لقاء الثلاثاء (62) | 4-10-2010
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
العلم والعمل في طريق الكدح للوصول إلى الله
بدأ الأستاذ عبد الوهاب حسين حديثه الفكري في مجلسه لهذا الأسبوع وفي معرض الإجابة على أسئلة الحضور حول “العلم والعمل في طريق الكدح للوصول إلى الله ذي الجلال والإكرام” وقال : قال الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(([1]) فكل إنسان هو في الحقيقة كادح إلى الله ذي الجلال والإكرام في الحياة الدنيا، وهذه هي حقيقة الحياة الدنيا ووظيفتها، والكدح هو جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها، وقد وضع الله عز وجل في تكوين الإنسان كل ما يلزم من القوة والاستعداد والمواهب والقابليات لهذا السير والكدح، لينتهي به المطاف ـ لا محالة ـ إلى مصيره الوجودي الحاسم الذي هو مقدم في حساب الأولويات لدى الإنسان العاقل المؤمن على كل أمر مصيري في الحياة الدنيا، مثل: التعليم والوظيفة وبناء الأسرة، ونحوها، بل يكون التعاطي مع التكليف الشرعي وجميع المسؤوليات في الحياة الدنيا كلها على أساس النظر إلى هذا المصير الوجودي الحاسم، وينتهي هذا الكدح على ضوء العمل إلى نهايتين:
- كدح ينتهي إلى الجنة والرضوان، قول الله تعالى: )فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ` فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ` وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا(([2]).
- وكدح ينتهي إلى النار والعذاب، قول الله تعالى: )وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ` فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ` وَيَصْلَى سَعِيرًا(([3]).
وقال: هذا الكدح له مقومان أساسيان، وهما: العلم والعمل، وهما لا ينفصلان، فلا خير في علم بلا عمل، ولا خير في عمل بلا علم.
وقال: الرؤية القرآنية للعلاقة بين العلم والعمل تؤكّد على أن قيمة العلم هي بالعمل، وفي هذا الموضوع جوانب عديدة في البحث القرآني، إلا أني سوف أتناول جانبًا واحدًا منها، وهو تساوق العمل مع العلم، فلا يقصر العمل عن العلم، ولا يتخلف دونه، وقد جاء في الدعاء الشريف: “اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه” فالإنسان الكادح أو السالك إلى الله ذي الجلال والإكرام.
- يسعى من أجل المزيد من العلم والمعرفة.
- ويجاهد لكي يعمل بما علم، لكيلا يخالف العمل العلم، ولا يقصر عنه، ولا يتخلّف دونه.
فكلّما تعلم أكثر وعمل بما يعلم كلّما تقدم ودنى من ربه أكثر.
وقال: قصور العمل عن العلم وتخلّفه دونه يمثّل حالة شاذة وممقوتة، فهناك حالتان:
· حالة يكون فيها العمل متساوق مع العلم والمعرفة.
· وحالة يكون فيها العمل قاصر عن العلم ومتخلف دونه.
وقال: يعتبر القرآن الكريم الحالة الثانية حالة غير إنسانية، ويسود الحالة المجتمعية التي يتخلف فيها العمل عن العلم والمعرفة القلق والهزال والتخلّف، قول الله تعالى: )مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(([4]).
وقال: يكثر تخلّف العمل عن العلم في حالات كثيرة ولكن أكثرها حالتان:
- الجهاد، قول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(([5]).
- والإنفاق، قول الله تعالى: )إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ` إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ` هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ(([6]).
وقال: أهم سبب يقف وراء قصور العمل وتخلّفه عن العلم هو الخلل في اليقين، قول أمير المؤمنين (عليه السلام): “التارك للعمل غير موقن بالثواب”([7]) وقال (عليه السلام) في وصف المتقين: “إنّ المتقين في الدنيا هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، خضعوا لله بالطاعة، غاضّين أبصارهم عمّا حرّم الله عزّ وجل، واقفين أسماعهم على العلم، نزلت منهم أنفسهم في البلاء، كالذي نزلت في الرخاء، رضىً بالقضاء، لولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقًا إلى الثواب، وخوفًا من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها وهم فيها يعذبون”([8]) فالعلم هو المحرِّك للإرادة التي تقف وراء العمل، فكلما حصل اليقين بالعلم، كلّما قوية الإرادة، وكلّما قوية الإرادة، لازم العمل العلم والمعرفة، فلا يتخلّف عنهما ولا يقصر دونهما.
وقال: لتساوق العمل مع العلم فوائد كثيرة، منها:
- مضاعفة الأجر والثواب.
- وقوة المعرفة ونفاذها، سواء المعرفة النظرية أو التشخيصية العملية.
- ومغفرة الذنوب.
قول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ (وهو مضاعفة الثواب) وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ (وهو قوة المعرفة ونفاذها) وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(([9]).
وقال: من ثماره أيضًا البركة في العمر والرزق والذرية والعمل والنشاط، قول الله تعالى: )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ` يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ` وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(([10]).
