خطبة الجمعة | 1-8-2003
الخطبة الدينية : علاقة الإنسان بالكون – رؤية قرآنية ج1
أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي الأمارة بالسوء ، ومن شر الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
اللهم صلى على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين ، وأصحابه المنتجبين ، ومن اتبعه بإحسان إلى قيام يوم الدين . السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أمير المؤمنين ، السلام على فاطمة الزهراء ، سيدتي وسيدة نساء العالمين ، السلام على خديجة الكبرى ، السلام على الحسن والحسين ، سيدي شباب أهل الجنة أجمعين . السلام على جميع الأوصياء ، مصابيح الدجى ، وأعلام الهدى ، ومنار التقى ، والعروة الوثقى ، والحبل المتين ، والصراط المستقيم . السلام على الخلف الصالح ، الحجة بن الحسن العسكري، روحي وأرواح المؤمنين لتراب مقدمه الفداء . السلام على جميع الأنبياء والأوصياء والعلماء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً . السلام على جميع ملائكة الله المقربين ، السلام على الكاتبين الشاهدين . السلام على شهداء الانتفاضة السعداء المظلومين ، السلام عليكم أيها الأحبة : أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله وبركاته .
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) . آمنا بالله صدق الله العلي العظيم .
هاتين الآيتين الشريفتين المباركتين ، وهما رقم ( 190- 191 ) من ( سورة آل عمران ) تكشفان لنا عن الوضع الصحيح لتفاعل الإنسان مع الكون ، من موقع الوعي بالمسؤولية . وهو الوضع الذي يوصل الإنسان إلى معرفة الحقيقة واتخاذ المواقف الصادقة القوية والعادلة في الحياة ، وبالتالي الحصول على السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة . هذا الوضع الذي ينبغي للإنسان أن يهتدي إليه من تلقاء نفسه ، بعقله وفطرته ، وإذا غفل عنه بسب الانشغال بظواهر الحياة والاشتغال بزخارفها وزينتها ، فإن القرآن ينبهه من هذه الغفلة ، ويدعوه لأخذ الوضع الصحيح للتفاعل الإيجابي من الكون والحياة ، على أساس الوعي بالمسؤولية في الحياة والحساب والمصير في الآخرة ، موقظاً في نفسه بواعث الفطرة ونور البرهان ، وإذا لم يستيقظ من غفلته فالنار مثواه وبئس المصير والورد المورود . قال الله تعالى عن أهل النار: ( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير . فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير ) ( الملك : 10- 11 ) . أي لو كنا نسمع الموعظة ، ولو كنا من أصحاب العقول المتفتحة ، ما كنا في أصحاب السعير . فالذي أدخلهم إلى النار: هو الغفلة وعدم التفكر وعدم سماع المواعظ والتنبيهات من الأنبياء والعقلاء من الناس . قال الله تعالى عنهم : ( وإذا ذكروا لا يذكرون ) ( الصافات : 13).
قول الله تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض ) .
سوف أبحث في هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة عدة نقاط ، وهي :
النقطة الأولى : معنى الخلق .
يتألف مفهوم الخلق من ثلاثة عناصر رئيسية ، وهي :
العنصر الأول : الإيجاد والتكوين .
العنصر الثاني : النظام والإحكام .
العنصر الثالث : الإبداع ، وهو الإيجاد من غير مثال أو نموذج مسبق .
النقطة الثانية : معنى السماوات والأرض في الآية الشريفة المباركة. المقصود بهما سماء الدنيا وأرضها ، والجمع في لفظ السماوات : نظراً لتعدد المجرات والمجموعات الشمسية في السماء الدنيا . فالملايين من المجموعات الشمسية تنتظم على شكل منظم في مجرات ، وفي مجرتنا توجد شموس أكبر من شمسنا بملايين المرات ، وما بين المجموعات الشمسية من حجم الفراغ في المجرة الواحدة ، ما لا يقل عن حجم المجموعات نفسها . ثم تنتظم ملايين المجرات على شكل منظم في أكداس ، وتوجد في الكدس الذي تنتمي إليه مجرتنا ، مجرات أكبر من مجرتنا بملايين المرات ، وما بين المجرة والمجرة من الفراغ في الكدس الواحد ، ما لا يقل عن حجم الكدس نفسه . ثم تنتظم الأكداس على شكل منظم في أكداس الأكداس ، وما بين الكدس والكدس من الفراغ في أكداس الأكداس ، مالا يقل عن حجم مجموع الأكداس نفسها . هذه صورة مختصرة جداً ومبسطة للنظام الكوني ، أقدمها لكل من له قلب أو ألق السمع وهو شهيد ، وسبحان الله أحسن الخالقين .
