لقاء الثلاثاء (48) | 17-5-2010
- في ظلال سورة الحمد المباركة
- الحتمية في النهاية التاريخية للسيرة البشرية
- اعتصام جيانغ المناهض للتجنيس السياسي
- ما يجب على خط الممانعة فعله تجاه النجاح الذي حققه الاعتصام
- استخدام السلطة لسلاح الشوزن ضد المحتجين
- التنسيقية وملف المعتقلين
- توجُّه تيار الوفاء للعناية بجميع الملفات الحيويّة على الساحة الوطنية
- الشاب علي مرهون والأستاذ حسن المشيمع
- العلاقة البينية بين المؤمنين
- غياب النظام العربي عن المشروع النووي الإيراني ودور المعارضة
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين الأخيار.
في ظلال سورة الحمد المباركة
بدأ الأستاذ حديثه الفكري لهذا الأسبوع حول سورة الحمد المباركة حيث تليت في بدأ الجلسة، وقال: ليكون حديثنا الفكري لهذا الأسبوع حول هذه السورة المباركة الحمد، التي تسمى بـ:
- الفاتحة لافتتاح القرآن بها، ولوجوب قراءتها في أول الصلاة، فلا تقوم الصلاة إلا بها، وفي الحديث: “لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب”[1].
- وأم الكتاب لاشتمالها على كليات ما اشتمل عليه القرآن الكريم من العقائد والحكم العملية.
- وتسمّى بالسبع المثاني لأنّها سبع آيات تقرأ مرّتين في الصلاة.
وقيل عنها: إنّها أشرف ما في كنوز العرش، وإنّها أفضل سورة أنزلها الله سبحانه وتعالى في القرآن، وإنّها شفاء من كل داء، وقال الإمام الصادقo: “اسم الله الأعظم مقطع في أم الكتاب”([2]) وقال: “لو قُرِأَت الحمد على ميت سبعين مرة ثم رُدَّت فيه روحه ما كان عجبًا”([3]).
وقال: )الْحَمْدُ لِلهِ(: يعني الثناء الجميل لله تبارك وتعالى في كلِّ لحظة يملك فيها الإنسان الشعور بوجوده، وفي كل خطوة، وفي كل حركة، وفي كل سكون، بقصد التعظيم والتبجيل لما يتصف به من صفات الجمال والجلال، ولما أنعم به على العباد من نعم مادية، مثل: الصحة والرزق والأولاد، ونعم معنوية، مثل: العلم والهداية وحسن الخلق وحسن السمعة والمحبة بين الناس، وهي نعم لا تعد ولا تُحصى، ومعرفة الإنسان بها لا تكون إلا على نحو الإجمال ولا يمكن للإنسان معرفة جميعها بالتفصيل، وذلك لكثرتها، وتنوُّعها، ودقة بعضها بحيث تخفى معرفتها على سائر الناس.
وقال: هنا أرغب في التنبيه إلى نكتتين فكريتين:
(1): )الْحَمْدُ(: الألف واللام في لفظ الحمد هي لاستغراق الجنس، أي: كل الحمد وكل الثناء هو لله سبحانه وتعالى دون سواه، وذلك باعتباره المالك لكلِّ الموجودات، والمدبِّر لها، فكلُّ نعمةٍ تصل للإنسان بواسطة أيِّ موجودٍ كان، في السماء أو في الأرض، مثل: الملائكة والأنبياء والوالدين والمعلِّمين والأطباء وغيرهم، فإنّ الفضل في ذلك يعود إلى الله سبحانه وتعالى، لأنّه هو الذي خلقهم ووهبهم تلك النعم ومكّنهم منها وهداهم إلى إعطائها، مما يجعل من محامد خلقه كلها امتدادًا لمحامده.
وقال: هو أيضًا خالق الطبيعة ومدبِّرها، فما تجود به الطبيعة، مثل: الشمس والقمر والنجوم والهواء والمطر والنار والأشجار والأنهار والبحار ونحوها من خير على الإنسان، فإنّ الفضل فيه يعود إلى الله تبارك وتعالى، فإلى الله سبحانه وتعالى يرجع الفضل في كل خير يصل إلى الإنسان وهو أصله.
(2): )لِلهِ(: هناك علاقة وثيقة بين نسبة كل الحمد لله وبين الاسم في الآية وهو (الله) ولكي نتبين هذه العلاقة علينا أن نلتفت إلى أربعة أمور، وهي:
- الذات العلية.
- الصفات.
- الأسماء.
- الأفعال.
حيث تقع الصفات والأسماء ترتيبًا وحقيقةً بين الذات والأفعال، وتكون الصفات، مثل: الحياة والعلم والقدرة، هي الأقرب إلى الذات من الأسماء، فالصفات هي عين الذات، فالذات العلية متصفة في نفسها بالحياة والعلم والقدرة وغيرها، وإنّ هذه الصفات لا تنفكُّ عن الذات أبدًا، فالذات العليّة حيّة عالمة قادرة في نفسها، ولم تكتسب هذه الصفات، ولم تخلُ منها في أيِّ وقت من الأوقات أو في أي حال من الأحوال.
أمّا الأسماء فهي موضوعة بإزاء الأفعال، ولها دلالة على صفات الكمال: الجماليّة والجلاليّة، وهي غير الذات، فحينما يَخلُق يُسمّى خالق، وحينما يرزق يسمى رازق، وحينما يشفي يسمى مشافي، وهكذا، ولكل اسم خاصيّته.
والأسماء فيها عامٌّ وفيها خاصٌّ، فالرازق خاصٌّ بالرزق، والخالق خاصٌّ بالخلق، والقادر يشملهما، فلأنّه قادرٌ فهو يخلق ويرزق، والرحمن أشمل من القادر، فلأنّه رحيم فهو يخلق ويرزق ويغفر الذنوب، وهكذا.
وفي الدعاء يختار الداعي التوسّل بالاسم المناسب للحاجة، مثل: قول الله تعالى: )قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ(([4]) وقول الله تعالى: )وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ(([5]) وقول الله تعالى: )وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ(([6]).
ويمكن التوسّل بالاسم الأعم المناسب في طلب الحاجة، قول الله تعالى: )قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى(([7]) وقول الله تعالى: )وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(([8]) مع التنبيه إلى أنّي قصدت بهذا العرض التبسيط وتسهيل الفهم، وإنّ التدقيق العلمي قد ينتهي إلى نتائج قد تختلف بعض الشيء عمّا جاء في هذا العرض.
فإذا عدنا إلى موضوع البحث: نجد إنّ الاسم (الله) هو اسم علم على الذات العليّة المقدّسة التي تتصف بجميع صفات الكمال: (الجمالية والجلالية) وهو الاسم الجامع لخصائص جميع الأسماء، مثل: الخالق، والرازق، والسميع، والعليم، والرحمن، وغيرها، قول الله تعالى: )هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ` هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(([9]) والتوسُّل به يصلح في طلب جميع الحاجات المادية والمعنوية، وجميع حاجات الدنيا وحاجات الآخرة.
وقال: )رَبِّ الْعَالَمِينَ(: الرب هو المالك المتصرف والسيد المطلق والمدبر والمربي، والعالمين هي جميع الخلائق والكائنات ماعدا الله عز وجل، فهو المدبِّر لأمر السماوات والأرضين وما فيهن وما بينهن من خلائق من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون وبما يعود بالخير والمصلحة على جميع الخلق، وهو رب العرش العظيم.
وقال: هناك ارتباط بين نسبة الحمد كلِّه لله وبين حقيقة كونه المدبِّر لجميع الخلائق، فهو المدبِّر لشأن الإنسان والملائكة والرياح والمطر والشمس والنبات والحيوان وغيرها، وعليه: فكلُّ خيرٍ يصل إلى الإنسان فهو يعود في الأصل إلى الله سبحانه وتعالى.
وقال: )الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(: الرحمن هو المتّصف بالرحمة الجامعة لكل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها والشاملة لجميع العباد والموجودات في الدنيا والآخرة، والرحيم من له الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين الصالحين، استحقوها بإيمانهم الصادق، وعملهم الصالح، وحرم منها المنحرفون والعاصون بسوء عملهم واختيارهم.
- فلله رحمة عامّة لجميع الخلق.
- وله رحمة خاصّة بعباده المؤمنين الصالحين.
قول الله تعالى: )هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا(([10]) وقال الإمام الصادق o: “والله إله كل شيء، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصة”([11]).
وقال الأستاذ: في الآية دلالة على:
- استحقاق الله للثناء الجميل بحق وحقيقة.
- إنّ العلاقة بين الله ” وبين عباده تقوم أكثر ما تقوم على الرحمة والرعاية لهم، فرحمته بعباده أسبق من غضبه عليهم، كما جاء في الحديث القدسي: “سبقت رحمتي غضبي” ([12]).
- إنّ ما ينعم الله تبارك وتعالى به على العباد ليس لحاجة منه إليهم، فهو الغني عنهم جميعًا، وإنّما لأنّه متّصف في ذاته بالرحمة والشفقة على عباده.
وقال: أنبِّه هنا إلى خطأ يرتكبه المُرَبُّون (الأبوان وغيرهما) وهو التركيز على تخويف الناشئة من الله (، فالأولى أن نربِّيهم على عشق الله ومحبته أكثر من تخويفهم منه، فمحبة الله أفضل من مخافته، والعمل حبًا له أفضل من العمل خوفًا منه، قول الله تعالى: )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(([13]).
وقال: )مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(: الملك هو أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة، ويوم الدين هو يوم القيامة، وفي الآية إشارة إلى المصير المحتوم الذي سوف يصير إليه الإنسان، وهو الحساب والجزء في يوم القيامة، حيث الحاكميّة المطلقة لله ( على كل شيء، فالله تعالى هو مالك ذلك اليوم والقاضي فيه بالحق، والله تعالى هو مالك الدنيا أيضًا والحاكم فيها والمهيمن عليها، إلا إنّ الدنيا هي دار الامتحان والابتلاء، لتظهر حقائق معادن الإنسان، قول الله تعالى : )لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ(([14]) فتعطى الفرصة لكل إنسان أن يعمل باختياره، فيتسلّط المستكبرون على الفقراء والمستضعفين فيظلموهم ويعيثوا في الأرض فسادًا، وهم غافلون عن حاكمية الله ” وسلطته المطلقة على الخلق.
أمّا في يوم القيامة وهو يوم الجزاء والحساب فيختلف الأمر، حيث تنفسخ كل الارتباطات والملكيات الاعتبارية، وتتجلّى حاكميّة الله المطلقة في ذلك اليوم الرهيب.
وقد صوّر القرآن الكريم ذلك المشهد الرهيب في آيات كثيرة، منها:
قول الله تعالى: )يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ(([15]).
وقول الله تعالى: )وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا(([16]).
وقول الله تعالى: )يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا(([17]) وغيرها.
وقال: هنا أرغب في التنبيه إلى بعض الحقائق المهمّة:
(1): إنّ الأنظمة الملكيّة في الحكم هي أنظمة قبيحة في الاسم والشكل والمضمون، قول الله تعالى: )قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(([18]).
(2): إنّ التذكير بالآخرة إلى جانب التذكير بمبدأ الخلق والتدبير والتربية، هو الأساس الواقعي المتين لكل إصلاح فردي ومجتمعي في حياة الإنسان.
(3): إنّ تعلّق قلب الإنسان بالآخرة يجعل الإنسان متساميًا وعاملاً من أجل الخير والصلاح، وصبورًا على بلاء الدنيا ومواجهة التّحديات في طريق البناء والإصلاح ونصرة الحق والعدل والخير والفضيلة، وقويًّا أمام هوى النفس ومشتهياتها.
(4): إنّ مصير الإنسان بيده، وهو من يصنعه بعمله، ويستطيع أن يفرغ من حساب نفسه ووزن أعماله في الحياة الدنيا قبل الآخرة ـ كما أوضحت ذلك في الأسبوع الماضي في الحديث عن الشرائح الثلاث ـ والكيّس من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من اشتغل بالحياة الدنيا وغفل عن الله ” وعن الآخرة.
وقال: )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين(: أي أيّها المنعم علينا بالوجود، المالك لنا والمدبِّر لأمورنا، ومَنْ إليه معادنا بعد الموت، نعبدك مخلصين لك في نيّة عبادتنا، خاضعين موحِّدين لك في العبادة والطاعة بلا شرك ولا رياء ولا سمعة، فلا يوجد أحدٌ غيرك يستحقُّ الخضوع والطاعة والعبادة.
وبك لا بغيرك نستعين في قضاء جميع حوائجنا المادية والعونية، حوائج الدنيا والآخرة، فلا يوجد أحدٌ غيرك قادر على قضائها لنا دونك، فأنت وحدك المؤثِّر الحقيقي في الوجود، وإنّما تؤثِّر الأسباب بإذنك، فأنت الذي تمنحها الوجود ابتداءً واستمرارًا، وأنت الذي تمنحها قوة الفعل والتأثير، وليس لها أي تأثير مستقل عنك، فلا نخاف ولا نخشى ولا نرجو غيرك.
وقال: في الآية تأكيدٌ على كرامة الإنسان من خلال التأكيد على تحرُّره الشامل الكامل، فالآية بمنطقها العقلي والروحي والعملي:
- تحرُّر الإنسان من ذاته وأنانيّته.
- وتحرُّره من الأوهام والخزعبلات والخيالات الباطلة.
- وتحرُّره من الفوضى والعبثيّة في الحياة.
- وتحرُّره من الأوضاع المنحرفة والأنظمة الفاسدة وتقديس الأشخاص.
- وتحرُّره من العبودية لغرائزه وانفعالاته فلا يقع أسير الخوف أو الطمع ونحوهما.
- وتحرُّره من كل عبودية لغير الحق.
- وتربطه بالله الواحد القهار دون سواه.
وقال: في الآية دلالة على وجوب الربط بين التوحيد العقيدي وبين السلوك والمواقف العامّة والخاصّة للإنسان في الحياة، فمنطق الآية يقول: لا يكفي للإنسان أن يعيش عقيدة التوحيد في فكره، وإنّما يجب أن تنعكس عقيدة التوحيد في سلوكه ومواقفه العامّة والخاصّة، ليكون سلوكه، وتكون مواقفه، إشعاع من إشعاعات التوحيد العقيدي في واقع الحياة.
وقال: في لفظ الخطاب )إِيَّاكَ( إشارة إلى إنّ العبد بعد أن أدرك المبدأ والمعاد، وتنوّر بنور العبوديّة المطلَقة للهِ ذي الجلال والإكرام، انتقل في التوجّه إلى الله سبحانه وتعالى من حالة عباديّة قريبة تتمثّل في التحميد والتقديس والاعتراف بالحاجة والتقصير، إلى حالة عبادية أكثر قربًا، حيث أصبح في حالة حضور بين يدي الله الواحد القهار في حضرة القدس، وخاطبه خطابًا مباشرًا )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين( فقد صارت الغيبة حضورًا، والعلم صار عيانًا ـ كما يقول العلماء ـ وهذا يدلُّ على أنّ الإنسان المؤمن ينتقل من خلال ما يكتسبه من العلم النافع والثقافة والأخلاق والعمل الصالح من كمال إلى كمال، حتى يتّصل بالملأ الأعلى ويبلغ أقصى درجات القرب والحضور، قول الله تعالى: )ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ` فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(([19]).
وقال: )اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(: في حالة التوجّه والقرب والاعتراف بين يدي الخالق الرؤوف الرحيم، يسأل العبد أهم ما لديه من مسائل، ولا مسألة أهم وأولى من الهداية إلى معرفة الصراط المستقيم والاستقامة عليه، فذلك هو الأساس الذي تقوم عليه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
وقال: في الآية الشريفة المباركة دلالة على:
- إنّ الصراط المستقيم له وجودٌ فعليٌّ، وليس هو من اختراعات الإنسان، قول الله تعالى: )وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(([20]).
- إنّ معرفة الصراط المستقيم والسير فيه ممكن للجميع، وهو لازمٌ من أجل النجاة والوصول إلى مرضاة الله ذي الجلال والإكرام وإلى جنَّتِه والفردوس الأعلى.
- إنّ الوصول إلى الصراط المستقيم والديمومة عليه في جميع الأوقات والأحوال يحتاج إلى الاستعانة بالله الواحد القهار وتوفيقه وتسديده، حيث إنّ الإنسان معرّض دومًا إلى تأثير العوامل السلبية المضادة للإيمان والعمل الصالح، والاستقامة مراتب ودرجات، فيكون الإنسان عرضة للانحراف عن الصراط المستقيم أو التعثّر والهبوط من الدرجات العالية إلى الدرجات السفلى، فهو في حاجة دائمة لهداية الله وتوفيقه وتسديده لكي يثبت على الصراط المستقيم ويتقدّم بخطى ثابتة إلى المراتب العليا.
وهذا الشعور من شأنه أن يجعل الإنسان في حالة ارتباط مستمر بالله عزّ وجل، ويحرِّر الإنسان من العُجب والرياء ونحوهما من الآفات الروحية والنفسية.
وقال: الصراط المستقيم هو في الحقيقة الإيمان بعقيدة التوحيد والنبوة واليوم الآخر، والتوسّط في الأخلاق، وعمل الصالحات موافقًا للشريعة المقدسة، وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فقد روي عن الإمام الصادق o أنه قال: “الصورة الإنسانية هي الطريق المستقيم إلى كل خير والجسر الممدود بين الجنة والنار” وفي هذا القول تفسير للروايات التي تفسِّر الصراط المستقيم بالإمام، قول الإمام الصادق o: “والله! نحن الصراط المستقيم”([21]) لأنّ الإمام هو الإنسان الكامل والمطهِّر من دنس الشرك والمعصية، وهو النور الذي يضيء الطريق إلى السالكين، فمن عرفه ومشى خلفه قاده إلى مرضاة الله تبارك وتعالى والجنة، ومن جهله أو خالفه فهو ضالٌّ ومصيره إلى النار، إلا المستضعفين القاصرين عن المعرفة.
وقال: )صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ(: هذا تعريف أوَّل إيجابيٌّ للصراط المستقيم، بأنه صراط الذين أنعم عليهم، وقد عرّفهم الله بقوله تعالى: )الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا(([22]).
وهذا يدل على إنّ الصراط المستقيم يتضمَّنُ ثلاث مستويات:
- الاستقامة على الحق ويمثله الأنبياء.
- العمل الصالح بصدق وإخلاص نية لله سبحانه وتعالى ويمثله الصديقون والصالحون.
- التضحية والفداء والعطاء على الخط بدون حدود ويمثله الشهداء.
وقال )غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(: هذا تعريف ثاني سلبي للصراط المستقيم، بأنه:
- صراطٌ غيرُ صراط المغضوب عليهم، وهم العصاة لأمر الله ” ونهيه، فالمعصية خروج عن الصراط المستقيم، وبشكل خاص ارتكاب الكبائر، مثل: التورط في قتل النفس المحترمة، والكذب، والخيانة، والتنكيل بالأبرياء، والزنا، ونحوها، وأُنبِّه بشكلٍ خاصٍّ على خطورة التورُّط في قتل النفس المحترمة ولو بكلمة، قول الله تعالى: )وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا(([23]).
وقال الرسول الأعظم الأكرم Q: “من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة الله”([24]) فقد لا يتورّط الإنسان في قتل النفس المحترمة بشكل مباشر، ولكنّه قد يتورّط فيه بشكل غير مباشر ـ وهو غافل ـ من خلال كلمة تتسبّب بشكل أو بآخر في قتل النفس المحترمة أو تسهل للقتلة جريمتهم، وقد تُسوِّل للإنسان له نفسه الأمارة بالسوء والشيطان ذلك في ظل الغيرة والاختلاف، فكثيرًا ما تؤدِّي الغيرة والاختلافات السياسية لارتكاب مثل هذه الجريمة البشعة.
وأنبِّه إلى خطورة الكذب والخيانة، فهما أخطر من جريمة الزنا والسرقة ونحوهما، وهما نقيض الإيمان ولا يمكن أن يجتمعا مع الإيمان في قلب واحد، قول الله تعالى: )إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ(([25]) وقال الرسول الأعظم الأكرم Q: “إياكم والكذب، فإنّ الكذب مجانب للإيمان”([26]) وقال الإمام الصادق o: “يُجبل المؤمن على كل طبيعة إلا الخيانة والكذب”([27]).
- وهو صراط غير صراط الضالين، وهم المنحرفين عن خط الأنبياء والأوصياء q من الكفار والمنافقين وأهل الشكوك.
وقال: قد يكون المراد من المغضوب عليهم هم المجرمون الذين يقومون بالإضافة إلى كفرهم بالجرائم البشعة، مثل: إضلال الآخرين والقتل والتعذيب والتنكيل بالأبرياء ونحوها من الجرائم، قول الله تعالى: )وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(([28]) أمّا الضالين فهم التائهون الحائرون بين الكفر والإيمان الذين استغرقوا في المألوف من أفكار بيئتهم الاجتماعية، ولكنّهم لا يقومون بتضليل الآخرين وإفساد عقيدتهم، ولا يرتكبون الجرائم البشعة، مثل: القتل والخيانة والتنكيل بالأبرياء إلى جانب ضلالهم وانحرافهم الفكري عن الحق.
الحتمية في النهاية التاريخية للسيرة البشرية
وبخصوص أمد الصراع ونهايته، قال: تحدّث القرآن الكريم عن حتمية تاريخية تنتهي إليها المسيرة البشرية، على غرار الحتمية التاريخية في الفلسفة الماركسية، مع الفارق طبعًا.
قول الله تعالى: )إِنَّ الْأَرْضَ لِلهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(([29]).
وقول الله تعالى: )وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(([30]) وغيرها من الآيات الشريفة المباركة.
وقال: القوانين التي تحكم الحتمية التاريخية في القرآن الكريم، تختلف جذريًّا وجوهريًّا عن قانون الديالكتيك الذي يحكم الحتميّة التاريخيّة في الفلسفة الماركسيّة، وأهم المبادئ التي تقوم عليها الحتميّة التاريخيّة في الرؤية القرآنية، هي:
(1): الضمانة الإلهية بحفظ الرسالة الحقة، قول الله تعالى: )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(([31]).
(2): الضمانة الإلهية بوجود إمامٍ راعٍ للرسالة وحَمَلَة أمناء لها في جميع الأزمان، قول الله تعالى: )فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا(([32]). وقول الله تعالى: )أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ(([33]).
(3): فعالية مبدأ الحرية والاختيار، قول الله تعالى: )لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(([34]).
(3): فعالية التدافع والصراع بين قوى الحق الرحمانية وقوى الباطل الشيطانية، قول الله تعالى: )فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(([35]).
وقال: من خلال فعالية هذه المبادئ وغيرها، تنتهي المسيرة البشرية بظهور الدين الحق وانتصاره على الدين كله، وإقامة دولة العدل الإلهي العالمية، قول الله تعالى: )هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(([36]) وتبقى هذه الدولة آلاف السنين، ويشهد زمنها تغيّرات كونيّة عظيمة، قول الله تعالى: )وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ` وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ` النَّجْمُ الثَّاقِبُ ` إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ(([37]) فزمان هذا الحدث الكوني العظيم الذي يقسم به الرب الجليل هو زمن الظهور، وتترتب عليها نتائج كبيرة في الطبيعة تنعكس بشكل إيجابي مباشر على حياة الإنسان، قول الله تعالى: )وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ` وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ` إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ` مَا هُوَ بِالْهَزْلِ ` إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ` وَأَكِيدُ كَيْدًا ` فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا(([38]).
وقال: في زمن الظهور تتكامل العقول، ويبلغ التطور الحضاري والتجربة البشرية ذروتها، حتى يضيق عالم الدنيا بانطلاقة الإنسان وكماله وتجربته، وتمهد الطريق لانتهاء عالم الدنيا والانتقال إلى عالم الآخرة بإذن الله تعالى.
وقال: إنّ الأمد الطويل قبل وصول البشرية إلى هذه الحتمية التاريخية المضيئة في مسيرتها، يفيد في إقامة الحجّة الإلهية على جميع الناس، قول الله تعالى : )قُلْ فَلِلهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(([39]) فلا تبقى حجّة لأية تجربة بشرية خارجة عن الدين الحق، ويتعمق الوعي، ويحصل اليقين والصدق والإخلاص، وتقوى الانطلاقة في التطبيق، حتى تبلغ التجربة البشرية غايتها، وتتحقق الخلافة الإلهية في الأرض على أكمل وأتمَّ صورها، قول الله تعالى: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(([40]) ولم يظلم الله في شيء من ذلك أحدًا من عباده، فكلُّ إنسان وما اختار لنفسه، وتتمُّ عليه الحجّة بحسب زمانه وظروفه وإمكانياته، ولعالم الدنيا أحكامه وقوانينه الخاصّة به.
وبخصوص نهاية الصراع على الساحة الوطنية، قال: “ما ضاع حقٌّ وراءه مطالب” فالشعب البحريني قائمٌ بإرادة جديّة بواجب المطالبة بحقوقه المشروعة، وسوف يحصل عليها حتمًا، ولن يطول كثيرًا زمن العذاب، وسوف يخسر المبطلون.
اعتصام جيانغ المناهض للتجنيس السياسي
وبخصوص اعتصام جيانغ المناهض للتجنيس السياسي، قال: كانت دعوة التحالف الثلاثي للاعتصام المناهض للتجنيس بالقرب من مجمع جيانغ في عصر يوم الجمعة الفائت، فرصة للسلطة ولآخرين لامتحان مدى التجاوب الشعبي مع الدعوة، وأعتقد بأنّ حجم الحضور كان مفاجئًا ولافتًا، مما حمل قوات الأمن على غلق بعض الشوارع لمنع المواطنين من الوصول إلى مكان الاعتصام، ويعتبر حجم الحضور مؤشِّرًا على نجاح التحالف في:
- الكسر الجزئي للحصار المفروض عليه رسميا ومن بعض القوى السياسية.
- تعديل جزئي في ميزان القوى لصالحه.
وقال: قد أضاف حجم التجاوب عنصرًا جديدًا لعناصر حرج السلطة في التعامل مع قوى التحالف الثلاثي، وهي:
- العمل خارج دائرة قانون الجمعيات السياسية وفرض وجودها على السلطة كأمر واقع.
- الدعم المعنوي الذي تقدمه قوى التحالف الثلاثي لحركة الاحتجاجات الشعبية، واتّساع دائرة هذه الاحتجاجات، وفشل السلطة في السيطرة عليها، وتزايد الإدانات الدولية للانتهاكات التي تمارسها السلطة ضد حقوق الإنسان.
- الرؤى التي تقدّمها قوى التحالف الثلاثي، وتزايد رقعة حضورها السياسي على الساحة يومًا بعد يوم، كما دلَّ على ذلك حجم الحضور للاعتصام.
وقال: لقد أصبحت السلطة في حرج شديد في التعامل مع قوى التحالف الثلاثي، وتزايدت انتهاكاتها الشنيعة لحقوق الإنسان، منها: كثرة استخدام الذخيرة الحية، والاستهداف المباشر بها للمواطنين، وتعريض حياتهم إلى الخطر، وقد أصيب في الآونة الأخيرة عدد كبير من المواطنين بواسطة الشوزن المحّرم دوليًّا، وقد اعترفت السلطة رسميًّا باستخدامها لهذا السلاح المحرّم دوليًّا ضد المواطنين، وهددت بالاستمرار في استخدامه، مما يدلُّ على ضيق صدرها وفقدانها للصبر تجاه حركة الاحتجاجات الشعبية وأنشطة قوى الممانعة السلمية.
وقد حملت التطوّرات بعض المراقبين على توقّع قيام السلطة بأعمال متهوِّرة في الفترة القصيرة القادمة، وهذا ما ينبغي لنا توقّعه أيضًا.
وأنبِّه السلطة بأنّ كل عمل متهوّر ضد المعارضة سوف يعود على السلطة بخسائر أكبر، فالسلطة لا تملك أي خيار تستطيع من خلاله إضعاف المعارضة وحملها على التقهقر، والأعمال المتهورة التي قد تتورّط فيها السلطة سوف تدفع بالمعارضة إلى الأمام، وتُثبِت وجودها على الأرض، وتعطيها مصداقية أكبر، وتجعلها أقرب إلى تحقيق أهدافها، فليس أمام السلطة من خيار نافع إلا الاستجابة السريعة وبدون إبطاء لمطالب الشعب العادلة، ففي كلِّ إبطاء وتأخُّر عن تحقيق مطالب الشعب العادلة، خسائر إضافية للسلطة.
ما يجب على خط الممانعة فعله تجاه النجاح الذي حققه الاعتصام
وبخصوص ما يجب على خط الممانعة فعله تجاه النجاح الذي حقّقه الاعتصام، قال: يجب على المؤمنين أمام النجاح في تنظيم الاعتصام أمور عديدة، منها:
(1): شكر نعمة النجاح، والحذر من الغرور والاغتراب، قول الله تعالى: )لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(([41]).
(2): التأدّب بالآداب التي علّمنا إياها القرآن الكريم لمثل هذه المواطن، قول الله تعالى: )إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ` وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ` فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(([42]).
(3): الاستمرار في العمل على أسس علمية صحيحة، ومنهج واقعي، والثبات، وإثبات الصدق والمصداقية، والسعي لإصلاح جوانب النقص والخلل، وأبرزها في الاعتصام المذكور:
- ضعف التغطية الإعلامية الداخلية والخارجية.
- غياب المنظِّمين وبروز تنظيم المعتصمين التلقائي لأنفسهم.
- ضعف التحشيد نسبيًّا للاعتصام.
- حصر الكلمات ورفع الشعارات في المنظِّمين وغياب المساهمات الأخرى، ومنها: عدم الاستفادة بشكل مناسب من الرواديد وأصحاب المواهب في رفع الشعارات.
(4): ضرورة الانفتاح على القوى السياسيّة الأخرى ومؤسّسات المجتمع المدني وفتح باب التعاون والتنسيق معها وإشراكها بشكل مناسب في الأنشطة، والحذر من الانغلاق واتّباع سياسة الإقصاء للآخر الموافق والمخالف.
استخدام السلطة لسلاح الشوزن ضد المحتجين
وبخصوص استخدام السلطة لسلاح الشوزن، قال: يُعتبر استخدام السلطة للشون تصعيدًا خطيرًا منها ضد المحتجين والمعارضين لسياستها، وهو لا يدلُّ على قوتها، وإنّما يدلُّ على ضعفها وعدم قدرتها على الإمساك بزمام الأمور وبزمام نفسها، وعلى ضعف خياراتها، وعدم قدرتها على فرض السيطرة في ظلِّ تزايد حركة الاحتجاجات والتمرّد على نظامها المستبد الفاسد المنتهك لحقوق الإنسان وحريّاته الأساسية.
وتُعتبر ردود فعل القوى السياسيّة على تصعيد السلطة باستخدام الذخيرة الحيّة ضدَّ المحتجِّين خجولة حتى الآن وغير متناسبة مع حجم الانتهاك الذي تمارسه السلطة ضد المواطنين.
ونحن في تيار الوفاء الإسلامي ندين بشدة استخدام السلطة لسلاح الشزن المحرم دوليًّا ضد المواطنين، ونطالبها بالتوقّف الفوري عن استخدام هذا النوع من السلاح وعن اللجوء إلى العنف والأساليب الإرهابية ضد المواطنين، ونطالب المواطنين بإظهار المزيد من التضامن مع المصابين وأهاليهم، ونطالب القوى السياسية والمؤسسات الحقوقية بالاحتجاج على تجاوزات السلطة واعتداءاتها على المواطنين وإيصال الشكاوى إلى المؤسسات الدولية مدعومة بالصور والوثائق.
التنسيقية وملف المعتقلين
وبخصوص التنسيقية وملف المعتقلين، قال: لملف المعتقلين بُعد إنساني ظاهر، ويجب علينا أن نُشعر المعتقلين وأهاليهم بتضامننا الصادق والقوي والمؤثر معهم، ومن الواضح تراجع دور التنسيقية في متابعة ملف المعتقلين، ونحن في تيار الوفاء لدينا حرص شديد على تمتين العمل الوطني المشترك، وقد تدارسنا موضوع المعتقلين، وتوصّلنا إلى إنّ الملف غير قابل للإهمال أو التقصير فيه، ويجب تحريك هذا الملف والاهتمام والعناية به، وسوف نسعى لتنشيط عمل التنسيقية مع الحلفاء بالشكل الفعال والمناسب، استجابة للواجب الديني والإنساني والأخلاقي والوطني تجاه المعتقلين وأهاليهم .
توجُّه تيار الوفاء للعناية بجميع الملفات الحيويّة على الساحة الوطنية
وبخصوص التوقّف عن التحشيد إلى المقاطعة، قال: لقد أعلن تيار الوفاء الإسلامي عن نقطتين في وقتين متباعدين، وهما:
- المقاطعة.
- والدعوة إلى المقاطعة.
ولم يُعلن التيّار عن موقفه التفصيلي حتى الآن، والتيار لديه وضوح تام فيما يريد أن يعمله ويقوم به، ولكن كيف يعرض الموقف: هل يعرضه جملة واحدة أو يعرضه بالتقسيط كما فعل في طرح المقاطعة في مرحلة ثمّ الدعوة إليها في مرحلة ثانية؟ وكيف سيكون العرض وعبر أية آلية؟ فهذا ما سيكشف عنه المستقبل.
وقال: إنّ توجّه التيار للعناية بجميع الملفات الحيويّة وعدم التركيز على موضوع المشاركة والمقاطعة، يهدف إلى تنبيه المواطنين والمراقبين إلى أهميّة الملفات الأخرى على الساحة الوطنية، وعدم إعطاء المشاركة والمقاطعة أكثر من حجمها الطبيعي.
الشاب علي مرهون والأستاذ حسن المشيمع
وبخصوص ما جرى من الشاب علي مرهون مع الأستاذ الفاضل حسن المشيمع في كرزكان، قال: الشاب علي مرهون شاب متدين ومن عائلة متدينة، وهو معروف لدي، وهو على خلق رفيع ـ وبحسب تقديري ـ لا يتصور في حق الشاب علي مرهون أن يتعمّد الإساءة إلى الأستاذ الفاضل حسن المشيمع، وينبغي النظر إلى الموضوع ومعالجته على هذا الأساس.
العلاقة البينية بين المؤمنين
وبخصوص علاقة المؤمنين مع بعضهم، قال: ينبغي حسن الظن بالمؤمنين، قال أمير المؤمنين o: “ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءً وأنت تجد لها في الخير محملاً”([43]) وينبغي الحذر من سوء الظن بهم، قال أمير المؤمنين o: “سوء الظن يفسد الأمور ويبعث على الشرور”([44]) وقال o: “ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن”([45]) ويجب علينا أن نتعلّم كيف نتكلّم بإيجابية عن الآخرين، وكيف نوحِّد صفوفنا، وكيف نكسب الأصدقاء ليقفوا معنا، وأن نحذر من التمحور حول الذات واتّباع سياسة الإقصاء وزرع الخصوم والأعداء، قال أمير المؤمنين: “أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم”([46]) ونحن في تيار الوفاء الإسلامي نرحِّب بكلِّ جهدٍ مخلص: (جماهيري أو نخبوي) يهدف إلى تجميع صفوف المؤمنين وتوحيد كلمتهم.
وبخصوص دعوة الرموز العلمائية ليكونوا على مسافة واحدة بين جميع المؤمنين، قال: لا تعني هذه الدعوة ـ كما في الأدبيات التي بتتها عن التيار ـ تعطيل دور العلماء أو التقليل من شأنهم، بل تعني توسيع دائرة نفوذهم، وجعلهم وسيلة لاحتضان جميع المؤمنين، وتهدف إلى تمكينهم ـ أي الرموز ـ بحيث تكون لهم السيطرة والقدرة والوسيلة على توحيد صفوف المؤمنين، وتكثير خياراتهم وتنويعها وحسن إدارتها بحيث تستجيب بشكل مناسب وفعّال للاستحقاقات الواقعيّة على الساحة الوطنيّة، ومنع التفرّق والخلاف بين المؤمنين.
غياب النظام العربي عن المشروع النووي الإيراني ودور المعارضة
وبخصوص غياب النظام العربي عن المشروع النووي الإيراني، قال: المشروع النووي الإيراني ليس إلا شماعة في مواقف أمريكا والغرب من الجمهورية الإسلامية في إيران، وحقيقة الموقف هو الضديّة الفكريّة والسياسيّة للنظام الإسلامي في إيران المناهض للكيان الصهيوني والمصالح الاستكبارية لأمريكا والغرب، والهدف هو إيقاف نمو الجمهورية الإسلامية في إيران كقوّة إقليميّة عظمى.
والنظام العربي نظام استبدادي تافه وفاشل ومحكوم بالتجزيئية والتبعيّة للغرب. فعلى الرغم من الموقع الاستراتيجي للعالم العربي، والإمكانيات البشرية والطبيعية الضخمة، يعيش العالم العربي التخلّف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والصناعي وفقدان الدور والوزن على الساحة الدولية، وليس للأنظمة العربية من شغل سوى قمع الشعوب المطالبة بالحرية والمشاركة الفعلية في صناعة القرار والمصير، ولم تجتمع الأنظمة العربيّة على شيء سوى قمع الشعوب وملاحقة المعارضين أينما حلّوا في العالم العربي.
ولهذا شاهدنا الحضور التركي والبرازيلي في الملف النووي الإيراني، والغياب المخجل للنظام العربي، رغم جيرة إيران للعالم العربي، وتأثير المواقف من المشروع النووي الإيراني تأثيرًا بالغًا على حاضر ومستقبل الأنظمة والشعوب العربيّة، وذلك لأنّ الأنظمة العربية أنظمة تافهة وفاشلة، فلم نسمع ولم نشاهد منها إلا ترجيع أصوات الآخرين الغرباء على المنطقة، والأعداء الذين تتعارض إرادتهم ومصالحهم مع إرادات ومصالح الشعوب العربيّة، لأنّهم ـ أي الغرباء ـ هم الوسيلة لتوريث الُحكم وإدامة القمع والاستبداد، والاستحواذ على ثروات الشعوب .
وبخصوص دور المعارضة، قال: لقوى المعارضة في العالم العربي الكثير من المشتركات في الأهداف والتحديات ووحدة المصير. وفي الوقت الذي تجتمع الأنظمة على قمع ومحاصرة قوى المعارضة أينما حلوا في العالم العربي، لا يوجد التواصل المناسب والفعال بين قوى المعارضة، وذلك بسبب غياب الإرادة الجديّة والاستعداد الكافي للبذل والتضحية في سبيل مواجهة قيود الأنظمة وكسرها، وهذا خلل تجب معالجته، فلن تنصلح أوضاع العالم العربي، ولن يسير في ركب الديمقراطية والتّقدّم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والصناعي، ما لم تتواصل قوى المعارضة مع بعضها وتتعاون وتبذل وتُضحِّي بسخاء في سبيل مواجهة قيود الأنظمة وكسرها من أجل تحقيق أهدافها القومية المشروعة.
[1] تهذيب الأحكام (تحقيق خرسان)/ ج2/ 147/ 9 – باب تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة من المفروض و المسنون و ما يجوز فيها و ما لا يجوز: «سَأَلْتُهُ عَنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي صَلَاتِهِ قَالَ لَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَبْدَأَ بِهَا فِي جَهْرٍ أَوْ إِخْفَاتٍ قُلْتُ أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ إِذَا كَانَ خَائِفاً أَوْ مُسْتَعْجِلًا يَقْرَأُ بِسُورَةٍ أَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».
([3]) الكافي: ج2، ص623، الحديث: 16.
([12]) كنز العمال: ج4، ص250، الحديث: 10385.
([24]) كنز العمال: ج15، ص22، الحديث: 39895.
([26]) كنز العمال: ج3، ص620، الحديث: 8206.