فعمر دعوة الرسول الأعظم الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (23 سنة) غير أن الله تبارك وتعالى بارك له في دعوته، فامتدّت واتّسعت واخترقت الحدود الجغرافية والحواجز السياسية والمجتمعية والثقافية حتى شملت العالم بأسره، وسوف تكون الدعوة الوحيدة الحاكمة على وجه الأرض بإذن الله تعالى، قول الله تعالى: )هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا(([11]) وكذلك الحال مع ثورتي الإمام الحسين (عليه السلام) والإمام الخميني (قده) والمقاومة الإسلامية في لبنان.
وقال: انظروا إلى بركة الله تبارك وتعالى للرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذريته، قول الله تعالى: )بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ` إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ` فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ` إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ(([12]) فكل هذه الألوف من السادة الكرام في العالم هم من السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وفيهم القادة العظماء والساسة والعلماء.
وانظروا إلى بركة الله تبارك وتعالى للعلاّمة المجلسي في إنتاجه العلمي الواسع والغزير، وهكذا.
المؤمن حر لا تقيّد حركة تفكيره الظروف
وحول تجربة الإمام الصادق (عليه السلام) التي يرى البعض فيها إنّ الإمام (عليه السلام) قد عطّل الجانب السياسي من أجل النهوض بالشق الثقافي، قال: يفترض في ارتباط الإنسان المؤمن بالله عز وجل، أن تحرّره جاذبية هذا الارتباط المقدّس من أسر الظروف التي قد تكبِّله وتقيّد حركة تفكيره، وترفعه إلى التحليق في أفق الحق المطلق الساطع، ولكن التجربة تقول بأنّ الظروف التي يعيش في ظلِّها بعض المؤمنين أو المواقع التي يشغلونها قد تأسرهم وتقيّد حركة تفكيرهم، فيكون نتاج تفكيرهم هو انعكاس للظروف التي تحيط بهم أو المواقع التي يشغلونها، ولا تعكس صفاء الدين وحيويته، ولا أفق الارتباط المقدس بالله الواحد الصمد، وبين أيدينا الكثير من المفاهيم والأحكام التي هي من ثمار هذا الأسر والقصور والتخلف.
وبخصوص تجربة الإمام الصادق (عليه السلام) قال: لقد بحثت هذا الموضوع بتوسع في كتاب (الإمامة في القرآن الكريم) وقد جرت محاولة لطباعة هذا الكتاب إلا أنّها لم تتم، وسأشير بشكل سريع إلى بعض النقاط المهمّة لفهم تجربة عمل الإمام الصادق (عليه السلام).
(1): يجب أن نميّز بين ترتيب الأولويات في عمل الأئمة (عليهم السلام) والفصل بين مختلف الجوانب، فقد يتقدّم الجانب العلمي أو السياسي أو العسكري في عمل أحد الأئمة (عليهم السلام) وتكون له الأولوية على غيره من الجوانب، مثل:
· تقدم الجانب السياسي في عمل الإمام الحسن (عليه السلام).
· وتقدم الجانب العسكري في عمل الإمام الحسين (عليه السلام).
· وتقدم الجانب العلمي في عمل الإمام الصادق (عليه السلام).
إلا أنّ هذا لا يعني فصل الإمام بين هذه الجوانب المختلفة وتعطيله لبعضها، فترتيب الأولويات يخضع للظروف وما سبق إنجازه من عمل على مستوى التبليغ بالرسالة، والتطبيق لها، وبناء الأمة.
وقال: بروز الجانب العلمي في عمل الإمام الصادق (عليه السلام) لا يعني فصله للدين عن السياسة، فهذا الفصل مخالف للمعرفة الضرورية من الدين، ولا تخليه عن الجانب السياسي.
(2): لقد أوضح لنا القرآن الكريم بأنّ الغاية من بعث الأنبياء (عليهم السلام) وإنزال الكتب السماوية، هو إقامة القسط والعدل بين الناس، قول الله تعالى: )لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(([13]) ومن الواضحات إنّ إقامة القسط تحتاج إلى العمل السياسي، وقد تحتاج إلى العمل العسكري، فضلاً عن الأعمال الأخرى، مثل: العمل الاجتماعي والعمل الاقتصادي ونحوهما، ولا يكفي التبليغ بالرسالة لإقامة القسط وتحقيق العدل الاجتماعي بين الناس، فلا أحد من الأنبياء والأوصياء (عليه السلام) يشتغل بالعمل الفكري ويتخلى عن العمل السياسي، لأنّ العمل السياسي من المقدّمات اللازمة لإقامة القسط والعدل بين الناس، ومن يتخلّى عنه فإنه يتخلّى عن العمل اللازم لتحقيق غاية من أهم غايات الأنبياء عليهم السلام) ورسالات السماء، وهو إقامة القسط والعدل بين الناس.