معنى السماوات السبع والأرضين السبع : أما السماوات السبع والأرضين السبع ، فهي تعني عالماً غير عالمنا هذا ، إنها تعني عالم البرزخ . السماوات السبع هي جنة البرزخ ، وهي السماوات التي عبرها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في المعراج إلى جنة المأوى ، ورأى في طريقه الأنبياء والملائكة وتحدث إليهم ، ثم تقدم إلى سدرة المنتهى ، التي توقف عندها جبرائيل ، وقال : تقدم يا محمد ، فقد وطأت موطئاً لم يطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ثم دنى حتى بلغ السبحة ، وهو الحد الفاصل بين الخالق والمخلوق ، فكان قاب قوسين أو أدنى من ألعلي الأعلى . أما الأرضين السبع فهي نار البرزخ ، التي رأى فيها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في المعراج الصور أو الحالات البرزخية لأعمال أهل النار . قال صلى الله عليه وآله وسلم : مضيت فإذا أنا بقوم بين أيديهم لحم طيب ولم خبيث ، يأكلون اللحم الخبيث ويدعون الطيب ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون الحرام ويدعون الحلال ، وهم من أمتك يا محمد . وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ثم مضيت فإذا أنا بأقوام لهم مشا فر كمشافر الإبل ( مشا فر : جمع مشفرة ، وهي شفة البعير ، وأستعمل في الشفة الغليظة على نحو التشبيه ) يقرض اللحم من جنوبهم ويلقى في أفواههم ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ فقال : هؤلاء الهمازون اللمازون . ثم مضيت فإذا أنا بأقوام ترضخ رؤوسهم بالصخر ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ فقال : هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء . ثم مضيت فإذا أنا بأقوام تقذف النار في أفواههم وتخرج من أدبارهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً . ثم مضيت فإذا أنا بأقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنه ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس . ثم مضيت فإذا أنا بنسوان معلقات بثديهن ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ فقال : هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهن أولاد غيرهم . ثم قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم : اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم ، فاطلع على عوراتهم وأكل خزائنهم . ( هذه مقتطفات من حديث طويل أخذت منه قدر الحاجة وبين الكلام سطور قد حذفت ) .
النقطة الثالثة : الطريق إلى معرفة الله جل جلاله .
هذه الآية الشريفة المباركة ، تدلنا على أسهل طريق لمعرفة الخالق ، وهو يجمع بين الحس والعقل . فالآية الشريفة المباركة تقدم الكون للإنسان العاقل ككتاب مفتوح واضحة معانيه ، لا يقبل المغالطة لمن يبحث عن الحقيقة . ويتضمن كتاب الكون في صفحاته دلائل الإيمان التي لا تقبل الشك أو الريب لمن يحسن النظر والتبصر فيها .
والسؤال : ماذا يقرأ الباحث عن الحقيقة في صفحات السماوات والأرض ؟
الجواب : يقرأ الباحث عن الحقيقة في صفحات السماوات والأرض ، الترتب والتصميم المدهش والقصد . فكل شيء يسير وفق نظام وقوانين في غاية الدقة ، ويؤدي وظيفة محددة ذات صلة بالتدبير والتربية ، بحيث توصل الموجودات إلى كمالها وغاية وجودها .
خذ هذا المثال : اختلاف الليل والنهار الذي هو نتيجة لدوران الأرض حول نفسها ، من الدقة بحيث لا يخطىء حتى واحد على ألف من الثانية ، وهو أدق من أي ساعة في الدنيا . أضف إلى ذلك : أن حجم الأرض وبعدها عن الشمس ، ودرجة حرارة الشمس ، وسمك القشرة الأرضية ، وكمية المياه على الأرض ، والغلاف الجوي ونسب مكوناته ، كل ذلك له صلة وثيقة بظهور الحياة على وجه الأرض واستمرار بقائها – أي الحياة على وجه الأرض ، ومن شأن أي خلل بسيط في هذه الحسابات والمعادلات ، من شأنه أن يقضي على الحياة تماماً فوق وجه الأرض . والأعظم من ذلك : أن المجموعات الشمسية والمجرات والأكداس ، رغم ضخامتها وما بينها من المسافات الشاسعة جدا ، والتي تقدر بملايين الملايين من السنوات الضوئية، تدور بنفس الدرجة من الدقة في أفلاكها ومساراتها، وأنها لا تخرج عن مداراتها أبداً ولا تختلف . والأعجب من ذلك والأكثر دهشة : ما يراه علماء الفلك : من أن بعض المجرات يدخل بعضها في بعض أثناء سيرها في مداراتها وأفلاكها ، وفي كل مجرة ملايين المجموعات الشمسية ، ثم تخرج كل مجرة بمجموعاتها الشمسية ، دون أن يحدث أي تصادم ، وبدون أن تتخلف أي مجموعة شمسية عن مجرتها . هذا نموذج بسيط جدا على دقة النظام الكوني ، نقدمه لكل معتبر ينظر إلى الحياة من موقع المسؤولية ، ويبحث عن الحقائق العظمى في الوجود ، ليصبغ حياته وحياة مجتمعه بصبغتها ، لتكون الحياة الإنسانية في تناغم وانسجام مع النظام الكوني العظيم والظواهر الكونية الساجدة لله الواحد القهار.
أضف إلى ذلك : نظام الحياة على وجه الأرض . وجود الإنسان والحيوان والنبات، والوقت لا يتسع والمقام لا يسمح بالتوسع في ذلك ، ولكن ألفت النظر إلى التأمل في التنوع الكثير جدا في الكائنات الحية ، والتأمل في عمل أجهزة الكائنات الحية ووظائفها ، ولن تتمالكوا أنفسكم حتى تجدوها ساجدة بين يدي الله رب العالمين . تأملوا في تنوع الشجر والورد والحب والثمر، هذا التنوع رغم أن الجميع يسقى من ماء واحد ، ويتغذى على التراب !!
قول الله تعالى : ( واختلاف الليل والنهار ) .
سوف أبحث في هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة عدة نقاط ، وهي :
النقطة الأولى : معنى اختلاف الليل والنهار .
لا ختلاف الليل والنهار عدة معاني ، أجملها في التالي :
المعنى الأول : تعاقب الليل والنهار ، بحيث يأتي أحدوهما خلف الآخر ، وأنه يوجد في كل لحظة حالة شروق وغروب ، وأن جميع الأوقات من الليل والنهار لا تخلو منها الأرض في أي لحظة من اللحظات .
المعنى الثاني: تعاقب اختلاف الليل والنهار من حيث الزيادة والنقصان ، وأن زيادة أحدوهما يعني نقصان الآخر ، وذلك بتعاقب الفصول الأربعة على مختلف بقاع الأرض ، وأن زيادة الليل أو النهار في مكان يترتب عليه نقصانه في مكان آخر .
النقطة الثانية : ماذا يجد الباحث عن الحقيقة في ظاهرة الليل والنهار ؟
الجواب : يجد الباحث عن الحقيقة في ظاهرة الليل والنهار ، بالإضافة إلى ما سبق توضيحه في بحث خلق السماوات والأرض من الدقة في النظام ، يجد البعد الربو بي وألقيمي في الخلق ، وتوضيحه كالتالي :
أولاً – البعد الربو بي : الليل والنهار يمثلان الظرف الزماني للتدبير ، فمن خلالهما يأتي حساب الزمان : الساعات والأيام والأسابيع والشهور والسنوات .
ومن جهة ثانية : فإن خصائص الليل والنهار ذات صلة بالتدبير ، فلكل من الليل والنهار خصائصه ، وأن لتلك الخصائص تأثيراتها على الكائنات النباتية والحيوانية الموجودة على الأرض ، وإيصالها إلى كمالها المنشود وغاية وجودها ، لا سيما الإنسان ، وهذا ينقلنا إلى البعد الثاني وهو …
ثانياً – البعد ألقيمي : من خصائص الليل والنهار ذات الصلة بالتأثير على الإنسان ، صلاحية النهار للانتشار والسعي في المهام وطلب الرزق ، وصلاحية الليل للراحة والسكون وطلب اللذة ، وصلاحيته للعبادة وخفاء السر ، وبالتالي : صلاح باطن الإنسان أو فساده . علينا أن نتخيل ما تخفيه ظلمة الليل وراء الجدران من أسرار ، وصلة ذلك بصلاح باطن الإنسان أو فساده . تخيلوا مؤامرات الأشرار وفسوق الفجار ، وتخيلوا أنين العباد ومناجاتهم ، وتخيلوا آلام وعذابات الثكلى والمحرومين والجياع والمعذبين والمظلومين . تأملوا كل ذلك ولا تغفلوا عنه ، لكي تكونوا من أصحاب القلوب النابضة بالحياة ، ولكي تتفتح لكم أبواب الخير على طريق الله ، طريق الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة . هذا فضلاً عن الجوانب العرفانية لليل والنهار ، والظلام والنور ، والعدم والوجود ، التي لا يتسع الوقت ولا يسمح المقام للخوض فيها .
قول الله تعالى : ( لآيات لأولي الألباب ) .
الآيات : جمع آية : بمعنى العبرة والمعجزة والدليل والبرهان .
والتنكير في لفظ الآيات ، يدل على التفخيم كماً ونوعاً . أي آيات كثيرة وعظيمة .
أولي : أصحاب .
الألباب : جمع لب ، بمعنى العقل ، واللب من كل شيء : خالصه وخيره وحقيقته .
أولي الألباب : بمعنى أصحاب العقول النيرة ، الخالصة من شوائب الحس والوهم ، الذين يفكرون بموضوعية ونزاهة ، ويسيطرون على الموأثرات السلبية على التفكير ، لكي يحصلوا على الحقيقة الخالصة ، ولكي يلتزموا بها في جميع مجالات الحياة ، لأنهم أدركوا بعقولهم النيرة وفطرتهم السليمة ، بأن ذلك هو الطريق الوحيد لتحصيل السعادة والفوز في الدنيا والآخرة . وهذا اللفظ يدلنا على أن جوهر الإنسان هو عقله وقلبه وروحه ، وأن العلماء هم أفضل الناس وخالصتهم . عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال : ( لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك و لا أكملتك إلا فيمن أحب . أما إني إياك آمر وإياك أنهي وإياك أعاقب وإياك أثيب ) .
وبعد هذا التمهيد أشير إلى عدة نقاط ، وهي كالتالي :
النقطة الأولى : إن الآيات الدالة على المبدأ والمعاد موجودة في كتاب الكون وهي في غاية الوضوح والدلالة ، وهذا ما يدل عليه لفظ التأكيد (إن) في أول الآية الشريفة المباركة ، أي التأكيد على تحقق مضمون الآية الشريفة المباركة ، وهو الدلالة اليقينية القاطعة ، على المبدأ والمعاد والطريق بينهما ، غير أن الذين يدركون هذه الآيات ويحسنون قراءتها هم أولو الألباب ، الذين ينظرون مدفوعين بفطرتهم إلى الحياة من موقع المسؤولية ، ويبحثون عن الحقيقة العظمى في الوجود ، ويخضعون إليها طائعين ، ويسلكون الصراط المستقيم الذي يكتشفونه في ضوء شمس المعارف الإلهية العظيمة ، ويحددون في ضوء كل ذلك مواقفهم العملية في الحياة بصدق وإخلاص .
والخلاصة أن هذه النقطة تتضمن ثلاث حقائق رئيسية ، وهي كالتالي :
الحقيقة الأولى : أن الفطرة الإنسانية السليمة ، والعقول النيرة التي تعمل بشكل صحيح ، هما الذين يدفعان الإنسان إلى التصرف المسئول في الحياة.
الحقيقة الثانية : إن الاستجابة للمثيرات الكونية التي تمثلها الآيات ، والتفاعل الإيجابي معها ، هو السلوك الصحيح الذي يصدر عن أصحاب الفطرة السليمة والعقول النيرة . أما الغافلون فيمثلون حالة شاذة غير سوية ، لا تليق بالإنسان السوي العاقل ، ولا تحفظ كرامته الإنسانية في الدنيا والآخرة .
الحقيقة الثالثة : إن النتائج العملية الإيجابية لتلك الاستجابة ، وخلاصتها اكتشاف الصراط المستقيم واتخاذ المواقف الصادقة في الحياة ، على ضوء شمس المعارف الإلهية العظيمة ، هي السبيل الوحيد للنجاة والفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة .
والخلاصة : توجد في الكون آيات تثير مكامن العقول والوجدان ، وأن أولي الألباب يتفاعلون بإيجابية وبطريقة سليمة مع تلك الآيات ، إنطلاقاً من فطرتهم السليمة وعقولهم النيرة ، ويتوصلون إلى المعارف الحقة والمواقف الصادقة القوية في الحياة على ضوء تلك المعارف ، فيحصلون على النجاة والسعادة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة .
النقطة الثانية : كما ذكرت قبل قليل ، فإن سلوك أولي الألباب في الحياة ، هو السلوك السليم الذي تدفعهم إليه فطرتهم الإنسانية السليمة وعقولهم النيرة. أما الغافلون فإنهم يمثلون حالة شاذة غير سوية ، ولهذا فإن القرآن ينبههم من غفلتهم ، ويدعوهم إلى السلوك الصحيح في الحياة ، من أجل سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة ، فإن استجابوا وإلا فالنار مثواهم وبئس المصير وبئس الورد المورود . وهم الذين قال عنهم القرآن الكريم : ( وإذا ذكروا لا يذكرون ) ( الصافات : 13)
النقطة الثالثة : صفات أولي الألباب . وأهم الصفات ذات الصلة بالموضوع هي الصفات التالية :
الصفة الأولى : التعامل مع الكون والحياة من موقع المسؤولية ، انطلاقا من الفطرة السليمة والرؤية العقلية الموضوعية التي تفرضها الحياة على واقع الإنسان في حياته .
الصفة الثانية : البحث الموضوعي النزيه عن الحقيقة والمواقف الصادقة المعبرة عنها ، وأتباع أحسن القول .
الصفة الثالثة : التغلب على المؤثرات السلبية النفسية والعقلية في البحث عن الحقيقة والمواقف العملية المعبرة عنها ، في ضوء الروح الإيمانية المرتبطة بالله جل جلاله، الذي لا يعبد إلا بالحق والصدق ، مما يجعل بين الإيمان من جهة ، والحقيقة والصدق من جهة ثانية ، علاقة اطراد . أي كلما كان الإنسان أكثر إيماناً ، كلما كان أكثر حرصاً على الحقيقة والصدق وأكثر اقتراباً منهما .
الصفة الرابعة : اجتناب الطاغوت وكل ما يضر بكرامة الإنسان .
هذا بالإضافة إلى صفات جوهرية أخرى سوف نتعرف عليها في مستقبل البحث في الآيات الشريفة المباركة .
النقطة الرابعة : ما الذي يتوصل إليه أولي الألباب من النظر في الكون والظواهر الكونية ؟
الجواب : يتوصل أولوا الألباب من خلال النظر في الكون والظواهر الكونية إلى معرفة الحقائق في الموضوعات التالية : النفس ، والكون ، والمبدأ ، والمعاد ، والطريق الذي يوصل بين المبدأ والمعاد ، وهو النبوة والهداية . وسوف تتضح بعض التفاصيل في مستقبل البحث .
النقطة الخامسة : الدروس التي نستفيدها من هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة .
الدرس الأول : الحث على التفكير في الخلق ، والبحث عن أسرار الخليقة وغاياتها ، وفي الآية الشريفة المباركة وعد من الله جل جلاله ، بأن يوفق الباحثين الجادين عن الحقيقة ، يوفقهم للحصول عليها ، وأن ما أشارت إليه الآية الشريفة المباركة من نتائج حصل عليها أولوا الألباب ، هي دليل على هذا التوفيق الإلهي العظيم .
الدرس الثاني : الدعوة إلى احترام العقل والعقلاء والعلماء ، وبيان إلى أن قيمة الإنسان وعظمته في عقله كما أوضحت قبل قليل ، وأن قيمة العقل وعظمته في حركته ، أي في معرفة الحق والخضوع الفعلي إليه .
الدرس الثالث : الحث على العلم وتقدير العلماء والاستفادة من علومهم ، وأن ذلك هو السبيل الوحيد للتقدم في الحياة والتغلب على مشاكلها مهما عظمت . إنني أستغل هذه الفرصة للتأكيد على أن أفضل سلاح يجب على المستضعفين في الأرض أن يعتمدوا عليه في معركتهم ضد الطواغيت ومغتصبي حقوقهم ، هو سلاح العلم وقوة العقول ، فهذا هو السبيل الوحيد لكسب المعركة والخروج من مأزق الاستضعاف ومشاكله .
الدرس الرابع : الدعوة إلى القيادة الواعية والانقياد الواعي ، وإدانة القيادة العمياء والانقياد الأعمى وراء القيادة . فأصحاب العقول النيرة الممدوحين في القرآن الكريم ، يلاحقون الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الظواهر في المجتمع ، كما يلاحقون الظواهر الكونية ، وأن كل شيء عندهم محسوب ، ويخضع للمراقبة والمحاسبة ، كما سيتضح أكثر بعد قليل .
قول الله تعالى : ( الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ) .
الذكر : ضد النسيان . وذكر الله جل جلاله يكون بذكر ذات الله جل جلاله ، وبذكر نعمه وفضله على العالمين . وذكر ألذات أفضل وأدوم . والذين يذكرون الله جل جلاله يذكرهم ، والذين يذكرهم الله جل جلاله يرفعهم إليه ، ويديم النعمة عليهم ، ويحببهم إلى الناس والى المليء الأعلى ، ويحفظهم من وساوس الشيطان وكيده ، ويحفظهم من كيد أعدائهم المجرمين . وهذا الذكر هو وليد الانفتاح على الآيات الكونية والتفاعل الإيجابي الصحيح معها.
يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم : هذه من الصفات الجوهرية لأولي الألباب ، ولهذه الصفة عدة دلالات ، أذكر منها الدلالات التالية :
الدلالة الأولى : الاستمرار في الذكر ، بحيث لا يغفلون عن ذكر الله في عامة أوقاتهم .
الدلالة الثانية : الاستغراق في الذكر ، بحيث لا يلهيهم شيء عن ذكر الله جل جلاله .
الدلالة الثالثة : تنوع حالات الذكر بين ذكر اللسان وذكر الجوارح وذكر العقل والقلب والروح ، وتنوع أوضاعهم في حالة الذكر بين القيام والقعود والركوع والسجود والإضجاع ، فهم لا يذكرون الله جل جلاله على حالة واحدة ووضع واحد، وإنما على حالات متنوعة وأوضاع مختلفة ، بل يذكرون الله على كل الأحوال وفي كل الأوضاع ، فلا توجد لديهم حالة أو وضع لا يذكرون الله فيه . قال نبي الله موسى بن عمران عليه السلام : ( يا رب إني أكون في حال أجلك أن أذكرك فيها . قال : يا موسى اذكرني على كل حال ) .
الدلالة الرابعة : الانتقال بين حالات الخوف والرجاء .
الدلالة الخامسة : الإثارة والتعطش للذكر ، فهم لا ينظرون إلى الأشياء نظرة سطحية ، وإنما ينظرون إلى عمق الأشياء وباطنها ويرون حقيقتها المثيرة للوجدان والشعور ، حيث يتجلى لهم الخالق بجماله وجلاله في مخلوقاته ، وهذا ما أورثهم اليقين والتعطش للذكر والتقلب في حالاته . فكلما رأوا آيات الجمال والجلال ذكروا الله ذي الجلال والإكرام ، وزاد عطشهم لمزيد من الذكر ، وزاد أنسهم بالمخلوق وعشقهم إليه ، وزاد قلق العاشقين لديهم ، مما ينتج عنه تقلبهم في مختلف أنواع الذكر وأوضاعه .
قول الله تعالى : ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) .
التفكر : هو استغراق الفكر في موضوع تفكيره إلى حد يجعله يغفل عن الأشياء الأخرى ، بل عن أحوال نفسه . وهو عند الصوفية درجة سامية من درجات المعرفة ، تقوم على تخلية القلب عن التفكر في الأشياء الحسية ، حتى ينتهي إلى درجة الاتحاد بالله تعالى .
ومناقشة رأي الصوفية خارج عن غرض البحث ، وقد ذكر من أجل زيادة توضيح المعنى لا غير .
ويعتبر التفكر من أفضل العبادات في الإسلام . قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : ( لا عبادة كالتفكر في صنعة الله عز وجل ) . وقال الإمام الصادق عليه السلام : ( أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وقدرته ).
وقال عليه السلام : ( تفكر ساعة خير من عبادة سنة ) .
وللتفكر نتائج عامة مهمة في حياة الإنسان ، أذكر منها النتائج التالية :
النتيجة الأولى : تحصيل الحقائق والعبر في الكون والحياة .
النتيجة الثانية : تحصيل الاستقامة والإخلاص لله جل جلاله في العمل واتخاذ المواقف الصادقة القوية في الحياة .
النتيجة الثالثة : حسن الظاهر والباطن .
النتيجة الرابعة : التواضع للناس وخدمتهم والتضحية من أجلهم .
النتيجة الخامسة : الصفة الإجرائية في الحياة ، بمعنى عدم فصل العلم عن العمل في مختلف الميادين في الحياة الدينية والدنيوية .
النتيجة السادسة : التقدم المستمر في السيرة التكاملية للإنسان على كافة الأصعدة .
النتيجة السابعة : السلامة وحسن العاقبة في الأمور كلها في الدين والدنيا .
كانت تلك نتائج عامة للتفكر ، وهناك نتائج خاصة يتوصل إليها أولوا الألباب من خلال التفكر في الكون والحياة ، وذكرتها الآيات الشريفة المباركة التي نحن بصدد بحث مضامينها ، وهي التالي :
قول الله تعالى : ( ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ) .
الخلق : أوضحت معناه في أول البحث في مضامين الآية الشريفة المباركة.
الباطل : ضد الحق ، وهو ما لا أصل له ، أو لا يكون صحيحاً بأصله ، ولا يمكن إثباته عند الفحص عنه . والجمع أباطيل . والباطل أيضاً : الهزل والعبث وما لا غاية له ولا فائدة فيه.
سبحانك : أي ننزهك عن كل ما لا يليق بقدسك وكمالك .
فقنا : الوقاية تعني الصيانة عن الأذى والحماية .
أما عن النتائج التي توصل إليها أولوا الألباب من خلال التفكر في الآيات الكونية ومظاهر الحياة ، فهي كالتالي :
النتيجة الأولى : قول الله تعالى على لسانهم : ( ربنا ) .
الرب : هو المدبر والمربي .
أي أنهم توصلوا من خلال النظر إلى الترتيب والنظام والقصد في المكونات والظواهر الكونية والحياتية ، توصلوا إلى أن للكون خالق ومدبر ومربي يتعهده ويوصله إلى كماله وغاية وجوده .
النتيجة الثانية : قول الله تعالى على لسانهم : ( ما خلقت هذا باطلاً ) .
أي أنهم توصلوا من خلال النظر إلى الترتيب والنظام والقصد في المكونات والظواهر الكونية والحياتية ، توصلوا إلى أن الله جل جلاله لم يخلق الخلق عبثاً ، وإنما خلقه لفائدة وهدف .
النتيجة الثالثة : قول الله تعالى على لسانهم : ( سبحانك ) .
أي أنهم توصلوا من خلال النظر إلى الترتيب والنظام والقصد في المكونات والظواهر الكونية والحياتية ، توصلوا إلى الصفات الثبوتية لله جل جلاله ، مثل : الحياة والعلم والحكمة والقدرة والسلطان والقوة التامة …. الخ . كما توصلوا من خلال النظر في محدودية الكون الذاتية والزمانية والمكانية ، إلى الصفات السلبية لله تعالى ، التي تنزهه عن المحدودية والنقص ، كما يدل على ذلك لفظ ( سبحانك ) ، وإلا لأحتاج إلى خالق شأنه في ذلك شأن المخلوقات ، التي يستدل من خلال محدوديتها على حاجتها إلى خالق يخلقها ، لأنها فقيرة في ذاتها بحكم محدوديتها ، مما يلزم عنه بالضرورة حاجتها إلى موجد يوجدها ، لأنها غير قادرة على إيجاد ذاتها بذاتها .
النتيجة الرابعة : قول الله تعالى على لسانهم : ( فقنا عذاب النار ) .
أي أنهم توصلوا من خلال النظر في الترتيب والنظام والقصد في الظواهر الكونية والحياتية ، ومعرفتهم من خلال ذلك بصفات الله جل جلاله الثبوتية والسلبية ، ومعرفتهم بحقيقة هدفية الوجود ، كل ذلك أوصلهم إلى عقيدة المعاد والحساب والجزاء يوم القيامة . فعقيدة المعاد والحساب والجزاء يوم القيامة ، هي نتيجة حتمية وخلاصة للحقائق والنتائج السابقة التي توصلوا إليها ( التسلسل الذهبي لمنطق العقل المستنير والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها ) . ومن الطبيعي جداً أن يتوجهوا بنيات صادقة وقلوب طاهرة إلى رب العباد أن ينجيهم من عذاب النار ، وهذا يمثل الحد الأدنى من الطموح ، أما غاية طموحهم فهو فوق ذلك بكثير ، كما سيتضح بعد قليل .
وهذه النتيجة تتضمن عدة حقائق مهمة تجدر الإشارة إليها ، أذكر منها :
الحقيقة الأولى : إدراك أولي الألباب لحقيقة العدل والحكمة في الحياة بكل أبعادهما الجوهرية الرئيسية ، ثم انطلاق الحياة في وعيهم من إدراك تلك الحقيقة ، وسعيهم لصبغ الحياة بصبغة تلك الحقيقة ، وتتجلى تلك الحقيقة في آرائهم وأقولهم وأفعالهم ومواقفهم الصادقة القوية . وبالتالي لا يظلمون أحداً ، ولا يهادنون الظلم والظالمين ، وليست لديهم برجماتية إنتهازية في أطروحاتهم ومواقفهم ، ولا استغلال ولا استغفال ولا تذاكي على أحد ، لأن هدفهم هو أن تتكامل صورة الحياة في المظاهر الكونية والإنسانية ، في نور شمس المعارف الإلهية العظيمة .
الحقيقة الثانية : إدراك أولي الألباب لاختلاف الأشياء والأفكار والقيم والمبادىء والسلوك في حقيقتها وقيمتها ، وعلى هذا الأساس يقوم العدل والحساب يوم القيامة .
الحقيقة الثالثة : جدية أولي الألباب في الحياة ، والتزامهم العملي بخط المسؤولية والطاعة كسبيل وحيد لتحصيل السعادة والنجاة والفوز في الدنيا و الآخرة .
الحقيقة الرابعة: خوف أولي الألباب من الخزي والعار الذي يصيب أهل النار بسبب غفلتهم وسوء عملهم في الدنيا ، وما يدل ذلك الخزي والعار عليه من النقص والحقارة في ذوات أهل النار ، مما جعل النار مثواهم والمكان الذي يناسبهم بما هم عليه من النقص والحقارة .
الحقيقة الخامسة : رهبة أولي الألباب من عظمة الله وجلاله ، وعشقهم لكماله وجماله ، مما يجعل قلوبهم تتقلب بين العشق والرهبة ، أو بين الرجاء والخوف .
الحقيقة السادسة : استعداد أولي الألباب للتضحية وتحمل مشاق الحياة ، من أجل بناء ذواتهم وتحصيل سمو أنفسهم ورفعتها ، وحفظ كرامتهم وصيانة أنفسهم من الدناءة والحقارة في الحياة الدنيا ، ومن العذاب الأليم يوم القيامة . حيث أنهم علموا بأن الإنسان ثمرة الوجود ، وأنه لم يخلق عبثاً وبدون غاية سامية تتناسب مع كرامته . وحيث أنهم علموا بأن الدنيا دار ابتلاء ، فلا بد للإنسان من تحمل المشاق والصعاب في الحياة ، من أجل تربية نفسه والعروج بها في سلم الكمال ، حتى يكون الإنسان قريباً من الله جل جلاله ، ويكون من الخالدين في نعيم الله وجنته الطيبة الخالدة .
النتيجة الخامسة : قول الله تعالى على لسانهم في الآية التي تلي الآية التي نحن بصدد بحث مضامينها : ( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ) ( آل عمران : 192 ) .
أي أنهم توصلوا من خلال تفكرهم إلى معرفة حقيقة أنفسهم .
النتيجة السادسة : قول الله تعالى على لسانهم في الآية التي تلي الآية التي نحن بصدد بحث مضامينها بآية : ( ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ) ( آل عمران: 193 ) .
أي أنهم توصلوا أيضاً في السلسلة المتتالية للحقائق من خلال تفكرهم ، إلى عقيدة النبوة والحاجة الدائمة إلى الهداية ، لمعرفة التفاصيل في مسائل العقيدة والأحكام والواجبات المفروضة والمستحبة في الحياة ، وما يجب عليهم تركه وما يكره عليهم فعله ، في سبيل سعادتهم وفوزهم وراحتهم في الدنيا والآخرة . أي أنهم توصلوا إلى معرفة الطريق الذي يربط بين المبدأ والمعاد . وسوف تكون هذه الآية الشريفة المباركة والتي قبلها موضوع بحثنا القادم في سبيل استكمال صورة البحث وغايته .
الدروس التي نستفيد ها من الآية الشريفة المباركة ، وهي كثيرة أذكر منها:
الدرس الأول : إن الإيمان ليس حالة صوفية مفصولة عن واقع الحياة ، وإنما هو وعي في الفكر ، وإرادة فولاذية تتجسد في العمل الخالص لوجه الله تعالى ، والمواقف الصادقة القوية في مختلف ميادين الحياة .
الدرس الثاني : أهمية ربط العلوم الكونية بتذكر الخالق ، أي الانتقال من معرفة المخلوقات إلى معرفة الخالق ، وعدم الاكتفاء بدراسة ظواهر الأشياء ، كما قال الله تعالى وحذرنا : ( يعلمون ظاهراً من الحياة وهم عن الآخرة هم غافلون ) ( الروم : 7 ) . ولو قمنا بعملية الربط هذه لتحولت دراسة العلوم الكونية إلى عبادة حقيقية لله جل جلاله ، ولأصبحت أحد أدوات تربية النفس وتزكيتها ، ولأصبحت سبباً لاستقامة الحياة واستقرارها وتقدمها . بينما حول الاتجاه المادي للعلوم ، حولها في الكثير من نتائجها إلى نقمة على الإنسان وحول الحياة إلى جحيم ، وحرم البشرية من النعم العظيمة ، التي يمكن أن تنتج من الربط بين العلوم الكونية وبين معرفة الخالق جل ذكره العظيم ، التي أشرت إلى بعضها قبل قليل ، ومن شأن الفصل بين العلوم الكونية ومعرفة الخالق ، من شأن ذلك أن ينتهي بالكثيرين إلى غضب الله وسخطه وعذابه وانتقامه .
الدرس الثالث : إن تفكر أولي الألباب في الظواهر الكونية والحياتية ، يوصلهم كما ذكرت قبل قليل ، إلى معرفة أمهات مسائل العقيدة والأخلاق ، بما في ذلك عقيدة النبوة والحاجة المستمرة إلى الهداية ومعرفة تفاصيل العقيدة والأحكام ، ويحرضهم على الطاعة وسلوك سبيل السلام والكمال والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة . ومع التأكيد على عقيدة النبوة والإمامة ، فإن الإنسان يجد نفسه بين طريقين للمعرفة والسعادة والكمال والحياة الطيبة وهما : طريق التفكر الذي رسمت خطوطه العريضة الآيات الشريفة المباركة التي وقفنا على بعض مضامينها . والطريق الثاني : هو طريق السلوك والإقتداء . قال الله تعالى : (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ) ( الأحزاب : 21 )
الدرس الرابع : الحاجة الروحية للنظر في السماء والتفكر في الخلق ، ونحن محرومون هذه الأيام من هذه النافذة الروحية ، فقد حبسنا أنفسنا بين الجدران وتحت الأسقف ، حتى كدنا لا نشعر بعظمة السماء والظواهر الكونية . يروى أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، كان من سيرتهما أنهما يخرجان أثناء صلاة الليل بين فترة وأخرى وينظران في السماء ويتفكران ويقرآن قول الله تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب…..الخ ) وهذا العمل من المستحبات الشرعية التي ينبغي لنا الاستفادة منها ، والبحث عن بعض الوسائل التي تعوضنا عن بعض ما خسرناه نتيجة حبس أنفسنا بين الجدران وتحت الأسقف ، وأغلقنا على أنفسنا تلك النافذة الروحية التي تطل بنا على الكون العظيم والتجليات الربانية ، تجليات الجمال والجلال .
الدرس الخامس : روي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها ، أنها قالت – حسب عدد من الروايات : ( … أتاني – تعني زوجها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم – في ليلتي حتى مس جلدي جلده ، ثم قال : ذريني أتعبد لربي غز وجل ، فقام إلى القربة فتوضأ منها ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ، ثم ركع فبكى ، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ، ثم رفع رأسه فبكى ، فلم يزل كذلك حتى جاء بلال ، وفي رواية : ثم أضجع على جنبيه حتى أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح ، فقال : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟!
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ويحك يا بلال ما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) . ثم قال : ( ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها )
وفي رواية ( ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها )
وفي هذا السلوك الرسالي درس نتعلمه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لمعرفة قيمة وأهمية هذه الآية الشريفة المباركة وأدب التعامل معها. ومما ينبغي التنبيه إليه هنا : أن بكاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، ليس لذنب أقترفه ، وليس لخوف من جهنم التي تكاد تتميز من الغيظ ولخوف من نيرانها العظيمة ، ليس لشيء من ذلك ، وإنما بكاءه هو تعبير عن حالة شعورية تتولد من المعرفة الشهودية بجلال الله وجماله . ومع هذه المعرفة الشهودية والحالة الشعورية التي تتولد عنها ، وهي مزيج من رهبة الجلال وعشق الجمال بصورة طاغية لا يمكن لأمثالنا تصورها ، مع هذه المعرفة الشهودية والحالة الشعورية ، ليس الغريب هو أن يبكي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما الغريب هو أن تستقر روحه في جسده . قال الله تعالى عن موسى الكليم عليه السلام : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ) ( الأعراف : 143 ) ( وخر موسى صعقا : أي خر ميتا ) . وما يحصل للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من المعرفة والتجلي ، أعظم مما حصل لموسى الكليم عليه السلام بدرجات لا يعلم مداها إلا الله جل جلاله . فالعجب هو : كيف تستقر روحه صلى الله عليه وآله وسلم في جسده ، وليس العجب أو الدهشة والاستغراب في بكائه صلى الله عليه وآله وسلم وقد غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنوبه وما تأخر . إن استقرار روحه صلى الله عليه وآله وسلم في جسده ، رغم معارفه الشهودية وما يحصل لديه صلى الله عليه وآله وسلم من تجليات الجمال والجلال ، هو دليل على عظمته صلى الله عليه وآله وسلم وكماله ، تلك العظمة والكمال الذين لا يعرف حقيقتهما ومداهما إلا الله تعالى والراسخون في العلم ، وهم أهل البيت عليهم السلام ، الذين هم نفسه صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس من غرض البحث الآن شرح غفران ذنوبه صلى الله عليه وآله وسلم .
الخطبة السياسية : تحذيرات من جوانب مثيرة للقلق في الساحة الوطنية
بعد هذه الوقفة مع الآية الشريفة المباركة ، أنتقل إلى القسم الثاني من الخطاب ، وهو القسم الذي يعرف بالخطاب السياسي . و في هذا الخطاب أدعو كافة الشرفاء في الوطن ، لأن يعيشوا أجواء الآية الشريفة المباركة في التعاطي مع الواقع ، والذي جوهره ، التعاطي مع الواقع من موقع الوعي بالمسؤولية الواقعية ، التي يحددها التكليف الشرعي والواجب الوطني في ضوء استحقاقات الواقع ومتطلباته . وهو التكليف الذي يحصن الواقع من التراجع ، ويصون حقوق المواطنين ، وهو التكليف الذي نسأل عنه يوم القيامة بحقيقته ، وليس بظاهره وليس بالمسؤولية المصطنعة التي نغلف فيها رغباتنا ومشاعرنا وهواجسنا ومصالحنا الشخصية بالمسؤولية الشرعية والواجب الوطني وغير ذلك ، فتضيع بمغالطاتنا المسؤولية الفعلية التي تتطلبها الساحة الإسلامية والوطنية ، والتي نسأل عنها يوم القيامة . إننا نستطيع أن نخدع الناس ونخدع أنفسنا ولكننا لن نستطيع أن نخدع الله تعالى الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد . إن علينا أن نخلص في تشخيص التكليف الشرعي والواجب الوطني ، بالشكل الذي يرضي الله تعالى عنا ، ويخدم الدين والأمة والوطن والمواطنين ، ويخلصنا من العذاب يوم القيامة . إنني بهذه المناسبة أحذر من القبول بالأمر الواقع ، القبول الذي يهدر حقوق المواطنين ويقطع الطريق عليهم نحو الرقي والتقدم في ميادين الحياة المختلفة ويسلخهم من إنسانيتهم . وأحذر من تغليب المصالح الشخصية والهواجس النفسية على المصالح العامة الإسلامية والوطنية ، وأحذر من ضيق الأفق في النظر للأمور ، ومن وزن الأمور بغير ميزانها الصحيح ، وأنبه بأن الواقع القائم ، ينتهك حقوق الموطنين ، ويقطع الطريق عليهم نحو التقدم والتطور في ميادين الحياة المختلفة ، ويشكل خطراً على الدين وإنسانية الإنسان ، وأن القبول به والخضوع إليه ، يعني المشاركة في المسؤولية عنه أمام الله والتاريخ ، أي يورث خزي الدنيا وعذاب الآخرة والعياذ بالله العظيم من ذلك . وفي نفس الوقت : أحذر من التصرفات غير المدروسة ، ومن التعصب الأعمى لذات أنفسنا ووجهات نظرنا، والتعصب الأعمى الطائفي والحزبي وللرمز والقيادات ، على حساب الحقيقة والمصالح العامة الإسلامية والوطنية ، فتكون الطائفة والحزب أو المؤسسة ، وتكون القيادات والرموز وسيلة للتخلف والفساد وغضب الرب ، بدلا من أن تكون – كما هو المطلوب منها فعلاً – وسيلة للتقدم والإصلاح ورضا الرحمن . وأحذر من المحاولات الظاهرة والمستترة للالتفاف على إرادة الشعب ومصالحه ، وأأكد بأن السير في هذا الطريق لن ينتج عنه إلا المزيد من الخسائر للوطن والمواطنين ، فعلى السائرين في هذا الطريق الاستيقاظ من سكرتهم التي هم فيها عمون ، وأن يبحثوا عن الصراط المستقيم الذي يجب انتهاجه في المسيرة الإسلامية والوطنية ، وأن يستعينوا على اكتشاف الحقائق بشمس المعرفة الإلهية العظيمة ، التي تهتك أستار الباطل وتكشف الحق وتدل عليه وترغب فيه . وأحذر كل من يهمه الأمر من خطورة إفلات زمام الأمور في البلاد ، ومن المفترض أن نكون قد تعلنا الدروس من التجارب السابقة التي مرت على البلاد ، ومن تجارب العالم والتاريخ . قال الله تعالى : ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) ( آل عمران : 137 ) . وقال الله تعالى : ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ( الروم : 9 ) .
صدق الله ألعلي العظيم
أكتفي بهذا المقدار ، وأستغفر الله الكريم لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .