لقاء الثلاثاء (72) | 27-12-2010

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.

حينما تكون الحقائق سببًا للضلال

بدأ الأستاذ عبد الوهاب حسين حديثه الفكري في مجلسه لهذا الأسبوع حول الحالة النفسية والروحية السقيمة التي تجعل من الحقائق لدى بعض الناس سببًا للضلال والضياع، وقال: يُعتبر التفكير والاختيار السمة الأساسية التي تميّز الإنسان عن غيره من المخلوقات، وإنّ نتائج تفكير الإنسان هي التي تحدد معالم شخصيته وسلوكه ومواقفه وتكامله الروحي والأدبي ومصيره في الحياة الدنيا والآخرة.

 وقال: يتأثر التفكير بالمنهج الذي يُبنى عليه، فإذا كان المنهج سليمًا، كان الفكر المُسْتَقى منه صائبًا، ويوصل الإنسان إلى الحقائق في الموضوعات والأمور التي ينظر فيها، أما إذا فقد الإنسان المنهج السليم في التفكير، فإنّه يكون فاقدًا للرؤية السليمة الصائبة في الأمور النظرية والعملية التي ينظر فيها قطعًا، فبيّن منهج التفكير ونتائجه تلازم لا ينفصل، فيجب على الإنسان أن يتأكّد من سلامة منهجه في التفكير أوّلاً، لا أن يكتفي بمجرّد التفكير، فإنّ التجارب قد أثبتت ابتعاد الكثير من الناس عن الواقع وعن الحقائق النظرية والعملية، واتّخاذهم لقرارات غير رشيدة، وتبّنيهم لمواقف مضرّة وغير حكيمة، رغم كثرة استغراقهم في البحث والتفكير، وذلك بسبب خطأ منهجهم في البحث والتفكير والتنقيب عن الحقائق.

وقال: يعود الخطأ في المنهج إما إلى القصور وإما إلى التقصير، وللتقصير أسباب عديدة، منها:

  • الاستسلام إلى الموروث أو البيئة والمحيط الثقافي.
  • الضعف النفسي بسبب الخوف أو الطمع ونحوهما.
  • الاستسلام للهوى ولمشتهيات النفس وانفعالاتها.
  • التقصير في مقتضيات البحث العلمي السليم.
  • قصر النظر وتجاهل الأبعاد المختلفة في البحث، مثل: الوحي والحس والعقل والقلب والتجربة، الغيب والشهادة، الدنيا والآخرة، الروح والجسد، الرأي والرأي الآخر، ونحوها.
  • النظرة الجزئية وسيطرة بعض العوامل، مثل: الاقتصاد أو الجغرافيا أو الجنس ونحوها على التفكير، وعدم القدرة على التحرّر من تأثيراتها غير الاعتيادية للنظر بشمولية وموضوعية (أي الترابط بين كافة العناصر) وبشكل متوازن في الأمور.

وقال: سلامة المنهج لا تعني عدم الحاجة إلى مراجعة نتائج التفكير، لأنّ سلامة المنهج لا تعني العصمة من الخطأ في بعض التفاصيل بسبب الخطأ البشري في إجراءات البحث والاستنتاج.

وقال: أريد التنبيه إلى حالة خطيرة لدى بعض الأشخاص لا تشكل خطرا على نتائج تفكيرهم فحسب، بل تهدم كيانهم الإنساني بالكامل، وتؤدي بهم إلى الانحطاط والسقوط في وادي سحيق، وتضرُّ كثيرًا بمصالح المجتمع وقضاياه الحيوية والمصيرية، وهو النظر إلى الأطروحات الفكرية للآخرين ومواقفهم وسلوكياتهم بعين التعصب والخصومة والأحكام المسبقة الجاهزة، قول الله تعالى: )وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ(([1]).

وقال: القرآن الكريم في حقيقته وواقعه:

  • كتاب بصائر ونور لمن يتمتع بالموضوعية والنزاهة والإخلاص للحقيقة، وهدى لمن يطلب الهدى والحق لأنه يعلم بأنّ للحقيقة وجود واقعي يرتبط بسعادة الإنسان وخيره في الدنيا والآخرة، ويقصد بها (أي الحقيقة) وجه الله الغني الحميد، والقرآن شفاء من أمراض النفوس والقلوب، مثل: الحسد والشك والبغي والنفاق، وداعيًا إلى ما فيه صلاح الناس وخيرهم ومنفعتهم في الدنيا والآخرة، ورحمة للمؤمنين المستفيدين من نوره العاملين بهديه، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
  • وهو عمىً لبصائر المنافقين والمعاندين والمتعصّبين الضالين، الذين يناديهم القرآن بنداء الحق إلا أنّهم لا يستمعون لندائه الناصح، ولا يفهمون ما جاء فيه من الحق والهدى، ولا ينتفعون من آياته الظاهرة ومواعظه وإرشاداته العظيمة للإنسان، فيرفضون منطق الفطرة والعقل والضمير، وتنتقض لديهم الموازين العقلية والشرعية والقيمية التي تقاس بها الأفكار والشخصيات والسلوكيات والمواقف وتفهم بها الأحداث فهمًا واقعيًا صحيحًا، ويكيلون في فهم الأمور والوقائع بحسب أمزجتهم بغير مكيال، ويغلقون في وجوه أنفسهم أبواب المعرفة والارتقاء في معارج الكمال والقرب من الله ذي الجلال والإكرام، وذلك بسبب تعصّبهم وعنادهم واتّباعهم للهوى ولشهوات النفس، حيث تقوم بشلِّ حركة عقولهم وضمائرهم، وتجعل بينهم وبين حقائق القرآن الواضحة وأدلّته وبراهينه القاطعة حجابًا كثيفًا وسدًّا مانعًا، فهم لا يؤمنون، والعيب فيهم وليس في آيات القرآن ولا نقصًا في حججه وبيّناته وبراهينه القاطعة، قول الله تعالى: )وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ ` وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ(([2]) وقول الله تعالى: )إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ` وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ(([3]).

وقال: هذا حال جميع المتعصبين وأتباع الهوى في كل زمان ومكان، قول الله تعالى: )مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ(([4]) وفي ذلك أنس لكل ضحية من ضحاياهم السائرين على نهج الأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحين (عليه السلام) فالتكذيب واحد، والإساءات واحدة، والاعتراضات واحدة، مما يشعر الدعاة المصلحون بالقوة والكرامة، ويحملهم على الصبر والمقاومة والصمود حتى النهاية.

قول الله تعالى: )وإنه لكتاب عزيز ` لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد(([5]) ومعنى كونه عزيزًا:

  • أنه المحكم والبليغ في بيانه، والغالب بحججه وبراهينه.
  • وأنه كثير المنافع للناس على المستوى الفردي والمجتمعي وفي جميع مجالات الحياة ونواحيها.
  • والمصيب فيما يقول من الحقائق والأخبار، وفيما يأمر به وينهى عنه من الأحكام والمبادئ والقيم.
  • والذي لا نظير له في كتب الأولين والآخَرين، ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو يبطل شيئًا من حقائقه.