وقال: الآية تبيّن لنا أيًضا العلاقة بين المشروع الفكري والمشروع السياسي، فإقامة القسط وهو مشروع سياسي، يستند إلى البينات والكتاب والميزان التي هي من المشروع الفكري، وفي الحقيقة: إنّ كل مشروع سياسي لا يستند إلى مشروع فكري، فهو مشروع سلطوي، ويفتقد إلى القيمة الحضارية والإنسانية.
(3): إذا قمنا بتحليل الوقائع التاريخية نجد أنها توصلنا إلى نتيجة مغايرة تمامًا لما يعتقد هذا البعض بخصوص عمل الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يعتقدون بأنّه استغرق في العمل الفكري وعطّل العمل السياسي.
فإننا نعلم بأنّ الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) قد تسلّم زمام الإمامة بعد أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) وقد قضى الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) معظم زمان إمامته مضيّقًا عليه تحت الحصار أو في السجن، وبعده تسلّم زمام الإمامة ابنه الإمام على الرضا (عليه السلام) وقد ذكر المؤرخون بأنّ الخليفة المأمون العباسي قد أعطى ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) من أجل كسب ود الشيعة لما يمثلونه من ثقل وقوة في العالم الإسلامي.
والسؤال: إذا كان الإمام الصادق (عليه السلام) قد اشتغل بالعمل الفكري وأهمل العمل السياسي، فإنّ النتيجة التي تترتّب على ذلك هو تفتّت الشيعة وضياعهم في ظلِّ الاعتقال الطويل للإمام الكاظم (عليه السلام) وحصاره والتضييق عليه وصعوبة تواصل الشيعة معه، إلا أنّ النتيجة كانت مخالفة إلى ذلك تمامًا، فقد تحوّل الشيعة في ظل إمامته إلى قوّة كبيرة فرضت على الخليفة العباسي المأمون إعطاء ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) مما يدل على إنّ الإمام الصادق (عليه السلام) إلى جانب نجاحه في عمله الفكري، فقد نجح في تنظيم صفوف الشيعة في عهده، وربّاهم تربية سياسية وحركية ناضجة ومتقدّمة، بحيث يستطيعوا مواصلة مسيرتهم بنجاح، ويتقدّموا فيها للأمام، في ظل الاعتقال الطويل للإمام الكاظم (عليه السلام) والتضييق عليه.
وقال: إنّ الاستدعاء المتكرّر من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور للإمام الصادق (عليه السلام) ثمّ قيامه باغتياله بالسم في نهاية المطاف، يدلُّ على إدراك أبي جعفر المنصور للخطر الحقيقي الكبير الذي يمثله الإمام الصادق (عليه السلام) على عرش خلافته، وهنا يجب التمييز بين واقعيّة هذا الخوف، وشرعيّة العقاب، فقد حاول البعض إثبات عدم واقعية الخوف لدى أبي جعفر المنصور في سبيل إثبات براءة الإمام الصادق (عليه السلام) وهذا خطأ كبير، لأنّ الخوف كان واقعيًا، وعمل الإمام الصادق (عليه السلام) يتوفّر على الشرعيّة الدينية والسياسيّة الكاملة، بينما خلافة أبي المنصور غير شرعية، والعقاب الذي أنزله بالإمام الصادق (عليه السلام) غير شرعي أيضًا.
وقال: لو كان الإمام الصادق (عليه السلام) منشغلاً بالجانب الفكري ومهملاً للجانب السياسي، لما سبّب وجوده ودوره قلقًا شديدًا لدى الخليفة العبّاسي أبي جعفر المنصور، بل كان عمله درعًا لحماية خلافته ودرأ الكثير من الأخطار عنها، الأمر الذي كان ينبغي لأبي جعفر المنصور أن يشكر الإمام الصادق (عليه السلام) عليه ويجازيه، لا أن يحاصره ويسجنه ويضيّق عليه، وهذا معروف في التعاطي مع العلماء والعباد وفق قواعد اللعبة السياسية في الماضي والحاضر.
وقال: الجدير بالذكر إنّ أبي جعفر المنصور كان أحد تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) فهو ملم بأبعاد شخصيته والكثير من منهجه وعقيدته، فقلقه من الإمام ليس مبنيًا على جهل فكري وسياسي به.
وقال: القول بأنّ حركة الإمام (عليه السلام) كانت حركة فكرية بحته، يدل على جهل بحقيقة الدين، وجهل بحقيقة الإمامة، وخطأ منهجي في قراءة وتحليل السيرة الطاهرة للإمام الصادق (عليه السلام).
أطروحات سلبية حول التضامن
وبخصوص حالة التضامن بين قوى المعارضة في ظل القمعة الأمنية الأخيرة، قال: هناك أمر مهم جدًا قد أغضب السلطة في ظل هجمتها القمعية على بعض أطراف المعارضة، وهي حالة التضامن بينها، وما رافقها من حالة تضامن شعبية.
وقال: ولكن للأسف الشديد ظهرت بعض الأطروحات التي أثّرت ولا تزال تؤثر سلبًا على حالة التضامن المحمودة هذه، وبعض هذه الأطروحات أسوء وأظلم من البعض الآخر، وقد ظهرت في بعض المنتديات الإلكترونية، والمجالس، والحوارات، واللقاءات، وسوف أذكرها مرتبّة من السيء إلى الأسوأ، ليعلم المواطنون حقيقة ما يجري على الساحة الوطنية، ثم يتصرّفوا عن وعي وحكمة، والأطروحات هي:
· إنّ الأطراف المستهدفة قد اختارت منهجها ومواقفها بنفسها، وأنها تتحمل وحدها مسؤولية نتائج هذا الخيار، ولا ينبغي أن تتحمّل الأطراف الأخرى مسؤولية ذلك.
· إنّ الأطراف المستهدفة والمعتقلين مذنبون، ويجب أن يتحمّلوا وزر ما عملوا.
· إنّ الأطراف المستهدفة تتحمّل بسبب منهجها ومواقفها مسؤولية ما وقع ضد قوى المعارضة والشيعة من استهداف وأضرار، فلو لم يكونوا موجودين، لما حدث هذا الاستهداف ضد قوى المعارضة والشيعة، ولما حصل لهما ما حصل من أضرار، ويشمل ذلك: التجنيس والتمييز الطائفي ونحوهما.
· إنّ الأطراف المستهدفة هم في الأصل ضد خط العلماء، وتنبغي في الأصل مواجهتهم والتضييق عليهم، وقد كفى الله عزّ وجل بالسلطة المؤمنين شرّ مواجهتهم.
· إنّ وجود الأطراف المستهدفة ودورها على الساحة هو في الحقيقة تمكين للعلمانية!!! فالقضاء على وجودهم نعمة يُشكر عليها الخالق، وللأسف الشديد فإنّ هذا يقال عن تيار الوفاء الإسلامي وهو تيار إسلامي أصيل، وعلى رأسه علماء دين ومؤمنين مشهود لهم بالعلم والفهم والتقوى.
وقال: لا أرغب في مناقشة هذه الأطروحات الباطلة، لأنها لا تستحق المناقشة ـ وإن كنت قد ناقشت بعضها في لقاءات سابقة ـ ولكن لو شئت أن أقسم، ليس على بطلان هذه الأطروحات ومجانبتها للحقيقة والواقع، ولكن على أنها من وحي الشيطان الرجيم ووسوسته وتزيينه لأقسمت، ونصيحتي للمؤمنين جميعًا أن يستعيذوا بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فيما يفكّرون ويقولون ويفعلون، وأن ينأوا بأنفسهم عن مثل هذه الأطروحات القبيحة، ففيها ظلم عظيم وتجنّي صريح على المؤمنين، وليحذروا الله رب الدنيا والآخرة، وأنّبه بأنّ هذه الأطروحات تحقّق للسلطة أكثر مما تريد، وهي تمارس الضغط على بعض الأطراف وتعاقبها من أجل الوصول إلى أقل مما تحقّقه هذه الأطروحات الظالمة والمجانبة للحق والحقيقة والصواب.
الرجاء والأمل في ظل الأزمة
وبخصوص الرجاء والأمل في ظل الأزمة، قال: لقد توقّعت حدوث هذه الأزمة قبل حدوثها بزمن ليس بالقصير، وقلت إننا سوف نستقبل في ظلِّها ليس ظروفًا صعبة فحسب بل أوضاعًا عصيبة، وهذا ما تشهده الساحة الوطنية في الوقت الراهن، فالاستهداف الحاصل ليس ضربًا بالسياط يمزّق الجلد فحسب، بل ضربًا يمزّق الجلد، ويكسر العظم، ويصل إلى بتر الأعضاء، ولكن على السلطة أن تسأل نفسها قبل أن نسألها نحن أو يسألها غيرنا: هل ستستطيع القضاء على المعارضة من خلال هذه الأفعال الشنيعة؟
وقال: الجواب بالطبع، لا.
فالوضع الذي خلقته السلطة ولا تزال تخلقه، هو وضع شاذ ومنحرف، لا يقبله عقل، ولا دين، ولا ضمير، ولا وجدان سليم، فلو فرضنا جدلاً إنّ السلطة نجحت في القضاء على تيار الوفاء، وحركة حق، وحركة والأحرار، ومركز البحرين لحقوق الإنسان، وغيرهم ـ ولن تنجح بإذن الله عز وجل والله الغالب على أمره ـ فإنّ هذه الأوضاع ستخلق معارضين جدد للسلطة، فلن تتوقف المعارضة حتى يتحقق الإصلاح الحقيقي، ويزول الظلم والجور والطغيان، وتلبّى مطالب الشعب العادلة، ويتمُّ القضاء على هذه الأوضاع الشاذّة والمنحرفة، فالمعارضة ستستمر، ولا مفر أمام السلطة إلا تحقيق الإصلاح والاستجابة لمطالب الشعب العادلة.
وقال: على السلطة أن تيأس من القضاء على المعارضة، وأن تتيقّن بأنّ ظلمها وجورها وطغيانها لن يستمروا، وإنّها كلّما أصرّت على الظلم والجور والطغيان أكثر، كلّما خسرت أكثر، وقد تخسر كل شيء.
وقال: أنا متمسّك بإنسانيتي وعزّتي وكرامتي، ولن أتخلى عنها ـ إن شاء الله تعالى ـ فأنا لا أملك الاستعداد للتخلّي عن كرامتي، وأن أعيش الذل والهوان، وقبل ذلك وبعده، أنا ملتزم بتكليفي الشرعي، وبمسؤوليتي الدينية والوطنية نحو هذا الشعب المسلم المسالم الغيور، ولا فرق عندي أن أكون بإنسانيتي وكرامتي وتكليفي في بيتي أو في السجن، وأن أخرج من السجن إلى بيتي، أو أخرج من السجن إلى قبري، المهم أن احتفظ بإنسانيتي وعزّتي وكرامتي وأعمل بتكليفي الشرعي ولا أتخلّى عن شيء من ذلك، وقد قلت هذا الكلام مرارًا وتكرارًا وأقوله وأكرّره الآن.
وأقول لكم أنتم، والى كل من يسمعني: هل لديكم الاستعداد للتخلّي عن إنسانيتكم وعزّتكم وكرامتكم والعيش في ذل وهوان من أجل أن لا تدخلوا السجن أو ألاّ تستشهدوا؟
وقال: إنّ مطالبنا عادلة ومشروعة، وهي مرتبطة بعزتنا وكرامتنا الإنسانية، فإذا تخلّينا عنها فإننا نتخلّى عن إنسانيتنا وعن عزتنا وكرامتنا الإنسانية، ونعيش في ذل وهوان، وهذا ما لا يرضاه عقل ولا دين ولا وجدان سليم، فمن يقبل به منكم فليقبل به، ولكن قبولكم به لن يعطّل المسيرة الوطنية الإصلاحية، ولن يمثل نهاية المطاف، لأن الوضع الذي خلقته السلطة ولا تزال تخلقه هو وضع شاذ ومنحرف ولا يمتلك مقومات البقاء والاستمرار، لأنه خلاف العقل والدين والضمير والوجدان السليم، فإذا قبلتم به أنتم، فسوف يأتي قطعًا من يصرُّ على التمسّك بإنسانيته وعزّته وكرامته وتكليفه الشرعي، ويعارض هذا الوضع الشاذ والمنحرف ويقاومه بكل قوة وصبر وثبات، ولا يبالي بالسجن ولا بالقتل، حتى يزول هذا الوضع الشاذ والمنحرف وتُصلح الأوضاع جميعها في الوطن العزيز، قول الله تعالى: )إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(([14]) فإذا لم أكن أنا ولا أنتم من يغير هذا الوضع الشاذ والمنحرف ويعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، فسوف يأتي غيرنا ليفعل ذلك.
وقال: ولهذا أنا لا أربط استمرار المعارضة ومصير الإصلاح على الساحة الوطنية بوجود سماحة الشيخ المقداد أو بتيار الوفاء أو غيرهم، فسواء اعتقل سماحة الشيخ عبد الجليل المقداد وعبد الوهاب حسين أو لم يعتقلا، وسواء خرجا من السجن إلى بيتيهما أو إلى قبريهما، وسواء بقي تيار الوفاء أو نجحت السلطة في القضاء عليه، فإنّ هذا لن يغيّر شيئًا في النتيجة النهائية، فمستقبل المعارضة ومصير الإصلاح يرتبط بالعقل والدين والوجدان السليم والسنن التاريخية وهي لا تقبل باستمرار هذا الوضع الشاذ والظالم الذي خلقته السلطة ولا تزال تصر عليه، وقد حصلت للشعب ـ والحمد لله رب العالمين ـ خبرة تراكمية في المعارضة والمطالبة بالحقوق، وأصبحت هذه الخبرة جزء من وجوده الديني والفكري والسياسي والحركي، وسوف تزول الشبهات التي تقبل بهذا الوضع الشاذ والمنحرف أو تقبل بالتعايش معه، وسوف ينجح الشعب في التغلب على جميع الصعوبات التي تقف في وجه حركته السياسية والمطلبية، ولن يفلح الدعم الخارجي الذي تحصل عليه السلطة ولا غيره في منع التغيير والإصلاح.
وقال: يرى البعض بأنّ العنف الشديد والإرهاب الظالم من شأنه أن يرعب المواطنين ويعيق حركتهم ويخلق لديهم اليأس من التغيير، مما يؤدّي إلى الجمود في حركة الإصلاح، وأرى بأنّ هذا الفهم سطحي ومبني على الظاهر والمباشر، وفي الحقيقة إنّ التمادي في الظلم والجور يؤدّي على المدى البعيد ـ بحسب طبيعة النفس البشرية ـ إلى زيادة الغضب والتوجّه نحو الانتقام الشديد، ويؤدّي على المستوى المجتمعي ـ بحسب السنن التاريخية ـ إلى زوال الحكم الظالم والمستبد.
وقال: أتذكر إنّ طالبًا سيئًا كان في الصف الثاني الإعدادي، وكان يؤذي طلبة الصف، ويؤذي أكثر أحد الطلبة المعروفين بالهدوء والأدب، ولم تنفع الإجراءات الإدارية في تأديبه وكف أذاه عن الطلبة، وذات يوم بالغ في إيذاء الطالب المعروف بالهدوء والأدب، ولم يتحمل الأخير أذاه، وبلغ الغضب لديه الذروة، فطلب مفتاح الصف من مراقب الصف بحجة رغبته في تنظيف الصف، وفي نهاية الدوام نجح في استمهال الطالب السيء حتى ينصرف الطلبة، فأقفل الباب عليه ووضع المفتاح في جيبه، وقال للطالب السيء بصرامة: لم أعد أتحمّل إساءاتك وأذاك، فإما أن تقتلني الآن أو أقتلك، فبهت الطالب السيء بالتغيّر المفاجئ في شخصيّة الطالب الهادئ وفي تصرفه، فترجّاه أن يتركه يخرج ولن يعود إلى الإساءة إليه، فأصر الطالب المؤدب على موقفه، فأخذ الطالب السيء يبكي ويترجى الطالب المؤدب أن يتركه يخرج، فلما وجد أنه تعلّم الدرس، وندم فعلاً، وتعهد بألا يعود إلى الإساءة إليه أو إلى غيره من الطلبة تركه، وهذا ما حدث فعلاً، فقد توقف بعد ذلك الطالب السيء عن الإساءة إلى الطالب المؤدب أو إلى غيره من الطلبة.
وقال: إنّ يزيد بن معاوية قد أصرّ على مبايعة الإمام الحسين (عليه السلام) له أو قتله، وتخاذلت الأمة عن نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) فقتله مع قلّة الناصر في عدد من خيرة أهل بيته وأصحابه الأوفياء في كربلاء، فلما قتله غضبت الأمة وشعرت بالذنب العظيم لعدم نصرة ابن بنت نبيها، ثم هبّت للتكفير عن ذنبها، حتى قتلت جميع القيادات التي شاركت في قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وانتهى الأمر بإسقاط النظام الأموي الحاكم والقضاء عليه!!
المشاركة في الظروف الراهنة إفساد للحالة القيمية
وبخصوص المشاركة في ظل الأوضاع الراهنة، قال: الكثير من المراقبين ووكالات الأنباء ربطت بين الانتخابات والهجمة القمعية، وكان الربط على نحوين:
· إنّ السلطة أرادت ضرب وجود قوى المعارضة المشاركة في البرلمان، وقد فنّدت هذا الطرح في لقاءات سابقة، ولا حاجة للتكرار.
· إنّ السلطة أرادت القضاء على الصوت المقاطع أو إضعافه قبيل الانتخابات، وهذا ما هو حاصل فعلا بنظر المراقبين من وراء الهجمة القمعية الأخيرة.
وقال: إذا كانت السلطة قد نجحت في أضعاف حضور الصوت المقاطع قبيل الانتخابات، فإنّ الذهاب إلى صناديق الاقتراع في ظلِّ هذه الأوضاع يؤدّي إلى ما هو أسوء من القمع والاعتقال، وهو إفساد الحالة القيمية والوجدانية بين الأخوة، فالمعتقلون وأسرهم إخوان لنا في الدين والوطن، وقد وقع عليهم ظلم كبير، وليس هو ظلم لحالات فردية، وإنما هو ظلم ذو بعد سياسي ومجتمعي عام، يتعلق بالإصلاح والمطالبة بالحقوق، ويستهدف إرهاب المواطنين والقضاء على هذا الصوت الحر المعارض، وآثاره شاملة، وقد انعكست المعرفة بهذا الظلم وأبعاده في تقارير ومواقف العشرات من المؤسسات الحقوقية الدولية، وأرى بأنّ الذهاب إلى صناديق الاقتراع في ظلِّ هذا الظلم الواقع على الأخوة في الدين والوطن، يعني فصل مصير الأخوة عن بعضهم، ويعطي مصداقية للأطروحات السيئة السابقة، وهذا مما يفسد قطعًا الحالة القيمية والوجدانية بين الأخوة.
وقال: في عاداتنا وتقاليدنا البحرينية: لو إنّ أحدًا أراد الزواج، وفي ليلة زواجه توفّى قريبٌ له ـ من أية درجة كان ـ فإنّ الزواج غالبًا ما يؤجّل ـ حتى لو كان المتوفي كبيرًا في السن ـ وذلك تقديرًا إلى الحالة القيمية التي تحترم صلة الرحم.
وقال: لكن يبقى مع ذلك مجال لحق الاختلاف والاختيار.
وبخصوص علاقة الانتخابات بالهجمة القمعية، قال: هناك أطروحة لدى المشاركين من قوى المعارضة تقول بأنّ الهجمة القمعية تستهدف إضعاف مشاركة المعارضة في البرلمان، وفي نفس الوقت توجد لديهم أطروحة تؤكّد على أن قوى المعارضة سوف تحصل على نفس العدد من المقاعد التي حصلت عليها في الدورة السابقة للبرلمان إن لم يكن أكثر.
وقال: في الحقيقة لا يوجد انسجام بين هاتين الأطروحتين، فكيف تستهدف السلطة إضعاف مشاركة المعارضة في البرلمان، ومع ذلك تستطيع المعارضة الحصول على نفس العدد السابق من المقاعد التي حصلت عليها في الدورة السابقة للبرلمان وأكثر مع وجود المقاطعة لدى شريحة واسعة من المواطنين، وما تمتلكه السلطة من مفاتيح نتائج الانتخابات بإجماع قوى المعارضة، وذلك من خلال المجنّسين الموجودين خارج الحدود، والعسكريين وما أكثرهم، والمراكز العامة، والقدرة على التزوير.
وبخصوص اختلاف الرأي بين المشاركين والمقاطعين وكل يرى صواب رأيه، قال: من حق جميع الأطراف والأشخاص أن يطرحوا رأيهم في المشاركة والمقاطعة والموقف منها ومن سائر الأوضاع والقضايا على الساحة الوطنية، وعلى المواطنين تقع مسؤولية الاختيار بحسب فهمهم للحق والصواب وتقديرهم للمصلحة العامة بعيدًا عن الشخصنة والتعصّب الحزبي والطائفي ونحوهما، قول الله تعالى: )الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(([15]).
خطاب الحياد لدى العلماء
وبخصوص موقفه من خطاب سماحة الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله تعالى) الذي يقرأ البعض من خلاله إنّ سماحة الشيخ يقف على الحياد بين السلطة والأطراف المستهدفة، قال: لا أحد يستطيع أن يقول بأنّ عبد الوهاب لا يمتلك استقلالية في تفكيره، والسلطة والعديد من قوى المعارضة والموالاة يحمّلون عبد الوهاب مسؤولية تأسيس المنهج النقدي وخط الممانعة، والبعض يحمّله المسؤولية حتى عن النقد الجارح، وأنا أتشرّف بأن ينسب لي ـ إذا صحّ ـ تأسيس المنهج النقدي وخط الممانعة، إلا أنني أعلن براءتي من النقد الجارح والمعيب، فما أمارسه من النقد يعبّر عن قناعاتي فيما بيني وبين ربي، ويأتي ـ بفضل الله تعالى ـ وفق آداب النقد، وما يرضاه ربي وضميري.
وقال: لقد بيّنت في الأسبوع الماضي فهمي العلمي لخطاب سماحة الشيخ، وأنا أختلف سياسيًا مع سماحته بخصوص خطابه، ومن حقّي الاختلاف معه، ولكن ليس من حقي أن أفرض عليه قناعاتي.
وقال: إذا كان من حقي وأنا الصغير أن أختلف مع سماحة الشيخ، أليس من حق سماحة الشيخ وهو الإنسان الكبير أن يختلف معي؟! فكيف يجوز لي أن أفرض قناعاتي على سماحته؟!
وقال: أنا أختار مواقفي وفق قناعاتي، وبما أعلم من تكليفي الشرعي، ولا أقبل أن يفرض الناس علي بدون حق شيئًا من مواقفي، وسماحة الشيخ عيسى (حفظه الله تعالى) مؤمن موحّد ومتشرّع، وله رب واحد وهو الله سبحانه وتعالى، وهو يتخذ مواقفه ويلقي خطابه بما يوافق قناعته وبما يبرء ذمته أمام ربه، ومن الصحيح ألا يقبل بأن يفرض عليه أحد من الناس بدون حق شيئًا من مواقفه أو شكل خطابه، وهو لم يفرض قناعته على أحد من الناس، فهو لم يضع أغلالاً في رقاب الناس ليفرض عليهم آراءه ومواقفه، فمن قبلها فقد قبلها بإرادته، ومن رفضها فقد رفضها بإرادته، وهذا من حقهم، وعليهم تقع مسؤولية الاختيار.
ردود الفعل على منع الصلاة
وبخصوص ردود الفعل على منع الصلاة، قال: لقد مُنع سماحة الشيخ المقداد من الخطابة لمدة أسبوعين، وفي الواقع مُنع بالقوة العديد من المؤمنين من الصلاة في المسجد، وسماحة الشيخ حسين النجاتي لم يصلِّ لمدة أسبوعين، ويقال بأنه ممنوع من الصلاة أيضًا ولا أعلم حتى الآن صحة هذا الخبر. وقد تصدر تعليمات من إدارة الأوقاف الجعفرية لتقييد الخطاب الديني وتوجيهه إلى الوجهة التي تريدها السلطة وترضى عنها، وهذه مسألة في غاية الخطورة، لأنّ فيها فرض رؤية مذهبية على أصحاب المذاهب الأخرى، مما يمس خصوصياتهم المذهبية، ويؤثر سلبًا على حرية العقيدة والعبادة لديهم، وهي مسألة كليّة تفوق في أهميتها المسائل الجزئية، مثل قانون الأحوال الشخصية، ونحوه.
وقال: لقد طغى الظلم وتجاوز كل الحدود، فلم يعرف حرمة لدين أو عرض أو مال أو دم، والله تعالى يقول: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(([16]) فلا يوجد ظلم يقع على الإنسان أشد من المساس بحرية العقيدة والعبادة لديه، لأن حرية العقيدة والعبادة تتعلق بجوهر إنسانيته، وبمصيره الوجودي الحاسم.
وقال: في الوقت الذي شدّد القرآن الكريم على حجم هذا الجرم وعقوبته، أكد على ضرورة رفضه ومقاومته، قول الله تعالى: {لا يدخلوها إلا خائفين} فأي جهة أو طرف يمس هذا الحق، فيجب أن يقاوم، ولا يصح السكوت عنه، غير أننا نرى لدى البعض سكوتًا على هذا الظلم والتجاوز كسكوت المقابر، رغم أنه من أشد أنواع الظلم الذي يقع على الإنسان.
وقال: السكوت على التجاوزات التي تتعلّق بالحقوق العامة الأساسية له نتائج وخيمة قد تمتد إلى قرون عديدة من الزمن، فإذا استمر السكوت على هذا التجاوز الخطير والظلم العظيم الذي يمس حق العقيدة والعبادة، فإنه ستترتب عليه قطعًا نتائج وخيمة قد تمتد آثارها إلى عشرات السنين في المستقبل.
وقال: أكّدنا في تيار الوفاء الإسلامي على وحدة المصير، وقلنا بأنّ عدم بناء المواقف على أساس وحدة المصير يدلُّ على وجود جوانب خلل عديدة، وحذّرنا من تأثير الاختلاف سلبيًا على حالة التضامن في الداخل والخارج، وهذا ما يحدث بالفعل، وقلنا بأنّ مواقفنا مبنيّة على التكليف الشرعي والمسؤولية الدينية والوطنية، وبالتالي فإنها لا تتأثر سلبًا بمواقف الآخرين.
وقال: لا تفوتني الإشادة بالبيان الصادر عن بعض طلبة العلوم الدينية، حيث استنكروا ما تقوم به السلطة من ظلم وتجاوزات، وحرّضوا الشعب المسلم على المقاومة السلمية والمطالبة بالحقوق، ومناصرة المعتقلين المظلومين وأسرهم. كما وصلني بالإيميل بيان من النجف الأشرف موقّع باسم أحد الأشخاص، ويحمل نفس الروح في البيان السابق، ولا أعلم إن كان قد نشره هناك أو في مكان آخر أم لا.
بين التوكّل والتواكل
الدنيا لها حقيقة، وحقيقتها أنها مزرعة الآخرة، بمعنى أن الإنسان يزع في الدنيا ليجني بإذن الله تبارك وتعالى ثمار زرعه في الدنيا والآخرة، فهو لا يترك العمل، ويأخذ بالأسباب الطبيعية والمباشرة، ويعتقد بضرورتها، وفي نفس الوقت لا يعتقد باستقلالية تأثيرها عن الله تبارك وتعالى في تحصيل النتائج، وهو عين التوكل، وهو مطلوب وممدوح عقلًا وشرعًا، وهو السبيل إلى الفوز والفلاح في الدنيا والاخرة.
وقال: لقد سبق وأن بيّنت بأنّ حقيقة حياة الإنسان في الدنيا هو الكدح، قول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(([17]) فلابدّ للإنسان من أن يتعلّم ويمارس الصناعة والتجارة والزراعة وغيرها من الأعمال والمهن لكي يعيش في الحياة ويتقدم، ولا يمكن أن يعيش ويتقدّم في الحياة من خلال الدعاء وبدون تعلّم وعمل، كما أنه لا يمكن أن يحصل على النجاة في الآخرة بدون الطاعة لله عز وجل.
وقال: الاكتفاء بالدعاء من أجل الإصلاح وزوال الظلم والجور عن الناس، مع ترك العمل والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو بخلاف العقل والنقل والفطرة والوجدان، وهو عين التواكل، وهو قبيح ومذموم عقلاً وشرعًا، وهو دليل الخيبة، وسبيل إلى البؤس والشقاء، ولا يأتي به عاقل صادق في إيمانه.