الحميدة، مثل: الشهامة والشجاعة والعفة والحزم والعزم والجزم.
- الزهد في الحياة الدنيا ومتاعها وزينتها وزخارفها.
- الرغبة الجديّة في الله ذي الجلال والإكرام والإصلاح، والوصول إلى سبل السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.
قول الإمام الكاظم (عليه السلام): “الصبر على الوحدة علامة على قوّة العقل، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان أنيسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومعزه من غير عشيرة”([17]).
وقال: وفي المقابل يكون البقاء والقبول بالأمر الواقع والاستسلام إليه دليل على:
- البلادة والتكلّس.
- وضعف الإرادة واليقين.
- وحب الدنيا.
- والانحطاط الروحي والفكري والأخلاقي.
- وسببًا لانعدام فرص الإصلاح في الأنفس والمجتمعات.
وقال: يكون الإنسان لو كان وحيدًا حينما يختار الغربة والسير في طريق ذات الشوكة بمثابة الأمّة في واحد، قول الله تعالى: )إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلهِ حَنِيفًا وَلَمْ يكح مِنَ الْمُشْرِكِينَ(([18]) وتكون الهجرة أو الغربة في مثل هذه الحالة سبيلاً إلى:
- النجاة والرحمة والصلاح في الدين.
- والقرب من العلي العلى.
- والحصول على الكرامات والبركات المعنوية والألطاف الإلهية العظيمة.
- والوصول إلى المراتب المعنوية والكمالات الإنسانية العليا في طريق السلوك والمعرفة.
- وفتح أبواب الفرج والخروج من جميع المآزق مهما كانت صعبة ومحكمة، قول الله تعالى: )وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ` وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(([19]).
- وإصلاح أحوال الإنسان وإلباسه لباس العافية.
- والزيادة عليه من الخيرات والبركات في الدنيا.
قول الله تعالى: )وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا(([20]) وقول الله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا ` فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا(([21]).
وقال: أصحاب الكهف: فتية (شباب أقوياء) من المؤمنين، كانوا يتمتّعون بسلامة الفطرة، ورجاحة العقل، والصدق واليقين في الإيمان، وقوّة الإرادة والتصميم، والزهد في نعيم الدنيا وزخارفها، والعشق للمعبود الأعظم ذي الجلال والإكرام ـ وهذه فصيلة نادرة في البشر ـ وكانوا يعيشون في رغد من العيش، حيث كانوا من الوزراء في الدولة، وكانت لهم صلاحيات ضخمة في السلطة، ولكن في مجتمع منحرف وفاسد ومعاند، فرفضوا الذوبان في ذلك المجتمع الفاسد، ورفضوا الانصياع للسلطة المنحرفة، ولم يقبلوا بالأمر الواقع ولم يستسلموا له (الانعزال الفكري والروحي) وأعلنوا المقاومة، واختاروا طريق ذات الشوكة والحياة الخشنة التي يشعرون فيها بكرامتهم وإنسانيتهم وحريتهم الحقيقية بديلاً عن الشهوات والحياة الملوثة التي كانت تمثِّل سجنًا ضيّقًا كالقبر لأرواحهم، كما قال الله تعالى على لسان يوسف الصديق (عليه السلام): )قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ(([22]) فتعرّضوا للسخط والنقمة من السلطة ومن أعوانها والمسايرين لها، فصمدوا وواجهوا الصعوبات والتحدِّيات بكل أمل وصبر وعزيمة وحماسة ولم يتزلزلوا، ولم يهنوا ولم يحزنوا ولم يبالوا بما سيحدث لهم وما سيصيبهم في سبيل الله عز وجل والعزّة والكرامة والحياة الطيبة مع أولياء الله الصالحين، وتوكّلوا على الله العزيز الحكيم، ورضوا بما اختاره لهم، وقرّروا الهجرة من الوطن، والعيش في الحرمان المادي والمكان الضيق (الاعتزال الجسمي في الكهف) وذلك بعد أن فقدوا الأمل في إصلاح قومهم أو التمتّع بحقِّهم في العقيدة وإبداء الرأي، مما جعل من الاعتزال:
- ضرورة وقائية: روحيّة وعمليّة.
- والسعي لموقع آخر أفضل يُسمح لهم بحفظ النفس وتكميلها، وإعطاء فرصة لإحداث الإصلاح المرجو في المجتمع، وتمكين الحق والعدل على الأرض.
فكان قرار الهجرة والغربة سبيلاً لهم من أجل النجاة والخلاص، وليستريحوا في أمن الله وأمانه الروحي والمعنوي.
وقال: لمّا علم الله الرؤوف الرحيم من الفتية الصدق في الدين والإخلاص في النية، ثبّتهم وربط على قلوبهم وزادهم هدى وبصيرة في الدين وفي أمرهم وأمر مجتمعهم.
وقال: إبراهيم الخليل (عليه السلام) قد رفض الانحراف الذي كان عليه قومه (الاعتزال الفكري والروحي والقيمي) وأعلن المقاومة السلمية، وقابل ما أطلقوه في وجهه من تهديد ووعيد وما مارسوه ضده من خشونة وأشكال التضييق والاقصاء والتحقير والاتهام بالباطل وتشويه السمعة بالحسنى، ولمّا علم منهم التكبّر والعناد وعدم تقبّلهم للحق والنصح، وأدرك من حالهم استحالة التغيير فيهم، هاجر عنهم (الاعزال الجسمي) وتركهم إلى قدرهم، وذلك من أجل صيانة نفسه ودينه، والبحث عن موقع جديد لإحداث الإصلاح المطلوب، فوهبه الله الغني الحميد بسبب صدقه وإخلاصه ورفضه للباطل والفساد واستقامته على الحق وسعيه في سبيل الإصلاح وصبره على الأذى واحتسابه إلى الله العزيز الحكيم إسماعيل وإسحاق وعوضه بالذكر الحسن بين الناس إلى يوم القيامة وغير ذلك من الخيرات والبركات والإفاضات المادية والمعنوية .
وقال: هذا يدلُّ على أمور في غاية الأهمية، منها:
- إنّ الحق هو الوطن الأصلي الحقيقي الذي يعشقه الصلحاء ويأنسون به، وإنّ الغربة الروحية هي قدرهم المفروض عليهم في الحياة.
- إنّ الوطن المادي لا قيمة له في مقابل الوطن الروحي الذي تسكنه أرواح الصلحاء العاشقين الذين يتصفون بالطهارة الروحية والصدق والإخلاص والنزاهة.
- إنّ الأحوال والأوضاع المنحرفة والفاسدة هي في الحقيقة حجب عن الحق والحقيقة والصواب، وعن رؤية النور المعنوي، وأنّها تحيل بين الإنسان وبين الوصول إلى السعادة والنجاة.
- إنّ طريق الحق هو طريق ذات الشوكة، وهو طريق مليء بالصعوبات والتحديات، ويصعب على الإنسان أن يجتاز هذا الطريق بسلام ويصل إلى أهدافه بدون لطف الله تبارك وتعالى وعونه وتسديده، وإنّ سلوك هذا الطريق هو علامة على الصدق والسبيل لنيل المقصود.
- إنّ الله العزيز الحكيم إذا علم من عبده الصدق والإخلاص، فإنه لا يخذله ولا يتركه وحيدًا في المعركة، فيمدّه بالعون، ويسدّده، وينصره، ويقع أجره عليه، ويعوضه عن كل ما يفقده، قول الله تعالى: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(([23]).
- إنّ القرابة والصداقة ونحوهما لا تُقدَّم على الدين والحق والعدل والمصالح الحيوية والجوهريّة العامة للناس.
- وجود عالم من النور والطهارة والصفاء هو عالم الجبروت والملكوت، فيه الرحمة والرفق واللطف بالصالحين والاطمئنان والألطاف الإلهية العظيمة، وهو عالم يعوِّض ساكنيه بأرواحهم عن الضيق والشدّة في عالم المادة، وهو عالم لا يعرفه إلا الصلحاء من أهل الإيمان واليقين.
- المؤمن لا يعتز بالأكثرية في نفسها، ولا يعتبر لها حجيّة في تشخيص الحق والصواب في الأمور، وإنّما يعتزُّ بالحق والصواب في نفسيهما، ويسعى إليهما بصدق وإخلاص، ويجعل الدليل والبرهان هو الطريق إليهما.
وقال: ثواب الشهادة وبركاتها أعظم من ثواب وبركات الهجرة من الوطن، ومكانة الشهيد فوق مكانة المهاجر.
وقال: كن أيها العزيز قويًّا في ذات الله عز وجل والحق، ولا تستوحش طريق الحق لقلِّة سالكيه، ولا يضيق صدرك بما تلاقيه من حصار وتضييق وتشويه سمعة وطعن في النزاهة ونحوها، ولا تضعف ولا تستسلم ولا تقبل بالأمر الواقع، وتعلّق باللطف الإلهي لطلب الحقيقة والصواب وسبيلاً للنجاة والخلاص، واتّخذ من إبراهيم الخليل وسيد الشهداء (عليهما السلام) قدوة حسنة في الصبر والتحمل والتضحية والتوكّل على الله العزيز الحميد، وحاول أن تُسقِط الوضع الخاطئ، وابحث عن الفرص لفرض واقع جديد أفضل.
وقال: المفسدون والحاقدون على أولياء الله الصالحين يريدون القضاء على وجودهم، ويسعون لمحو ذكرهم الحسن من الأذهان بتشويه السمعة والطعن في النزاهة ونحوهما، ولكنهم في الحقيقة يؤسسون إلى رفعتهم وعلو منزلتهم ورسوخهم في عالم الذكر الجميل والتمكين لهم في الحياة من حيث لا يشعرون.
وقال: المؤمن يقابل السيئة بالحسنة، لأنّه يحمل الرحمة في قلبه للآخرين، فيعفوا عنهم ويصفح عن إساءاتهم إليه، ولكن هذا لا يعني السكوت عن الحق والتوقّف عن كشف الزيف والمؤامرات التي تُحاك ضد المؤمنين والأبرياء ولسلب حقوق الناس وتضييع مصالحهم الحيوية والجوهرية في الحياة، بل هذا في الحقيقة من مقتضى الرحمة ولوازمها، والبليد هو الذي لا يميّز بين الأمرَّين أو الحالتين.
وقال: كل من يكون صادقًا في دينه، مخلصًا لله جلَّ جلاله في نيّة عمله، فإنّ الله جلَّ جلاله يكون معه ويشمله بلطفه ورحمته جزاء صدقه وإخلاصه، لأنّه الرب الرؤوف الرحيم، فلا يَحجِب رحمته عن السالكين له بقدم الصدق، الراجين فضله وإحسانه.
وقال: من كان الله عزّ وجل معه فإنّه يسدِّد خُطاه ويؤيّدَه وينصرُه لا محالة ولو اجتمع عليه سكان الأرض جميعًا، وما ترك أحد شيئًا من زخارف الدنيا وزينتها من أجل الله الغني الحميد واستصلاح نفسه ودينه إلا عوّضه الله الرؤوف الحكيم بما هو خير منه.
وقال: الإنسان اجتماعي بالطبع، ويميل بطبعه للحياة الاجتماعية ومسايرة المجتمع ومشاركته، فالأصل هو الألفة مع القوم أو الجماعة، والهجرة أو الغربة (الحسيّة والمعنويّة) المأمور بها عقلاً وشرعًا حالة استثنائية وضمن شروط معينة.
وقال: العزلة عن المجتمع والجماعة في الحالات الطبيعية شذوذ، وتدل على اليأس، وتؤدّي إلى الكآبة وسوء الظن بالآخرين، والاستغراق في الخيال وخلق التصورات الوهمية والمرضية البعيدة عن الواقع، وتؤدّي إلى الكثير من المفاسد والانحرافات الروحيّة والنفسيّة والذوقيّة والفكريّة وسوء الخلق، وتضيع المعايير السليمة في التعاطي مع الآخرين ومع قضايا الحياة، وقد تؤدّي إلى الاختلالات العقلية (الجنون) ولهذا فمن أشد أنواع التعذيب النفسي هو السجن الانفرادي لفترة زمنية طويلة، ولا يقدر على تحمل السجن الانفرادي لفترات طويلة إلا القليل من الناس، والصبر على السجن الانفرادي لفترات طويلة، والخروج منه بسلام، دليل على:
- قوة العقل والإرادة.
- وجود حالة عرفانية راقية، حيث يأنس العبد بالله ذي الجلال والإكرام، وينقطع عن كل شيء.
- وعظمة الشخصية وتفوّقها.
وقال: الصبر على المحن الشديدة يصنع أناسًا (رجالاً ونساء) أشدّاء يُعتمد عليهم، ويمثِّلون بؤرًا صلبة وأركانًا أساسية في حركة الإصلاح والمطالبة بالحقوق، فيجب تسليم أزمِّة الأمور لهؤلاء الأشدّاء في ذات الله عز وجل والحق، والحذر من تسليمها لأشخاص ضعفاء أو لأشخاص لم يجربوا.
وقال: الغربة من أجل النجاة قد تأخذ شكلاً آخر، وذلك حينما يشتهر إنسان بالقداسة، أو يُحمل من المسؤولية ما لا يطيق، فيفر بدينه خوفًا من الشهرة والرياء والسمعة المهلكة روحيًّا، وخوفًا من أن يوقع الناس في الشدّة أو فيما لا مصلحة لهم فيه أو فيما يضرهم في أمور دينهم ودنياهم.
وقال: لقد سعى الكثير من العظماء في التاريخ ـ من الأنبياء (عليه السلام) والأولياء والمصلحون ـ إلى إظهار الغربة المعنوية (إظهار الاختلاف في المناهج والخيارات والمواقف مع أبناء قومهم) وإلى الهجرة الجسمية، وتحمّلوا ألم فراق الأوطان والأذى من الفاسدين والغوغاء في سبيل الإصلاح، وجعلوا الهجرة الجسمية وإظهار الغربة المعنويّة بمثابة الصدمة التي تعمل على إيقاظ أصحاب الضمائر من أبناء قومهم من غفلتهم، وتنبيههم إلى الأخطاء التي وقعوا فيها، والأخطار المحدقة بهم، وهو أيضًا بمثابة الابتلاء والاختبار لأبناء قومهم وإقامة الحجّة عليهم، وقد نجح هذا الأسلوب في حالات كثيرة، منها قوم يونس، حيث خرج نبيهم (عليه السلام) من صفوفهم، فأدركوا خطأهم والخطر المحدق بهم، فثابوا إلى رشدهم وتابوا وتضرّعوا إلى الله جلَّ جلاله، فكُشف عنهم العذاب، قول الله تعالى: )فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(([24]).
وقال: تحقّق النتيجة الحميدة لصدمة هجرة الأولياء والصالحين ـ الحسيّة والمعنويّة ـ من مجتمعاتهم أو جماعاتهم يحتاج إلى شروط، منها: توفُّر مقدار من الوعي، ومحاسبة النفس، ومقدار من الاستقلاليّة في التفكير وتقدير الأمور لدى أبناء المجتمع أو الجماعة، بحيث لا يكونوا قد رهنوا أنفسهم بالكامل للغير بحيث يتحكّموا في قراراتهم ومصائرهم، ومثل هذا الارتهان في الوقت الذي يهدر كرامة الإنسان ويُلغي عقله، فإنّه يهدِّد بشكل جدي مصالحه الحيوية في الدنيا، ومصيره الوجودي في الآخرة، وهو غريب جدًا عن الوعي الإنساني، وعن عقيدة التوحيد العظيمة.
وقال: هناك هجرة قسريّة أو غربة ينتقل فيها الإنسان من وطن إلى وطن بدون اختياره حتى يستقرّ به المقام في الوطن الأبدي، وهي:
- الغربة عن وطن الرحم بالولادة.
- والغربة عن وطن الدنيا بالموت.
- والغربة عن وطن البرزخ بالبعث.
ليستقر المقام بالإنسان في آخر الأوطان: الجنّة وهي الوطن الأبدي للسعداء، أو النار وهي الوطن الأبدي للأشقياء.
وقال: ينبغي التنبيه إلى إنّ البعض يدخل النار إلى بعض الوقت، ثمّ يخرجه الله الرؤوف الرحيم منها ويُدخله الجنّة.
يوم الغضب الوطني
وبخصوص يوم الغضب الوطني، قال: يوم الغضب بدأ منذ لحظة الإعلان عنه، حيث تمّ تناقل الخبر في الداخل والخارج، والتفاعل معه، والحديث عنه، والنقاش حوله في المجالس والأسواق والمنتديات الإلكترونية، وغيرها، وتمّ التحشيد له بأساليب شتّى، والتنظير لإدارته، والتفكير في سبل نجاحه، ونحوه، مما أوجد حالة شعبيّة: (سياسية ووجدانية) جديدة، فما بعد الإعلان عن يوم الغصب يختلف كثيرًا عمّا كان قبله.
وقال: الإرهاصات شديدة، والمؤشِّرات تدلُّ على وجود قلق شديد لدى السلطة ولدى أطراف أخرى معنيّة في الداخل والخارج، ومن حقِّها أن تقلق لأنّ مقومات الجديّة ليوم الغضب قائمة بالفعل، والتطمينات التي قدّمها البعض لا تعني شيئًا على أرض الواقع، فقد تجاوزها القدر المقدّر.
وقال: أدعو أبناء جميع القرى والأحياء لأن يشكِّلوا فرق العمل الخاصّة بهم، وأن يدرسوا أساليب وأشكال وأماكن مشاركتهم في يوم الغضب، وأوصي بالحرص على عدم مركزيّة القيادة، فكل جماعة وكل قرية وكل حي يفكّروا ويقوموا بما يرونه مناسبًا، بشرط الالتزام بسلميّة وحضاريّة النشاط، مع الاستفادة من إرشادات وتوجيهات القيادات المعتبرة وأصحاب الخبرة في الميدان ـ وهذا لا يتعارض مع عدم المركزيّة ـ وأن تحرص جميع القرى والأحياء على أن تلتقي مع بعضها في وحدة التوجّه والنتيجة، وأن يكون بينها التنسيق والتعاون قدر المستطاع، وأن يوجدوا قنوات للتواصل بينهم، وأن يحرصوا كل الحرص على سلميّة التجمّعات والأنشطة وحضارتها، وأن يحذروا من الإشاعات المغرضة ومن المندسِّين السيئين بينهم، وأن يحرصوا على توثيق جميع الأنشطة والقضايا التي تحصل عندهم، ويحضروا وسائل نشرها في الداخل والخارج، وأن يعتمدوا تقسيم العمل بينهم، والله الموفق والمعين لهم.
وقال: أقترح أن تكون في البداية التجمّعات في القرى والأحياء، ثم يتمُّ الانتقال إلى التجمّعات المركزيّة بشكل مدروس، لأنّ التجمّع المركزي في البداية سوف يكون صعبًا ومصحوبًا بكثير من السلبيات، فمن الأسهل والأفضل ـ بحسب تقديري ـ أن تكون في البداية أنشطة متفرّقة، ثمّ يتمُّ الانتقال إلى التجمّعات المركزيّة بشكل مدروس.
وقال: ينبغي للنخبة من الرموز والقيادات الدينيّة والفكريّة والسياسيّة والنقابيّة والمجتمعيّة وغيرهم أن تكون لهم مساهمات ومبادرات وإبداعات تصب في خدمة أهداف يوم الغضب الوطني.
وقال: تدل مؤشِّرات قوّية على مشاركة الأخوة الأعزّاء في الشارع السُنّي الكريم في يوم الغضب، وذلك استلهامًا منهم لثورتي الشعبين المسلمين العربيين: (المصري والتونسي) وهذا من شأنه أن يعزّز ويقوّي الروابط الوطنيّة بين أبناء الشعب الكريم، ويسقط رهان السلطة على تحريك الحس الطائفي لإضعاف التحرك، وربما لإيجاد التصادم العنقي بين المواطنين ـ كما هو ديدن الحكومات الدكتاتورية المستبدة دائمًا ـ ومن أجل مشاركة أفضل من الشارع السني الكريم، ينبغي إشعاره بالطمأنينة لسلامة التحرّك ووطنيّته، ومن الأمور المهمة:
- الحذر الشديد من الانفعال والانجرار إلى ما لا تحمد عقباه من الفتنة الطائفية.
- والتعاطي بحكمة ودقّة مع الممارسات والتجاوزات ذات الصبغة الطائفية التي قد تحدث، وعدم تسليم السلطة صكُّ الفتنة على طبق من ذهب.
- والتأكيد على الأخوّة الإسلامية والوطنية، وإنّ الشيعة والسُنّة هم شركاء في الوطن، وإنّ قضاياهم الدينيّة والوطنيّة واحدة، ومصيرهم واحد، والذين يفرِّقون بينهم هم الأعداء وأصحاب المصالح معدومي الإحساس والضمير.
- وأن تكون الأهداف والشعارات للتحرّك أهداف وشعارات وطنيّة وحدويّة مشتركة بين جميع المواطنين، تجمعهم ولا تفرِّقهم، وفي مقدمتها: (الشراكة الشعبية الفعلية في صناعة القرار، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية الحضارية المستدامة، ونحوها).
وقال: لم تقم ثورتي الشعبين: (المصري والتونسي) على أساس طائفي، وإنّما على أساس حقوقي وطني، وأوضاعنا في البحرين ليست بأفضل من أوضاعهما، فما عندنا من الظلم والفساد والاستبداد ليس بأقل مما كان عندهما، فمبرِّرات الثورة لديهما موجودة لدينا بامتياز، وهذا يساهم في إقناع الشارع السني الكريم في البحرين بواقعية الحركة المطلبية ووطنيتها، ويدفعهم للمشاركة الفعلية فيها.
وقال: يمكن للجمعيات السياسية والشخصيات الوطنية أن تلعب دورًا كبيرًا وأساسيًا في إضفاء الصبغة الوطنية على الحركة الشعبية: الاحتجاجية والمطلبية.
وقال: لا تيأسوا ولا تبتئسوا من صنع المحبطين والمخلِّين والمفرِّقين لجموع المواطنين، واحرصوا كل الحرص على رص الصفوف وتوحيد الكلمة، والاستمرار في الحركة حتى تحقيق المطالب (اثبتوا وارموا ببصركم أقصى القوم) واحرصوا على تطوير التجربة باستمرار بالاستفادة من نتائج الخبرة المتراكمة في التحرّك، وتحلّوا بالصبر والحكمة، واتّبعوا سياسة النفس الطويل والزخم العالي، واستفيدوا من الدعاء فأقيموا الأمسيات الدعائية لأنّ الدعاء هو السلاح الأقوى بأيدي المؤمنين، واستفيدوا من جميع الطاقات والمواهب، واسعوا لمشاركة جميع المواطنين، وارفعوا الشعارات الوطنيّة الوحدويّة، وتجنّبوا الشعارات الحزبيّة والطائفيّة، ولا ترفعوا صور الأشخاص ماعدا صور المعتقلين، ولا ترفعوا الأعلام ماعدا علم البحرين، وانسوا خلافاتكم السابقة، وافرحوا فرحًا روحيًّا لبشائر التقارب ووحدة الصف التي بدأت تظهر في الأفق كالنجوم، ولا تستعجلوا النتائج، ولا تخافوا فوات أسهمكم من الكعكة فتقبلوا بالفتات، أو تقعوا في أفخاخ السلطة وغيرها خوفًا من أن يفوتكم قطار الأسهم في تزويغ كعكة المكاسب والمناصب، وكونوا واعين ويقظين ولا تسمحوا لأحد من المتفرِّجين فوق التل أو من المتسلِّقين على أكتاف البؤساء والمضحِّين، بأن يستغفلوكم، وأن يسرقوا ثمار تضحياتكم وجهودكم العظيمة، أو أن يلتفوا على أهدافكم المشروعة في النضال الوطني والجهاد في سبيل الله عز وجل والحق والعزة والكرامة والحياة الطيبة.
وبخصوص ما يُطرح من استيراد عناصر الجيش والشرطة من المرتزقة في البحرين، مما يعني المزيد من البطش واستخدام العنف ضد المحتجين العزل، قال : السيئون من الجيش والشرطة في تونس ومصر لم يترددوا في قتل أبناء جلدتهم، فهؤلاء لا ضمير لهم، ويجب علينا أن نركز على إرادة التغيير والإصلاح، فما يقع من الظلم والجور علينا في البحرين لا مثيل له في أيّة دولة عربيّة أخرى، فلا توجد حكومة عربيّة قامت باستيراد شعب بديل عن شعبها غير حكومة البحرين، ولن توجد ظروف دوليّة وإقليميّة مناسبة للتحرّك أكثر من الظروف الحاليّة، فالمنطقة مقبلة على تغيّرات حتميّة، وهذا ما تتكلّم به جميع الحكومات الغربية وأجهزة مخابراتها ومراكز البحث والدراسة لديها، وجميع الأطراف ذات العلاقة تتكلّم عن حقِّ جميع الشعوب في اختيار أنظمتها وتغييرها، والشعب البحريني ليس استثناءً من هذه القاعدة الفطريّة والعقليّة التي تقرِّها الأديان السماوية والمواثيق الدولية، وتضييع هذه الفرصة يعني فيما يعني:
- غياب الحنكة السياسية.
- وغياب إرادة التغيير والإصلاح.
- ثم الاضطرار إلى دفع خسائر أكبر في المستقبل سعينا أم لم نسعى للتغيير.
وقال: توجد رقابة دوليّة في الوقت الحاضر على تصرفات الأنظمة في المنطقة التي تتصدى للحركات المطالبة بالإصلاح في بلدانها، وذلك في ظل ما تشهده المنطقة من تغيّرات ضخمة، وخوف الدول العظمى على مصالحها، فرغم وجود المرتزقة إلا إنّ يد السلطة لن تكون مطلقة أبدًا، بل ستكون مقيّدة بالرغم عنها، فالفرصة مواتية، وليس من الحكمة تضييعها.
وقال: لا شكّ إنّ حجم مشاركة الجماهير والقوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني ودعم الرموز والقيادات الدينية والسياسية والمجتمعية إذا كان كبيرًا وصريحًا سوف يحدُّ من عنف السلطة، أمّا إذا تخلّفت أو قصّرت فسوف يشجِّع ذلك السلطة على ممارسة المزيد من البطش والعنف ضد المحتجين المسالمين.
وقال: ينبغي للعلماء والنخبة الفكريّة والسياسيّة والقيادات المجتمعية أن تتقدّم الصفوف، لأنّ تخلّفهم لن يضرّهم شخصيًّا بمقدار ما سيؤدِّي من الإساءة إلى الدين الحنيف والثقافة.
وقال: ما طلبه سماحة ولي أمر المسلمين (أيّده الله تعالى) من علماء الدين بأن يكونوا في المقدّمة، ليس مقيّدًا بزمان أو مكان، وإنّما هو عام، لأنّ سماحته (أيّده الله تعالى) يُدرك بحكم فقهه وخبرته العمليّة، بأنّ علماء الدين يجب أن يكونوا مع الناس، وأن يعيشوا همومهم وقضاياهم، وإنّ تخلّفهم عن ذلك لا يعود بالضرر عليهم وحدهم، وإنّما يعود على الدين، والحالة الدينية في المجتمعات الإسلامية، وعلى حقوق الناس، ومقولة إن الدين أفيون الشعوب، لم تأت بسبب النصوص الدينية، وإنّما بسبب سلوك المتديّنين لاسيّما علماء الدين.
وقال: هناك أمور بمثابة المسلّمات التي تحصل بشكل تلقائي لمجرّد انطلاق يوم الغضب، منها:
- سقوط القوانين المقيِّدة للحريات، مثل: قانون الإرهاب، وقانون التجمّعات، وقانون الجمعيّات السياسيّة، وقانون الصحافة، وقانون العقوبات، وغيرها.
- ورفع الحصار الأمني الجائر عن جميع القرى والأحياء السكنية المستهدفة أمنيًا من السلطة.
وقال: هناك مطالب أوليّة، منها:
- الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين السياسيين بدون قيد أو شرط.
- حل المجلس الوطني بغرفتيه: (المنتخب والمعيّن).
- حل الحكومة.
- تشكيل حكومة انتقالية برئاسة أحد أبناء الشعب الأمناء.
- تشكيل مجلس تأسيسي لوضع دستور ديمقراطي جديد.
- الكشف عن كل ما هو مسجّل في الداخل والخارج على الذمم المالية للمسؤولين في السلطة والمرتبطين بهم.
- تقديم الجلاّدين والمسؤولين عن الانتهاكات لحقوق الإنسان إلى العدالة.
وقال: هذه مطالب أوليّة وسقف المطالب النهائي تحدِّده الإرادة الشعبيّة، ولا شكّ فإنّ سلوك السلطة مع الحركة الاحتجاجيّة سوف يكون له دور مهم في تحديد سقف المطالب، فإذا سال الدم مثلاً، فإنّ السلطة ستخسر كل شيء، فالقاعدة: “من يقتلنا فمكانه ليس فوق رؤوسنا وإنما هو تحت أقدمنا”.
وقال: الحكم يدوم مع الكفر ولا يدوم مع الظلم والاستبداد، فإذا أرادت السلطة أن يطول عمرها أكثر فعليها بالعدل والديمقراطية، أما أذا استمرت في الظلم والتمييز والاستبداد والاستئثار بالثروة، فإنّ أجلَها قريب.
وقال: من حق الشعوب أن تختار أنظمتها السياسية، ومن حقِّها تغييرها، وتنصُّ الدساتير على أنّ الشعب هو مصدر جميع السلطات، وهذا النص يثبت هذا الحق، وهو حق طبيعي تحكم به الفطرة والعقل وتقرُّه الأديان السماوية والمواثيق الدولية.
وقال: ربما يكون من المناسب التفكير في تشكيل فريق من الحكماء يتمُّ اختيار جميع أعضائه من قبل الجماهير والقوى السياسية ومؤسّسات المجتمع المدني، وتُسند إليه مهمّة خلق التوافق في أوساط الجماهير والقوى السياسية والمؤسّسات المشاركة في يوم الغضب الوطني، ويتولّى مهّمة التفاوض مع مختلف الأطراف، وذلك نظرًا للحاجة اللابدَّ منها للإدارة السياسية، ولكن بشرط عدم التفويض المطلق إليه، وإنّما التفويض المشروط، بحيث تبقى الجماهير شريك حقيقي وفعلي ومرجعيّة أساسيّة في صناعة القرار، ولا ينفرد السياسيون ولا غيرهم بالقرار، فهم شركاء وليسوا مالكين بمفردهم للقرار، وهذه ضمانة أساسية للنجاح وعدم التمييع أو الالتفاف على المطالب والأهداف وضياعها .
وقال: أكّدت في الأسبوع الماضي على إنّ القرار يجب ألاّ يسلم للقوى السياسية لتنفرد به، ويجب على الجماهير أن تحتفظ بحقِّها وتبقى ماسكة بزمام القرار، وهذا الموقف مبني في الحقيقة على نتائج التجربة مع القوى السياسية لدينا في البحرين، وذلك:
- من جهة غرقها في هاجس حساب التفاصيل القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها الوهمية.
- وخوفها من فوات نصيبها من كعكة المكاسب، لأنّها تخاف على وجودها، فتقبل بالفتات الذي تقدِّمُه السلطة لها من أجل أن تبقى، فيسهل الالتفاف عليها.
أما الجماهير فهي تريد الإصلاح الحقيقي، ولا تقبل بالفتات لأنها لا تطمع في نصيب لها من كعكة المكاسب والمناصب، وقد ثبت للمراقبين صحِّة هذا الطرح في تجربة الثورتين: المصرية والتونسية.
وقال: يجب علينا جميعًا احتضان القيادات الشابّة المخلصة التي تفرزها التحرّكات الشعبيّة في القرى والأحياء، وإفساح المجال أمامها للتعبير عن رأيها بكامل الحرية وتقديرها وإشراكها فعليًا في صناعة القرار، وهذه مسألة جوهريّة في منهج تيار الوفاء الإسلامي منذ التأسيس، أكّد عليها وبيّنها بوضوح تام في بيان الانطلاق وفي غيره من أدبيّاته المعروفة، وقد ثبت بالتجربة التونسية والمصرية سلامة المنهج الذي يؤكِّد على دور الجماهير في التغيير والإصلاح.
وقال: حين أتكلّم عن يوم الغضب الوطني فإنّي لا أقصد يومًا بعينه، وإنّما أقصد حركة شعبية مطلبية سلميّة مستمرّة، تمتلك إرادة التغيير والإصلاح، وتطالب بالحقوق الطبيعية والمكتسبة والحريات المشروعة للمواطنين بشكل جدِّي وحازم، قد تنطلق شراراتها في يوم: 14/ فبراير أو قبله أو بعده من الأيام، فيوم الغضب هو مرحلة تاريخية، وليس يوم زمني.
وقال: أطالب بعض الأطراف المعنيّة في الداخل والخارج (وهي تعرف نفسها بطبيعة الحال) بأن تُثبت ـ بالأفعال وليس بالأقوال الجوفاء ـ بأنّها مع الشعب، ومع العدالة الاجتماعية، ومع الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريّات المشروعة للمواطنين، وذلك قبل فوات الأوان، فالشعب يتمتّع بوعي سياسي كافي، ولديه خبرة نضاليّة ضخمة، ويستطيع أن يتعرّف على الذين يقفون إلى صفِّه بصدق، والذين يقفون على التل ويراقبون بسلبيّة تامّة ما يحدُث، والذين يُخادعون ويُراوغون، ثم يَطمعون في الكعكة كلَّها أو بعضَها!!
وقال: مسألة الشرعيّة أصبحت محسومة، ولم يعد هناك مجال للتشكيك في الشرعية الدينية والسياسية ليوم الغضب، وسقطت بحكم التجربة كل المبرِّرات الوهميّة لمنع التحرّك الجماهيري للمطالبة بالحقوق الطبيعية والمكتسبة والحريات المشروعة أو الوقوف ضده، إلا أن التبريرات والتوهجّات لن تنتهي، لأنّه لا عقل ولا وجدان صادق للمنهج التبريري.
وقال: لم يعد مقبولاً فرض الوصايا على المواطنين الأحرار بأي شكل من الأشكال، نعم يجب أن يبقى باب الترشيد والتوجيه مفتوحًا، ولكن يجب أن يغلق باب الوصايا إلا:
- ما فرضه الله عز وجل على عباده من الولاية الشرعية لأهلها.
- وما ارتضاه المواطنون لأنفسهم بحكم العقل والمواثيق التي يلزموا أنفسهم بها.
وبخصوص تأهيل الأحداث في السجون، قال: سألني بعض الشباب عن هذا الموضوع وأجبتهم، وما نقل على لساني في المنتديات بخصوص هذا الموضوع كان صحيحًا، فالسلطة الآن في حالة ضيق، واعتقال الأطفال جريمة، وهي تسعى لتمييع القضية والهروب من فضيحة هذه الجريمة الكبرى وتلميع صورتها عبر خدعة التأهيل، فإذا تعاون الأهالي معها في هذا الموضوع، فإنّهم قد قبلوا عمليًا ببقاء أبنائهم في السجن، وكموقف حازم لمصلحة هؤلاء الأطفال، ينبغي على أهالي الأطفال المظلومين المعتقلين في سجون السلطة الغاشمة.
- رفض فكرة التأهيل وعدم التعاون مطلقا مع السلطة في هذا الموضوع.
- المطالبة بالإفراج الفوري عن الأطفال المظلومين المعتقلين في سجون السلطة الغاشمة بدون قيد أو شرط.
- اعتبار الاستمرار في اعتقال الأطفال جريمة بحقهم، وصفحة سوداء في سجل السلطة لحقوق الإنسان، والمطالبة بمحاسبة المسؤولين عن هذه الجريمة النكراء ومعاقبتهم.
- الاستعداد للتحرّك الجدِّي والعمل الفوري من أجل تحرير أبنائهم من قبضة السلطة الجائرة.
تأخّر سقوط نظام حسني مبارك
وبخصوص تأخر سقوط نظام حسني مبارك، قال: الرئيس حسني مبارك وأركان نظامه في غاية الخبث والإجرام، ولديهم كل الاستعداد لارتكاب أبشع الجرائم المتاحة لهم بحق أبناء شعبهم من أجل الاستمرار في السلطة وتنفيذ أجندة المحور الصهيو/ أمريكي في المنطقة، إلا إنّ تأخّر سقوط نظام حسني مبارك ليس بسبب عناد القائمين عليه من المجرمين، فهم أضعف من ذلك بكثير، وإنّما بسبب احتدام الصراع غير المرئي في نقطة افتراق تاريخية على مستوى المنطقة والعالم بأسره بين إرادتين:
- إرادة الشعب المصري العربي المسلم البطل.
- وإرادة قوى الاستكبار العالمي وعملائهم في المنطق.
فسقوط النظام المصري يعني:
- اقتلاع أجندة إقليمية ودوليّة استراتيجيّة من جذورها، وهي أجندة تقف وراءها الدول العظمى والكيان الصهيوني وعدد من الدول العربية وأجهزة مخابراتها وجيوشها بجميع إمكانياتها المادية والبشرية.
- وتغيّر حتمي لخارطة الشرق الأوسط: (الدينية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والجغرافية، وغيرها) وذلك لغير صالح قوى الاستكبار العالمي وعملائهم، وإنّما لصالح شعوب المنطقة ومحور المقاومة.
لهذا فقوى الاستكبار العالمي والكيان الصهيوني وعملاؤهم يعملون المستحيل وبكل خبث ودهاء ويستفرغون كل ما في وسعهم وبكل أساليب المكر والخداع والحيل الشيطانية والمراوغة واللف والدوران والكر والفر بهدف كسب المزيد من الوقت لوضع الترتيبات اللازمة للالتفاف على إرادة الشعب المصري وشعوب المنطقة وإحباط ثورتهم أو حرفها عن أهدافها والقفز على تضحياتهم وآلامهم لضمان مصالحهم الاستكباري غير المشروعة في المنطقة بأي حال وبأي شكل من الأشكال. إلا أنهم سوف يصابون بخيبة الأمل الكبرى في تاريخهم، فالثورة سوف تنجح ـ بحول الله وقوته ـ وسوف يفرض الشعب المصري إرادته ـ إن شاء الله تعالى ـ على القوى العظمى والكيان الصهيوني وعملائهم، ويتحقّق له ما يريد من الحريّة والإصلاح، وسوف تلحق شعوب المنطقة بالشعبين العربيين المسلمين: (المصري والتونسي) فالأنظمة العربية أنظمة متعفِّنة، وهي بحكم المنتهي، وتنتظر مواراها في القبور، وسوف يكون يوم حسابها يومًا عسيرًا عليها، قول الله تعالى: )ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون ` اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ` وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ` وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ(([25]) وسوف يتغير وجه المنطقة والعالم بأسره لصالح العدالة الاجتماعية والمستضعفين في الأرض، فقد أدبر ـ بإرادة ربانية قاهرة ـ زمن الظلم والاستكبار، وأقبل زمن الحرية والعدل لجميع الشعوب في العالم، قول الله تعالى: )وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(([26]) صدق الله العلي العظيم.
وبخصوص الاعتصام أمام السفارة المصرية، قال: الاعتصام دليل على قناعة الداعين إليه والمشاركين فيه بحق الشعوب في الثورة على الأنظمة الدكتاتورية المستبدة، ومقاومة الظلم والفساد ونهب ثرواتها ومقدراتها الوطنية من قبل الفاسدين المفسدين في الأرض، والتمسك بحقوقهم الطبيعية والمكتسبة وبحرياتهم المشروعة، ودفع الأضرار والانتهاكات عن أنفسهم، ومحاسبة المسؤولين عنها ومعاقبتهم، واختيار نظام الحكم الذي يعبر عن إرادتهم ويخدم مصالحهم، وهي قناعة غير قابلة منطقيا للتجزئة بين شعوب العالم، فهي حق ثابت ومشترك بين جميع الشعوب في العالم .
وقال: لم تدعونا الجمعيات السياسية كشريك معها في التنظيم والدعوة للاعتصام أمام السفارة المصرية، فالجمعيات السياسية لا تزال ـ بحسب تقديري ـ على تحفّظها من الدخول في عمل مشترك مع القوى السياسية المعارضة التي تعمل خارج الأطر الرسمية.
وقال: أتمنى على الجمعيات السياسية أن تستفيد جيّدًا من تجربة ثورتي الشعبين: (المصري والتونسي) فتنفتح على كافّة القوى السياسية الناشطة على الساحة الوطنية، وقد بيّنت في الأسبوع الماضي حاجة المعارضة لذلك وأهميته بالنسبة إليها.
مسائل متفرقة
(1): وبخصوص تداول السلطة، قال: تداول السلطة حق طبيعي للمواطنين، ولا ينبغي للرموز والقوى السياسية وقياداتها المحترمة التأسيس لتجذير الطائفية في الواقع السياسي البحريني، وينبغي عليهم فعلاً التأسيس لتجذير:
- الواقعيّة السياسيّة بمفهومها الإيجابي الذي يفرض حقوق المواطنين الطبيعية والمكتسبة على السلطة، وليس المفهوم السلبي الذي يقبل بالفتات.
- والعدالة الاجتماعية.
- والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
- والعمل وفق قواعد العمل الديمقراطي.
- ونحوها.
(2): وبخصوص أهمية الجانب الفكري والروحي في التحرك، قال: في الشدائد نحتاج كثيرًا إلى السكينة والرويّة، ومع فقدان السكينة والرويّة نفقد الصواب، قول الله تعالى: )إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا(([27]).
(3): وبخصوص عودة الأستاذ حسن المشيمع، قال: فضيلة الأستاذ حسن المشيمع مستعد للعودة في أي وقت، وقد عزم شخصيًا على العودة ليقف إلى صف إخوانه، إلا أن قرار عودته ليس قرارًا فرديًا بيده، ولو كان قرار العودة قرارًا فرديًا بيده لعاد فعلاً، ولكن قرار عودته هو قرار جماعي بيد إخوانه، ولم يقرّر الجماعة عودته في الوقت الراهن، وأنا شخصيًّا أتحمّل مسؤولية أساسية في قرار عدم عودته في الوقت الراهن، وهو على أهبة الاستعداد وينتظر القرار الجماعي بعودته، ومتى رأت الجماعة إنّ عودته مطلوبة لصالح قضيتنا الوطنية، فسوف تتّخذ قرار عودته وسيعود ـ إن شاء الله تعالى ـ كما يعود الأسد إلى عرينه.
(4): وبخصوص توقيت التحرّك الجماهيري، قال: قرار الإقرار بالتحرّك الجماهيري في يوم الغضب ليس قرارًا سطحيًا برغبة التقليد أو نحوه، وإنّما هو قرار مدروس، وأنتم تعلمون حجم الضغط علينا في بداية الهجمة القمعية من أجل التحرّك الجماهيري، ولكننا قاومنا الضغط ودخلنا في حوارات ساخنة، وقد شهد هذا المجلس الكثير منها، ولمّا تغيّرت المعطيات والقواعد في الوقت الحاضر، بادرنا بالدعوة إلى الاستجابة ليوم الغضب.
وقال: الشعب البحريني لم يقلِّد، وإنّما استفاد من الفرصة السانحة، وهو يفكِّر للإبداع في تجربته، وله السبق في تجارب نضالية ومطلبية سابقة.
(5): وبخصوص الخشية من الالتفاف على مطالب الشعب، قال: المحاولات جارية ولن تتوقف، وقد يكون الإفراج عن المعتقلين، وتقديم بعض التنازلات الطفيفة، والسعي لتسويقها لدى المرجعيّات الدينيّة، من وسائل الالتفاف، إلا أنّ للشعب خبرة وإرادة واعية، ولن تفلح السلطة في إسقاط إرادة الشعب، ومع فشل السلطة في مساعيها، وتضييق السبل عليها، قد تلجأ إلى ممارسات إجرامية طائشة بحق بعض الناشطين، ولابدّ أن نكون جاهزين لمختلف الاحتمالات.
([2]) رواه مسلم والترمذي وغيرهما.
([5]) كنز العمال، ج1، ص206، الحديث: 1028.