وذلك لأنه منزّل من لدن حكيم خبير جميع أفعاله متقنة وفي منتهى الكمال مما يجعله أهلاً للحمد والثناء المطلق.

 والسؤال: ما هو موقف الطغاة والضالين المتعصّبين من الرسول والقرآن؟

  • أنهم وصفوا الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه ساحر ومجنون وشاعر ومتآمر كما قالوا عن كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) تهورًا، قول الله تعالى: )قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى(([6]) وقول الله تعالى: )قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ(([7]) وغير ذلك مما ابتدعته مخيلتهم المريضة وأوهامهم الشيطانية الضالة من أوصاف ونعوت باطلة، وذلك بسبب استغراقهم في التفكير الحسي والمصالح المادية والدنيوية الخالصة، ولم يبحثوا عن الحق كما هو.
  • وتواصوا بينهم ونصحوا أتباعهم بالبغي والضلال من أجل الغلبة، قول الله تعالى: )وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْلغَوْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ(([8]).
  • ولجأوا إلى كل وسيلة للهروب من الحق والطعن فيه، قول الله تعالى: )وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ(([9]).

وقال: لا يلجأ الطغاة والمتعصبون إلى التأمل والتدبر في الأفكار والأطروحات التي يعرضها دعاة الحق والمصلحون، ولا يكلفوا أنفسهم بمناقشتها ليقفوا على ما فيها من الحق أو الباطل، فهم لا يكترثون بما فيها لأنهم ليسوا طلاب حقيقة، ولا يفهمونها أصلاً، لأنهم من عالم غير عالمها، لأنهم من عالم الكدورات والظلام، وهي من عالم النور والطهارة، وبينهم وبينها ألف حجاب وحجاب.

وقال: وهم لا يلجأون إلى مقابلة الحجّة بالحجّة والدليل بالدليل لأنّهم لا يمتلكون حجّة ولا يمتلكون دليلاً أصلاً، وإنما يلجأون إلى:

  • التشويش على الأفكار والمواقف والسلوكيات الطاهرة للمصلحين، والتسرعّ في ردّها ولو بشكل بائس ومضحك، قول الله تعالى: )وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْلغَوْ فِيهِ(([10]) ويعرضون عن الأدلة والحجج ولا يتعقلونها، لأنهم غارقون في بحور ذواتهم القذرة المظلمة ومصالحهم ومقدساتهم الخاصة، ولا يحترمون الحق والعدل والحقيقة والفضيلة.
  • ويعملون على تثبيت المعايير الباطلة الموروثة في مواجهة أطروحات الدعاة والمصلحين وأدلتهم الدامغة، وذلك من أجل تثبيت الأمر الواقع والغلبة على الحق والخير والفضيلة، قول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(([11]).
  • ونحوه.

 وقال: تُبيّن الآية التي ذكرتها في أول الحديث جانبًا من روحية هؤلاء المرضى، قول الله تعالى: )وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ(([12]) فإنّ لهؤلاء المتعصبين روحية سقيمة بعيدة كل البعد عن الخير والفضيلة والنزاهة والواقعية، فقد نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، فقال المشركون الضالون المتعصِّبون: لو كان القرآن أعجميًا، أي: بلسانٍ غير عربي، أو بعضه عربي يفهمه العرب، وبعضه أعجمي يفهمه العجم، فردَّ عليهم الرب الجليل: لو أُنزل القرآن بلسان غير عربي لاعترضتم عليه أيضًا، ولقلتم: أنبيٌ عربيٌ وقرآن أعجمي؟! ولماذا لا تفصل آياته بلغتنا العربية، فالنبي منّا، ونحن عرب ولا نفهم الأعجمية؟!

وقال: إنّ طريق الحق واضح، ونزول الكتاب باللسان العربي جاء وفق الحكمة الربانية البالغة الثابتة بحكم الضرورة العقلية والإرادة في تدبير مسيرة الإسلام والمسيرة البشرية في الحياة، وأنّ خاصية القرآن في الهداية ليست متوقفة على اللغة وإنما على المتلقين ـ وهذا ما تحكم به نتائج التجربة في التاريخ الطويل، حيث نجد الكثير من الشعوب غير العربية تؤمن بالدين، مثل: إيران وتركيا وإندونيسيا وماليزيا وغيرها، بينما يكفر به الكثير من العرب ـ ولكن المعترضون ليسوا طلاب حقيقة وهداية، وإنما هم طغاة متعصِّبون ضالون، يبحثون عن التبريرات والأعذار الواهية لكي يهربوا من الحقيقة، ولكي يذهبوا مع مشتهياتهم النفسية وخياراتهم السقيمة المسبقة التي طُبعت عليها قلوبهم البهيمية والشيطانية الضالة، وقد يصل بهم الحال إلى فهم الأقوال والأفكار والأشخاص والمواقف والسلوكيات والحوادث بشكل مقلوب تمامًا عمّا هي عليه!! فهم يعكسون واقعهم وشعورهم الذاتي المريض، وليسوا مهتمين بحقائق الأمور، فلا ينفع معهم المنطق الصحيح، ولا تزيدهم الحجج الساطعة والبراهين القاطعة إلا ضلالاً وبعدًا عن الحقيقة والعدالة والعظة والرشاد، فالتعصّب يُبعد الإنسان عن التفكير السليم، وعن الموازين الواقعية والعقلية والشرعية والقيمية في فهم حقائق الأشخاص والموضوعات والمواقف والسلوكيات والأحداث وغيرها.

وقال: بمقدار ما يكون الإنسان خاضعًا للتعصّب ومتّبعًا لهواه، بمقدار ما يكون بعيدًا عن المعرفة الحقيقية وتشخيص الواقع الموضوعي الذي ينشده الإنسان السوي بما هو إنسان في معرفة الأفكار والأشخاص والسلوكيات والمواقف والأحداث وغيرها، فالمتعصِّب وصاحب الهوى لا يقبلان بالحق حين يعرض عليهما، وإنّما يعرضان عنه، ويصوِّر لهما التعصّبُ والهوى الحقَ باطلاً، والباطلَ حقًا، والضلالةَ هداية ونورًا، والهدايةَ ضلالةً وظلامًا، قول الله تعالى: )وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ` وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا(([13]).

وقال: من صفات المتعصّبين ومتّبعي الهوى: تحريف الحقائق، وتزييف الكلام، وتشويه الأحداث والأقوال، والإساءة إلى الشرفاء والعظماء، بما ينسجم مع مصالحهم وأهوائهم ورغباتهم الشخصية المنحرفة، قول الله تعالى: )فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(([14]) وهذه من الصفات القبيحة والرذائل المذمومة والانتكاس في تكامل النفس البشرية وعاقبتها الخسران في الدنيا والآخرة.

وقال: ممّا يؤسف له أنّ التعصّب الأعمى لدى بعض المؤمنين يوقعهم حقيقة وواقعًا في مثل ذلك الضلال والانحراف، حيث يتعاطون مع أفكار المختلفين معهم في الرأي بمنظور مصلحي حزبي أو قبلي أو طائفي ونحوه، بعيدًا عن الواقعية والموازين العقلية والقيمية والشرعية، فلا يزيدهم سماع الحق إلا ضلالاً، لأنّ منظورهم الحزبي وغيره المنغلق المظلم يؤدّي بهم إلى اعتبار الحق الذي يأتي من منافسيهم باطلاً، والعدل الذي يأتي منهم ظلمًا، والهداية التي تأتي منهم ضلالة وظلامًا، فتكون الحقائق التي يأتي بها خصومهم سببًا لضلالهم وانحرافهم، وهذه حالة نفسية وروحية وفكرية سقيمة وخطيرة جدًا وعاقبتها سيئة في الدنيا والآخرة، فهي ظلمات وضياع في الخيارات، ويتمُّ بسببها الاغتيال الأدبي والمعنوي للكثير من الشرفاء والعظماء، وتشوّه صورة التاريخ والتضحيات والقيم والسلوكيات الطاهرة والمواقف النبيلة، ويرفع إلى العلا أقوامٌ سيئون، ويُرمى إلى الحضيض بأقوام طيبين، وتُنزع بسببها البركة ويحبس النصر في الحياة الدنيا، وهي ظلمات ووحشة وعذاب في القبر وفي يوم القيامة، قول الله تعالى: )أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(([15]).

وقال: ليكون المؤمنون في سلام مع الحقيقة، وليكونوا على نور وطلاب عدل وهداية، كما أمرهم الله العزيز الحميد بذلك، قول الله تعالى: )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ(([16]) وليحذروا كل الحذر من اتّباع الهوى والتعصّب المقيت، فإنّهما كدورة وحجاب يُظْلم النفس ويحجبها عن رؤية الحق والواقع، ويؤدّي إلى الضلال والضياع في الخيارات ونزع البركة وحبس النصر في الحياة الدنيا، وإلى الوحشة والعذاب في القبر وفي الآخرة .

وقال: في المقابل يؤدّي الإيمان والتقوى الخالصة إلى المزيد من المعرفة والهداية والصواب في الخيارات، لأنّ المؤمن التقي عاشق للحقيقة، ويحترم الحق أكثر مما يحترم آرائه وخياراته في نفسها، وقلبه متعلق بالملأ الأعلى (عالم النور والطهارة) ومندمج في النور الإلهي المبين، وليس بينه وبين الحق والهداية والصواب حجاب، مما يشرح صدره، ويفتح أبواب قلبه، ويؤهّله لتلقي الحقائق، واستيعاب المعارف والمعادلات الصعبة، وتقبّل الخيارات الصائبة، ويدفع كلفتها بنفس راضية مطمئنة، مما يفتح له أبواب الخير والبركة والنصر والعزة والكرامة والحياة الطيبة، قول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(([17]).

وقال: من العوامل التي تحجب الحقائق عن الإنسان وتجعله يرى الأمور على غير واقعها التعصب الأعمى للأشخاص، حيث تدور أفكار الإنسان المتعصِّب وتحوم مشاعره واهتماماته حول الزعيم الذي ينتمي إلى الجماعة أو الحزب أو القبيلة أو الطائفة ونحوها، ويجعل منه مقياسًا للحق والباطل، والعدل والظلم، والهداية والضلال، فإذا تلقّى الفكرة من الزعيم الذي يتعصّب إليه قبلها، وإذا تلقّى الفكرة من زعيم آخر أو من شخص يختلف معه تسرّع في رفضها أو جعلها في دائرة الشك، وتكلَّف الأسباب لرفضها أو الشكّ فيها ولو بشكل بائس ومضحك، وهذا الأسلوب المشين يحجب عن الإنسان المعرفة الحقيقة في الأشخاص والأحداث والمواقف والسلوكيات، ولهذا يتجنبه الموحِّدون النبلاء وطلاّب الحقيقة الشرفاء ويرفضونه بكل ثقة واطمئنان وبدون تردد.

وقال: وقد يكون التعصّب للشخص بسبب مكانته الدينية أو العلمية أو السياسية أو الاجتماعية المرموقة، فيتلقّى المتعصِّب له ما يصدر عنه بالقبول بالنظر إلى مكانته ولا ينظر في دليله، ويرفض ما يصدر عن شخص آخر مخالف له لأنه لا يتمتّع بنفس المكانة ولا ينظر في دليله، وهذا السلوك المنحرف دليل على السطحية والسذاجة، ومخالف للمنهج العلمي، وللمنهج الروحي للموحِّدين، ويكون سببًا إلى عقم العقول عن الإبداع، وإلى ضياع الحقائق والتعمية عليها، ويكون سبيلاً إلى الضلال والضياع في المواقف والخيارات المختلفة في الحياة، وتضييع فرص التصحيح والتطوير في المجالات المختلفة العلمية والعملية والتربوية ونحوها، وتقليل فرص النصر والنجاح.

وقال: إنّ الحارث بن حَوط أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: “أتراني أظن إنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟! فقال (عليه السلام): “يا حارث!! إنّك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت، إنّك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه”([18]) وفي نص آخر: “إنّك لملبوسٌ عليك، إنّ الحق والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله”([19]).

وقال: المطلوب هو احترام العلماء والعظماء وأهل التقوى وتوقيرهم وعدم الإساءة إليهم بقول أو فعل أو الرد عليهم بدون علم وبدون حاجة علمية أو عملية، ويعد الالتزام بهذا من الآداب التي توجب الرفعة وعلو المنزلة والخلاص والبركة في الأموال والذرية وطول العمر في الحياة الدنيا، والرحمة والرضوان والقرب من الله ذي الجلال والإكرام والأنس به والدرجة العالية بعد الممات في الجنة، والمخالفة توجب الندامة والخسران والانحطاط في الحياة الدنيا والآخرة.

وقال: ليس مطلوب متابعتهم في المسائل العقلية والعملية والتربوية وغيرها بدون دليل أو بخلاف ما يعلم الإنسان، بل هذه المتابعة هي بخلاف الفطرة والعقل والدين.

وقال: لكي نُصيب الحقيقة في أحكامنا على الأفكار والأشخاص والمواقف والسلوكيات والأحداث، فإنه يجب علينا أن نُحَكِّمْ الموازين والمعايير العملية أو الواقعية الناصعة البناءة، والموازين العقلية والقيمية والشرعية الثابتة، وأن نتجنّب التعصّب والانحياز الأعمى، فإنّه يُعمي ويُصم.

وقال: يجب الحذر أيضًا من حالات التمسكن المراوغة والخبيثة، حيث يتظاهر الشخص أو الزعيم بالطيبة والمسكنة والبراءة، ويُبطن الخبث ويتصرّف به، وهي ظاهرة نجدها في الحياة السياسية والاجتماعية، فلا ينبغي أن يُسمح لهؤلاء الخبثاء بأن يستغفلوا المجتمع ويعملوا بالظلم ويعيثوا في الأرض الفساد، وتجب مواجهتهم بالوقائع والحقائق التي تكشف طبيعتهم وحقيقتهم وتدين مكرهم وسلوكهم الخبيث.

وقال: إنّي آسف كثيرًا لبعض المناقشات في المنتديات والندوات والمجالس، التي تتجاهل مضامين الأطروحات، وتذهب متكلّفة إلى الإسقاطات السقيمة على الأشخاص بأشكال مَرَضية ومُضرة، فلا ترى فيها سوى التعصّب الأعمى وشرر الشيطان الرجيم وحباءله، وتضيع معها الحقائق والإرشادات والمواعظ القيّمة التي يأتي بها المخلصون من العلماء والمفكّرين والسياسيين والتربويين وغيرهم.

تأبين فضيلة الشيخ محمد علي العكري

وبخصوص تأبين فضيلة الشيخ محمد علي العكري، قال: في البداية أعزِّي صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) والمراجع العظام وعائلة الفقيد وشعب البحرين الوفي بمناسبة رحيل هذا العالم العامل، فضيلة الشيخ محمد علي العكري (رحمه الله تعالى) وأسأل الله الرؤف الرحيم له العفو والرحمة، وأن يسكنه جنانه الواسعة في جوار محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين، ورحم الله من يقرء السورة المباركة الفاتحة ويهدي ثوابها إلى روحه الطاهرة.

وقال: كان فضيلة الشيخ محمد علي العكري (رحمه الله تعالى) في بداية نشاطه الإسلامي في الستينات من القرن الماضي مثقفًا متديّنًا، وكان يعمل موظّفًا في وزارة الصحة، ثم ارتدى زي علماء الدين في مطلع السبعينات، وتفرّغ للتبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستخدم المنبر الحسيني لكي يقوم بدور أكبر وأكثر فاعلية، وليس من أجل الوجاهة والسمعة والزعامة والتشريفات، حيث كان يتحلّى بالزهد والتواضع، ولم يكن يطمع في شيء من حطام الدنيا الفانية. وكان هدفه خدمة الدين والمجتمع، وكان قويًا صلبًا في ذات الله عز وجل، يقول كلمة المعروف أينما حل، وكان له أسلوب تفاعلي متحرّك مع قضايا المجتمع كثيرًا ما يخرج به عن المألوف لدى علماء الدين، وكان يأخذ بزمان المبادرة، وكانت له مشاريعه ـ بحسب اجتهاده ـ في خدمة الدين والمجتمع، حيث قاد تحرّكًا سياسيًا في نهاية العام 1979م للمطالبة بتصحيح الأوضاع العامّة وإيجاد حلول لمشكلتي البطالة والغلاء، واعتقل في العام 1980م طبقًا لقانون أمن الدولة، وبقي في السجن لأكثر من أربع سنوات، وكان له اهتمام خاص بالأسرة وفتح مكتبًا للتزويج، وكان يجمع التبرعات وينفقها في هذا المجال وفي غيره من مجالات الخير والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يقوم بطباعة الكتب وتوزيعها مجانًا، وكانت له مشاريع أخرى، ولم يجن من وراء مشاريعه كلها ربحًا ماديًا ولا وجاهة ولا زعامة، وكان يكتفي بأن يؤدّي التكليف الذي عليه ويترك النتيجة بيد الله القوي الحكيم، وكان لديه حرصٌ شديدٌ على مخاطبة المسؤولين وإيصال مواقفه إليهم بشكل صريح ومباشر وبلهجة صادقة مقتبسة من لهجة أبي ذر الغفاري، ولم تأخذه في الله والحق والعدل لومة لائم، وقد اِستُهزأ به كثيرًا، ووصفه أدعياء الواقعيّة بالجنون وعدم الحكمة، إلا أنّه في الحقيقة كان مفتونًا بتكليفه الشرعي، يؤدّيه كما يرى بأنّه المطلوب والمناسب، وكان في غاية الصبر والتحمّل والتّسامح، وكان منفتحًا ويقبل النقد من الجميع، كان يدافع عن رأيه ولا يصرُّ على الخطأ حينما يواجه بأخطائه، وقد دخل السجن مرّات عديدة، ولم يُرهبه السجن، ولم يُرعبه السجّانون، وكان يحرص على أداء وظيفته الشرعية في داخل السجن، وقد وقف إلى صف أبناء الشعب في انتفاضة الكرامة الشعبية ودخل معهم السجن وتعرّض للإهانة كأحدهم، ولم يَهِن ولم يتراجع، وكان مستعدًّا للخدمة دائمًا، ولم يكن يعيش عقدة الزعامة، بحيث يأتي لي ولأمثالي ـ وأنا أقل منه شأنًا ـ ويقول رأيه، ويقدّم مقترحاته، ويقول: قولوا لي ماذا أفعل فأنا مستعد!!

وقال: لقد كان فضيلة الشيخ محمد علي العكري (رحمه الله تعالى) قدوة في الصدق والشجاعة والإخلاص والتواضع والخدمة بدون مقابل، قول الله تعالى: )وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(([20]) وقد صبر دهرًا على الإساءة والاستهزاء ولم يَهِن ولم يتراجع.

وقال: لم يكن فضيلة الشيخ العكري (رحمه الله تعالى) يحظى بالدعم المناسب من المؤمنين، وذلك للأسباب المعهودة لدينا، منها:

  • الضيق بالرأي الآخر.
  • لم يكن من أصحاب الزعامة والتشريفات عند الناس.
  • قاعدة: لك حجمك يا مسكين، وكلٌ يجب أن يعرف حجمه، ولا يطمح في أكثر منه.
  • النظر لعمل الغير على أنه سعي لأخذ ما في اليد والاستحواذ عليه وبالتالي وجوب منافسته ومقاومته.   
  • ونحو ذلك من العقد النفسية والأمراض الروحية والاستغراق في الذات.

 وقال: لقد دلّ التشييع المهيب لفضيلة الشيخ محمد على العكري (رحمه الله تعالى) على وفاء الجماهير للعاملين والدّعاة المخلصين، وذلك حين تلاشي تأثير الاختلاف، وتصرّف الناس بتلقائية وفق سجيتهم الطيبة بعيدًا عن ردع الزعماء وأجواء المنافسة على الدور والزعامة ونحوهما.

وقال: من المؤسف حقًا أن يشعر الدعاة العاملون بالظلم والاضطهاد والإهمال من المؤمنين وليس من الأعداء في حياتهم، فإذا ماتوا شيّعناهم إلى مثواهم الأخير تشييعًا مهيبًا عرفانًا منّا لهم بالجميل.

وقال: المطلوب هو الوفاء للعاملين والدّعاة المخلصين في حياتهم وليس بعد مماتهم فحسب، فهذا ما يقتضيه الخُلُق الرفيع، والإيمان الصادق بالقيم الروحية، ويُشعر الدعاة والمصلحون بالطمأنينة والأمان، وأنّ أبواب خدمتهم إلى المجتمع مفتوحة، وأنّهم مقدَّرون وإن كانت لهم اجتهادات مغايرة للزعماء المتمكّنين.

وقال: ينبغي على المؤمنين التمرّد على الدواعي العدوانية الغريزية القبيحة التي لا تحكمها القيم النبيلة للخصومات السياسية والاختلافات في الرأي، والاعتراف بالرأي الآخر، والسماح للغير بأن يعمل بشكل طبيعي في أجواء سليمة وآمنة، وترك الاختيار الواعي إلى الناس، ليكون البقاء للأفضل من خلال التنافس الشريف المحكوم بالقيم، والاختيار الواعي الحر إلى الناس.

قيام سماحة الشيخ عيسى بالتعزية

وبخصوص قيام سماحة الشيخ عيسى بالتعزية للعائلة الحاكمة، قال: لا شك أنّ لسماحة الشيخ عيسى (أيده الله تعالى) رؤيته الشرعية في الموضوع، وليس لي ولا لأمثالي تناول الموضوع من هذه الزاوية، فهذا من اختصاص علماء الدين المؤهلين للخوض في الموضوع من هذه الزاوية ولست منهم، ودخولي ودخول أمثالي في الموضوع من هذه الزاوية يكشف عن خطأ منهجي وجهل مركب، ولهذا أنصح بعض المؤمنين لزوم حدودهم العلمية، وعدم الدخول في الموضوع من هذه الزاوية، لأنهم غير مؤهلين لذلك.

وقال: أرى أنّ ثمّة خطأ طويل الأمد قد حدث في ترتيب وضع سماحة الشيخ عيسى أحمد قاسم (أيّده الله تعالى) على مستوى الساحة الوطنية ما كان ينبغي أن يحدث، وقد ترتّب عليه تحجيم دور سماحته وظهور إشكالات عديدة عليه، حيث كان ينبغي لسماحة الشيخ عيسى (أيّده الله تعالى) أن يكون مرشدًا عامًّا لجميع المؤمنين، وموجِّهًا عامًّا للساحة الوطنية بجميع فصائلها وقواها الإسلامية وغير الإسلامية ولجميع السلطات، ويترك التفاصيل في كل حقل للمتكفِّلين بها، إلا أنّ سماحة الشيخ (أيّده الله تعالى) قد جُرّ خلافًا لتوجّهه في الأصل إلى وضع لا يناسبه، وحُشر في زاويةٍ ضيقة جدًا، حيث أُقحم في تفاصيل العمل السياسي، وجعل واجهة لطرف سياسي معين دون غيره، وظهر طرفًا في الخلافات السياسية على الساحة الوطنية وبين المؤمنين، وهذا لا يدل على رشد فكري وسياسي وتنظيمي لمن جرَّ سماحة الشيخ لهذا الوضع وفرضه عليه بقصد أو بدون قصد، وما كان ينبغي لسماحة الشيخ (أيّده الله تعالى) أن يستجيب لهم، وقد ترتّب على ذلك مجموعة سلبيات ما كان ينبغي أن تحدث، منها:

  • تحجيم دور سماحة الشيخ (حفظه الله تعالى) وجعله بمساحة مجموعة من الطائفة بدلاً من أن يكون بمساحة الوطن كله، وهذا أعظم مكسب للسلطة حيث كانت تخشى من ذلك الدور الوطني الواسع لسماحة الشيخ، وكانت الأرضية مهيّأة له أكثر مما كانت مهيأة لسماحة الشيخ الجمري (رحمه الله تعالى) لمثل هذا الدور، إلا أنّ البعض قد قَدَّمَ للسلطة تحجيم دور سماحة الشيخ عيسى (حفظه الله تعالى) هدية بدون مقابل على طبق من ذهب، وبشكل لم تحتسبه ولم تتوقع حدوثه، ثم استغلته أسوء استغلال.
  • إنّ سماحة الشيخ (أيده الله تعالى) اضطّر لأن يطرق أبواب الحكّام ويغشاهم ويغشونه.
  • وأن يكون محسوبًا على طرف سياسي معيّن ومختلفًا مع أطراف سياسية أخرى من المؤمنين وغيرهم ولا علاقة تربطه بهم.
  • حُمِّل المسؤولية عن الأخطاء التفصيلية في الأداء والمواقف السياسية، وحوسب عليها وطولب بما لا يطيق، وتعرّض إلى نقد لاذع مما يعود بالسلب على الحالة الدينية والعلاقة بين المؤمنين والقوى السياسية وبين علماء الدين الأجلاء.
  • أُدخل طرفًا في التجاذبات السياسية بدلاً من أن يكون راعيًا وحاضنًا للجميع.
  • وغير ذلك.

وقال: التعزية عمل إنساني نبيل في نفسه، ولكن حينما تكون التعزية للسلطة ـ لاسيما في مثل ظروفنا الحالية ـ فإنّ لها بعدٌ سياسي لا يمكن أن تُفصل عنه، ولا يمكن تجاهله، وقد نظر المواطنون لهذا البعد السياسي في تقييم تقديم سماحة الشيخ (أيَده الله تعالى) التعزية للسلطة، ورأى المفجوعون من الهجمة القمعية في أبنائهم وأعزَّتهم بأنّ التعزية من سماحة الشيخ للسلطة تحمل رسالة منه ـ غير مقصودة طبعًا ـ بأنّ الهجمة القمعية وما يجرى في القرى والأحياء من حصار وانتهاكات وما يجري في السجون وأروقة المحاكم من تعذيب وتجاوزات لا تستحق موقفًا سياسيًا قويًا من العلماء تجاه السلطة، ممّا يوحي بأنّ الوضع في البلاد طبيعي، وإن شَهِدَ بعض السلبيات أو الأخطاء.

وقال: في ظلِّ التجاذب السياسي قارن البعض بين مواساة سماحة الشيخ (أيده الله تعالى) للسلطة في فقيدها، وعدم مواساته لهم في أبنائهم وأعزتهم الذين هم ضحايا السلطة، فاتّسم موقفهم منه بالشدّة والجرأة عليه في الكلام، وهذه نتيجة طبيعية لدى عامة الناس في ظل الوضع الخاطئ والحالة التي صار عليها سماحة الشيخ (أيده الله تعالى).

وقال: أرى بأنّ الحكمة والمصلحة تكمن في إصلاح وضع سماحة الشيخ (أيّده الله تعالى) فيكون سماحته مرشدًا عامًّا لجميع المؤمنين، وموجِّهًا عامًّا للساحة الوطنية بجميع مكوناتها السياسة والثقافية والاجتماعية وغيرها، وأن يترك التفاصيل لأهلها الداخلين فيها، وألاّ يكون واجهة لأي طرف سياسي أو غير سياسي، وأن يكون على بعد واحد من جميع المؤمنين العاملين على الساحة الوطنية، وأن يتواصل مع جميع القوى السياسية ومؤسَّسات المجتمع المدني العاملة على الساحة الوطنية، وما لم يتم إصلاح وضع سماحته وإصلاح علاقاته مع باقي المؤمنين والقوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، فإنّ نتائج أكثر سلبية سوف تحدث في المستقبل وتعود بالضرر على سماحة الشيخ نفسه، وعلى أحوال المؤمنين ومصالحهم ومصالح المواطنين الحيوية والمصيرية.

وقال: الجدير بالذكر: إنّ الأرضية كانت مهيّأة لسماحة الشيخ (أيّده الله تعالى) في بداية العهد الجديد لأن يلعب دوره الواسع على الساحة الوطنية، وكان هو مكان تطلّعي الذي سعيت من أجله، وأرى بأنّ سماحة الشيخ لم يحصل على أية فائدة مادية أو معنوية من وضعه الحالي ـ وهو لا يسعى للمصلحة الخاصة ـ بل تضرّر منه على أكثر من صعيد، وسوف يكون تضرّره وتضرّر المؤمنين والمواطنين في المستقبل أكبر ما لم يتم التدارك وإصلاح الوضع، والمستفيد من الوضع الحالي ـ بحسب رأيي وتقديري ـ هي السلطة وبعض السياسيين، وأرجو ألاّ يكون الوقت قد فات، أو أن يكون سماحة الشيخ (أيّده الله تعالى) غير متهيئ للعب هذا الدور الواسع أو لا يمكنه أن يلعبه، وفي جميع الأحوال: أرجو ألاّ يُقدم مقام سماحة الشيخ (حفظه الله تعالى) ومصالح المؤمنين والمواطنين قربانًا على مذبح السياسيين!! وليحذر المؤمنون المخلصون الذين لا يبحثون عن المصالح الخاصّة ولا يريدونها وقد أخطأوا الفهم أو التدبير فيما سبق من السير قدمًا على نفس النهج الذي أوصل سماحة الشيخ (أيّده الله تعالى) إلى الوضع الحالي، وعليهم أن يساهموا في التدارك ولو جزئيًا قبل فوات الأوان بهدف تقليل السلبيات على الأقل ـ وهو ممكن ـ وأرجو ألاّ يتسرّع أحد في الرد بدون فهم ولا تدقيق ويكرّر الأسطوانات المشروخة المعهودة في المنتديات الالكترونية وغيرها، فقد بلغت أضرار الردود المتسرّعة على الأطروحات المخلصة بدون فهم ولا تدقيق حدًّا لا يطاق، فليدرك الجميع مسؤولية الكلمة، فإنّهم مسؤولون أمام الله جلَّ جلاله والتأريخ الذي لا يرحم!!

وقال: هذا ما ذكرته مرارًا وتكرارًا، وأنا أصرُّ عليه كرأي، ويبقى سماحة الشيخ (أيده الله تعالى) هو صاحب القرار لا غيره.

وافق شن طبقة (السلطة والبرلمان)

وبخصوص برنامج السلطة للأربع سنوات القادمة، قال: يوجد لدينا مثل عربي يقول: “وافق شن طبقة” وهذا المثل له دلالة سياسية كبير إذا طبّقناه على العلاقة بين البرلمان والسلطة التنفيذية في البحرين، وقصة المثل: إنّ رجلاً من دهاة العرب وعقلائهم، يقال له: “شن” قال والله لأطوفنّ حتى أجد امرأة مثلي أتزوجها، فبينما هو في بعض مسيره إذ وافقه رجل في الطريق فسأله شن: أين تريد؟ فقال موضع كذا ـ يريد القرية التي يقصدها شن ـ فوافقه حتى أخذا في مسيرهما، قال له شن: أتحملني أم أحملك؟ فقال له الرجل: يا جاهل!! أنا راكب وأنت راكب، فكيف أحملك أو تحملني؟ فسكت عنه شن وسارا حتى إذا قربا من القرية، وإذا بزرع قد استحصد، فقال شن: أترى هذا الزرع أُكِلَ أم لا؟ فقال له الرجل: يا جاهل !! ترى نبتًا مستحصدًا فتقول أُكِلَ أم لا؟ فسكت عنه شن حتى إذا دخلا القرية لقيتهما جنازة، فقال شن: أترى صاحب هذا النعش حيًا أو ميتًا؟ فقال له الرجل: ما رأيت أجهل منك، ترى جنازة تسأل عنها أميت صاحبها أم حي ؟! فسكت عنه شن فأراد مفارقته فأبى الرجل أن يتركه حتى يصير به إلى منزله، فمضى معه فكانت للرجل بنت يقال لها “طبقة” فلما دخل عليها أبوها سألته عن ضيفه فأخبرها بمرافقته إياه وشكا إليها جهله، وحدّثها بحديثه فقالت يا أبت ما هذا بجاهل، أما قوله: “أتحملني أم أحملك” فأراد أتحدثني أم أحدثك حتى نقطع طريقنا، وأما قوله: “أترى هذا الزرع أُكل أم لا” فأراد هل باعه أهله فأكلوا ثمنه أم لا، وأما قوله في الجنازة: “أترى صاحب هذا النعش حيا أو ميتا؟” فأراد هل ترك عقبا يحيا بهم ذكره أم لا.

فخرج الرجل فقعد مع شن فحادثه ساعة ثم قال: أتحبُّ أن أفسِّر لك ما سألتني عنه؟ قال شن نعم فسِّره، ففسره، فقال شن: ما هذا من كلامك، فأخبرني عن صاحبه؟ قال ابنة لي، فخطبها إليه فزوّجه إياها وحملها إلى أهله، فلما رأوها أنها تشبهه أو تفوقه في الذكاء والدهاء، قالوا: وافق شن طبقة، فذهب قولهم مثلاً يضرب للمتوافقين.

وقال: لقد أعلنت السلطة برنامجها للأربع سنوات القادمة بدون جداول زمنية، وبدون خطط تنموية وميزانيات تفصيلية، وبدون أرقام، الأمر الذي يدل على الضبابية وغياب الرؤية الواضحة، ويمنع المتابعة والمراقبة وصرف الميزانية بشكل صحيح. كما خلى خطاب السلطة أمام البرلمان من أي خطط تتعلّق بالإصلاح السياسي ومعالجة الملفات الساخنة العالقة على الساحة الوطنية، مما يُعدُّ مؤشّرًا على التعاطي الجامد وغير الصحي مع هذه الملفات، وغياب الإرادة الجدية للتطوير والدفع بعجلة التنمية للأمام. وكانت السلطة قد وعدت في بداية الفصل التشريعي الماضي بأن تقدِّم برنامجًا تفصيليًا لكل وزارة كما ينص دستور المنحة (دستور مملكة البحرين) غير الشرعي المعمول به (المادة: 88) إلا أنّها لم تفِ بما وعدت. وقد أعربت جمعية الوفاق عن هواجسها باستمرار السلطة على نفس المنوال في الفصل التشريعي الجديد، وتوقّعت بأن يستمر أداء الحكومة على نفس المستوى المتعارف والمتواضع (بيان الوفاق بمناسبة إعلان برنامج الحكومة).

وقال: الملك هو الذي يقوم بتعيين رئيس الوزراء والوزراء ويعفيهم من مناصبهم ولديه يسألون عن أعمالهم وفق دستور المنحة (المادة: 33. الفقرتين: ج + د) وليس للبرلمان حق منح الثقة وحجبها عن الحكومة، والواقع أنّ مكانة السلطة التنفيذية في الدولة ـ وفق دستور المنحة ـ فوق مكانة البرلمان (السلطة التشريعية المفترضة) وللسلطة التنفيذية الهيمنة الكاملة على البرلمان الصوري، وعليه فإن عرض السلطة التنفيذية برنامجها على البرلمان ما هو إلا إجراء شكلي وليس له أية قيمة عملية.

والسؤال: إذا كان الأعضاء المنتخبون في البرلمان قد قبلوا لأنفسهم بدور شكلي ضئيل وإنتاجية هزيلة، وقد دخلوا البرلمان بدون خطط وبدون برامج تنموية وإصلاحية ـ لاسيما في الانتخابات الأخيرة ـ لأنهم يعلمون علم اليقين ـ بحكم واقع المؤسسة ونتائج التجربة ـ بأنّهم لن يقدروا على تنفيذ شيء من برامجهم الطموحة في الإصلاح والتطوير، وذلك بسبب سطوة السلطة التنفيذية وهيمنتها عليهم، فالمشاركة شكلية، والمؤسّسة صورية، وقواعد العمل مختلّة ومحكومة بإرادة السلطة المطلقة وحدها، وقد قبلوا طائعين بقواعد اللعبة وما يُقدّم إليهم من السلطة التنفيذية من فُتات وهم في عافية من تبعات الإصرار على المطالبة بالحقوق الطبيعية لأبناء الشعب وتحصيلها، فلماذا يحتجّوا على السلطة التنفيذية ولا يقبلوا منها بمثل ما قبلوه لأنفسهم.

وقال: الواقع إنّ جميع ما يُنجزه أعضاء البرلمان من خلال عملهم في البرلمان وخارجة ما هو إلا عطايا ومكرمات من السلطة التنفيذية، ولها الفضل به عليهم، ولهذا فهم يطلبون منها المزيد من العطايا والمكرمات لعلمهم بعجز الأدوات البرلمانية عن تحقيق أي انجاز بشكل مستقل عن إرادة السلطة التنفيذية ورغبتها، وهي وحدها التي تقرّر منحهم أو حرمانهم، وقد قبلوا بقواعد اللعبة هذه الحاكمة في البرلمان الصوري الذي وظيفته تزيين وجه السلطة، وتعزيز سلطتها المطلقة، وتمرير أجندتها وإمضائها باسم الشعب، وهم يشتكون من بخلها عليهم مما يسبّب لهم بعض الإحراج أمام ناخبيهم، ذلك وإن أسعفهم الدعم المُعَلّبْ من قبل بعض الناخبين، كما تسعف الموالاة السلطة!!

وقال: “وافق البرلمان السلطة كما وافق شَنْ طبقة” ولكن ليس في الذكاء والدهاء، وإنما في الافلاس، والضحك على الذقون، وأكل أموال الشعب عدوانًا وبدون استحقاق.

المحامون المنتدبون للدفاع عن المتّهمين في الشبكة المزعومة

وبخصوص المحامين المنتدبين من السلطة للدفاع عن المتهمين في الشبكة المزعومة، قال: لن أتحدث في الجانب القانوني الذي يتعلّق بتعيين محامين بديلين عن فريق الدفاع الأصلي المنسحب، فهذه مهمّة فريق الدفاع الأصلي نفسه، وما أريد توضيحه، هو: إنّ فريق الدفاع الأصلي لم يتخلَّ عن موكليه، وإنما انسحب بهدف صيانة حقوق المتهمين وضمان توفير محاكمة عادلة لهم، لأنه تقدّم بطلبات قانونية تضمن حقوق المتهمين وتوفير المحاكمة العدالة لهم، ولكن المحكمة رفضت هذه الطلبات، ويعتقد المحامون بأنّ تنازلهم عن هذه الطلبات القانونية يضرُّ بحقوق المتّهمين وبضمان توفير محاكمة عادلة لهم، مما يجعل منهم بتنازلهم عن الطلبات بمثابة شهود الزور في القضية، وقد احترموا شرف المهنة، ولم يرضوا لأنفسهم أن يكونوا بمثابة شهود الزور في القضية، ولهذا انسحبوا، وقد أدرك المتّهمون حقيقة موقف فريق الدفاع فتمسّكوا بهم ورفضوا بشكل قاطع وأكيد المحامين المنتدبين من السلطة، وقد احترم (19: محاميًا) من أصل (22: محاميًا) من المحامين المنتدبين شرف المهنة، ورفضوا مهمة الترافع عن متّهمين لا يريدونهم في الدفاع عنهم، ورأوا إنّ في الترافع عنهم بدون إرادتهم شبهة دستورية، ونحن نثمِّن عاليًا لهم هذا الموقف المهني الشجاع.

وقال: السلطة هي الخصم في القضية، والحكم قضاء السلطة، وتكتمل دائرة انتهاك حقوق المتهمين بتعيين السلطة لفريق الدفاع أيضًا!!

وقال: نحن نؤيِّد انسحاب فريق الدفاع الأصلي، ونثمِّن عاليًا موقف المحامين المنتدبين الذين رفضوا التكليف من السلطة بمهمة الدفاع عن المتهمين بخلاف إرادتهم، ونعتبر المحامين الذين يقبلون بالمرافعة عن المتهمين بدون إرادتهم متواطئون مع السلطة وشركاء لها في انتهاك حقوق المتهمين والتفريط في ضمان المحاكمة العدالة لهم، لاسيما وأن بعضهم على رباط وثيق مع السلطة، ومتورِّط في التشهير بالمتهمين والمساهمة في إدانتهم شعبيًا قبل محاكمتهم، وسوف يكون هذا الموقف محسوبًا عليهم، ويتحملّون جميع تبعاته الحقوقية والقانونية.

مسائل متفرقة

(1): بخصوص مبادرة جمعية “أمل” لإعادة تنظيم صفوف المعارضة، قال: لتيار الوفاء الإسلامي مبادرة مشابهة، وقد تحدّثت عنها في حلقة سابقة من حلقات لقاء الثلاثاء، فإذا كان لجمعية أمل نفس التوجّه، فسوف يكون بيننا وبينهم التعاون ـ إن شاء الله تعالى ـ لتحقيق الهدف الوطني المشترك.

 (2): وبخصوص دعوة البعض لتعطيل النقد، قال: ممارسة النقد ضرورة روحية وعلمية وعملية.

  • أما كونه ضرورة روحية: فإنّ الله ذي الجلال والإكرام لا يُعبد إلا بالحق، فيجب ملاحقة الحق من خلال النقد من أجل العبادة الخالصة لله الواحد القهار.
  • وأما كونه ضرورة علمية: فإنّ معرفة الحقائق وتطوير العلوم لا يكون إلا بممارسة النقد.
  • وأما كونه ضرورة عملية: فإنّ التصحيح والتطوير في أوضاع المجتمع لا يكونا إلا بممارسة النقد.

وقال: الدعوة إلى تعطيل النقد العلمي الملتزم تعبِّر عن مزاج دكتاتوري وجهل، وإنّ البديل عن النقد هو الاستبداد والظلم والتخلّف دائمًا.

 وقال: البعض يصنّف النقد العلمي الملتزم في دائرة التسقيط، والبعض يصنّف التسقيط في دائرة النقد، وقد سمعت من أشخاص قياديين بأنّ عبد الوهاب هو المسؤول عمّا يتعرّض له سماحة الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله تعالى) من تسقيط، وهذا ما يروّجون له على نطاق واسع، ولكنهم والحمد لله رب العالمين لم يزعموا بأني أقول في الجلسات الخاصّة خلاف ما أقوله في المجالس العامة، وما أقوله في المجالس العامّة كله منشور، فمن يطلب الحقيقة عليه أن يقرأ، ومن لا يقرأ فهو غير معذور، ويتحمّل وزر ما يروّج له وما يأخذ به من افتراءات، وقد أدرك الكثيرون بطلان ذلك الاتهام وكفّوا عن الترويج له بعد أن حضروا بشكل متتالي إلى لقاء الثلاثاء وسمعوا بشكل مباشر ما يدور فيه أو قرأوا ما يُكتب في تغطية لقاء الثلاثاء وعرفوا بأنّ الحقيقة هي على خلاف ذلك الاتهام تمامًا، وبعضهم كَتَبَ وتحدَّثَ عن قناعته هذه.

وقال: الحقيقة إنّ النقد العلمي الملتزم فضيلة، والتسقيط رذيلة، ومن لا يميّز بين فضيلة النقد ورذيلة التسقيط هو ذو بصيرة عمياء، مثله كمثل أعمى البصر الذي لا يميز بين النور والظلام ولا بين الليل والنهار.

 (3): وبخصوص مقولة: “من يقود من” قال: لقد حدّدت النصوص الدينية والسيرة الطاهرة للرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطيبين الطاهرين (عليهم السلام) قواعد العلاقة الصحيحة بين القيادة وبين القاعدة الجماهيرية (الأتباع) وقد ذكرت بعضًا منها في لقاء الثلاثاء السابق، ومقولة: “من يقود من” تدلُّ على وضع غير صحي في أمر القيادة، بهدف تعطيل النقد والمحاسبة للقيادة، فلا تظهر مثل هذه المقولات حينما تكون أوضاع القيادة مع القاعدة الجماهيرية مستقرّة وتجري في أجواء سليمة وطبيعية، قول الله تعالى: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(([21]).

وقال: من المؤسف جدًا أن تُشوّه الصور الناصعة للتجارب الإسلامية الناجحة، مثل: تجربة حزب الله في لبنان من أجل تبرير دكتاتورية دينية ونماذج فاشلة في القيادة، فيقال: بأنّ دعوة سماحة السيد حسن نصر الله إلى ممارسة النقد هي أمر شكلي ولا حقيقة له، فكوادر الحزب تُسيّر بالمطرقة وليس بالقناعة والاختيار، ولولا ذلك لعمّت الفوضى صفوف الحزب بشكل أسوء مما هو في صفوف المؤمنين في البحرين.

وقال: إذا كان حزب الله يُسيّر كوادره بالمطرقة ـ كما يزعم هؤلاء ـ فهل يسير العماد عون وقيادات الحزب الشيوعي وحزب البعث وتيار التوحيد وغيرهم والنساء المتبرِّجات اللواتي يدافعن بحماس شديد عن السيد حسن نصر الله وعن المقاومة بالمطرقة أيضًا، أم هي القناعة بسلامة المنهج وبالكفاءة وقوة الإنجاز؟!

وقال: إذا نجح حزب الله في تسيير كوادره بالمطرقة في حالة السلم، فما هي سلطته على المقاتلين في ساحات الحرب والمواجهة؟!

وقال: يجب الكف عن هذا الهراء الذي يشوِّه الصورة الناصعة لتجربة الحزب، والخضوع لمنطق العقلاء والسنن، فإنّ هذا الهراء الفج لا يقبل به عاقل، لأنه مخالف لمنطق الأفكار والأشياء والسنن.

 (4): وبخصوص تكليف القائد وتكليف الأتباع، قال: حينما يُعطي الفقيهُ الفتوى فإنه يُعطيها استنادًا للدليل الشرعي، ومن الخطأ المنهجي والجهل المركب والمخالف للشريعة المقدسة أن يرد على فتوى الفقيه غير الفقيه.

وبخصوص المسؤولية الشرعية، قال: مثلما يجب على القائد أن ينظر في تكليفه الشرعي يجب على الأتباع أن ينظروا في تكليفهم الشرعي، فالقائد والأتباع كلٌّ منهم مسؤول عن تكليفه الشرعي وسوف يسألون عنه في يوم القيامة، ولا يُعفي الأتباع من المسؤولية أمام الله جل جلاله الاعتذار بأنّهم اتبعوا قائدهم، قول الله تعالى: )إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ(([22]).

وقال: يجب التمييز بين العلم والخبرة، فقد يكون الإنسان على درجة كبيرة من العلم، ولكنه لا يمتلك الخبرة التي تسعفه في فهم مكائد الأعداء، وحسن الإدارة، وتحمّل المسؤولية العامة، وهذا هو الدرس الذي قدّمه لنا القرآن الكريم عن بداية التجربة الإنسانية في التأريخ، حيث كان آدم (عليه السلام) من الناحية العلمية أستاذًا إلى الملائكة، ومنهم جبرائيل وميكائيل، قول الله تعالى: )قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(([23]) ولكن من ناحية الخبرة فإن إبليس خدعه وأخرجه من الجنة، قول الله تعالى: )وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ` فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ` وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ` فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ` قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(([24]) فنجاح إبليس في إخراج آدم (عليه السلام) من الجنّة لم يكن بسبب نقص العلم لدى آدم (عليه السلام) وإنّما بسبب نقص الخبرة العملية في الحياة، فليس كل عالم يمتلك بالضرورة الخبرة والكفاءة ليكون قائدًا، وعدم التمييز بين العلم والخبرة يؤدّي إلى حدوث مشاكل كثيرة في حياة الأفراد والمجتمعات.

وقال: هناك بعدٌ آخر يجب الوقوف عنده، وهو ارتباط العلم بالعمل، فقد يضعف العالم تحت تأثير الخوف أو الطمع، وقد يكون متّصفًا بالتكبّر والعناد، مثل: إبليس، الذي أخرجه تكبّره من ساحة القدس وحوله من عابد في صفوف الملائكة إلى شيطان رجيم، قول الله تعالى: )قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(([25]) وقول الله تعالى: )قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ(([26]) ومثل: بلعم ابن باعوراء الذي كان على مستوى علمي كبير، وكان مستجاب الدعوة، ولكن بسبب الحسد فقد كل شيء، وأصبح مثله كمثل الكلب في القرآن الكريم، قول الله تعالى: )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ` وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون(([27]).


([1]) فصلت: 44.

([2]) يونس: 42 ـ 43.

([3]) النمل: 80 ـ 81، والروم: 56.

([4]) فصلت: 43.

([5]) فصلت:41 – 42.

([6]) طه: 57.

([7]) يونس: 78.

([8]) فصلت: 26.

([9]) فصلت: 44.

([10]) فصلت: 26.

([11]) المائدة: 41.

([12]) فصلت: 44.

([13]) الإسراء: 81 ـ 82.

([14]) المائدة: 13.

([15]) المائدة: 41.

([16]) يونس: 108.

([17]) الأنفال:  29.

([18]) النهج، قصار الحكم.

([19]) ميزان الحكمة.

([20]) الشعراء: 109.

([21]) آل عمران: 159.

([22]) البقرة: 166.

([23]) البقرة: 33.

([24]) الأعراف: 19 ـ 23.

([25]) التكوير: 25.

([26]) الأعراف:  13.

([27]) الأعراف: 175– 176.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى