خطبة الجمعة | 21-10-1994
الموضوع: الحكم بما أنزل الله
بسم الله الرحمن الرحيم
افتتح فضيلة الأستاذ حفظه الله حديثه بالآيات الكريمة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
وقال وصف الله عز وجل في هذه الآيات الذين لا يحكمون بما أنزل الله بثلاثة أوصاف: الكفر، والفسق، والظلم. وقد فهم العلماء من هذه الآيات الثلاث النقاط التالية:
أولاً: أن الحكم بما أنزل الله واجب شرعًا، في جميع جوانب حياة الإنسان الفردية والاجتماعية. واستعماله كمنهج حياة.
ثانيًا: إن الذين لا يحكمون بما أنزل الله لهم حالتان: الحالة الأولى: الكفر وذلك إذا كان عدم الحكم بما أنزل الله مصحوبًا بعدم الاعتقاد بوجوب الحكم بما أنزل الله. الحالة الثانية: إذا كان الشخص يعتقد بأن الحكم بما أنزل واجب شرعًا، إلا أنه خالف ذلك عصيانًا، فيسمى ذلك فاسقًا.
ثالثًا: إن الذين لا يحكمون بما أنزل الله، يكونون من الظالمين لأنفسهم، لأنهم بمخالفة حكن الله عز وجل قد وضعوا أنفسهم إلى غضب الله وعذابه.
رابعًا: إن عدم الحكم بما أنزل الله، ينتج عنه أضرار، الظلم الاجتماعي… وانتشار الفساد بين الناس وفقدان الأمن والاستقرار، لأن العدل الاجتماعي هو ميزان الحياة الاجتماعية، فإذا فقد هذا الميزان واختل نتج عن ذلك الفساد والاضطراب.
الرسول والدولة تجسيدًا للقانون الإلهي
الرسول (ص) حول هذا الشعار إلى واقع حي ملموس حينما أقام دولة الإسلام ف المدينة المنورة وطبق أحكام الله على الأفراد والمجتمع الإسلامي فيما يتعلق بالعلاقات بين الأفراد. والآن الأمر اختلف كثيرًا بعد وفاة الرسول الأعظم (ص) فقد عين الله جل وجلاله أئمة بعد النبي (ص) إلا أن أئمة آخرين فرضوا أنفسهم وإمامتهم على الناس. ولم يتحمل المسؤولية الشرعية في طاعة أئمة الحق ودفع غيرهم عن مقام الإمامة. وبالتالي تولد وضع اجتماعي شاذ في المجتمعات الإسلامية.
- التأريخ في مرحلتين
هذا الوضع الشاذ نستطيع أن نقسمه إلى قسمين أو تاريخين:
- تاريخ الخلافة: ويمتد من وفاة الرسول الأعظم (ص) وحتى سقوط الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
- تاريخ ما بعد سقوط الخلافة العثمانية وحتى الآن.
تاريخ الخلافة
فله إيجابيات وله سلبيات. إيجابيات تاريخ الخلافة:
- في هذه الحقبة.. كان الإسلام هو القاعدة الحاكمة لحياة الإنسان المسلم وإن كان هناك تجاوزات -كما سوف يتضح- عند الخلفاء من الحكام. ألا إن الإسلام بقي هو القاعدة الحاكمة لحياة الإنسان على المستوى الفردي والاجتماعي. وكان المسلم يتعايش مع الإسلام على هذين المستويين في المجتمعات الإسلامية.
- ب. بقيت للاسم دولة تذب عن الأرض الإسلامية، واستطاعت أن تحافظ علة وحدة الأرض الإسلامية وترد هجمات الأعداء.
- وجدت فتوحات باسم الإسلام في هذه الفترة، نتج عنها توسيع رقعة الأرض الإسلامية وبدرجة كبيرة جدًا.. بحيث وحد -ما يسمى اليوم- إمبراطورية إسلامية امتدت على مساحة واسعة مع الأرض.
- هذه النقاط الثلاث حفظت للمسلمين هيبتهم وللإسلام دوره في الساحة الدولية والحضارة الإنسانية. إلا أن هذه الإيجابيات الثلاث صاحبتها سلبيات خطيرة في هذه الحقبة التاريخية.
أول هذه السلبيات: الغلبة على الحكم وتوارث الحكم وإقصاء مبدأ الشورى في إدارة الحكم.. وبالتالي ظهور حالة الاستبداد.. وهذه النقطة واضحة في التاريخ الإسلامي.
ثانيها: إن الحكام كانوا يحكمون حسب أهواءهم، وظهرت مخالفات شرعية خطيرة جدًا في علاقة الحاكم بالمحكوم.. وعلى مستوى التصرف في أموال المسلمين.. إضافة إلى التصرف الشخصي للحكام.
ثالثها: التركيز على حق طاعة الخليفة، وإهمال واجبه في العدل والإنصاف بين الناس، إهمال حق المطالبة من الرعية لحقوقها السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية وغيرها.
ماذا ينتج عن ذلك؟
- التدهور العام في المجتمعات الإسلامية، سواء كان على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الاجتماعي. حتى سميت الخلافة العثمانية بالعجوز المريض، وبلغت الأوضاع من السوء ذروتها في زمن الخلافة العثمانية.
- نتيجةً لما سبقت وبعد مضي أكثر من 1300 سنة من تاريخ الخلافة، لم نجد تصورًا لنظام إسلامي متكامل. سواء كان على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو غيره من جوانب الحياة المختلفة.
سواء كان على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو غيره من جوانب الحياة المختلفة. هذا الأمر ترك فراغًا خطيرًا جدًا في الفكر الإسلامي فيما يتعلق بكون الإسلام منهجًا للحياة.
كون الإسلام كعقيدة، بقي، والمباحثات الفكرية لعقيدة الإسلام أثبتت وجودها إلى الآن، لكن كون الإسلام منهجًا في هذا الجانب بالذات. فقد وجد فراغًا فكريًا خطيرًا في هذا الجانب نتيجة للسلبيات السابقة.
تاريخ ما بعد سقوط الدولة العثمانية
بعد سقوط الخلافة العثمانية وبدء المرحلة الأولى ظهر ما هو أكثر مأساوية، فقد دخل الاستعمار إلى البلاد الإسلامية وسيطر على كل البلاد الإسلامية تقريبًا، وأقصى الإسلام عن الحياة وفرض القوانين الوضعية، وظهرت هنا عدة سلبيات خطيرة ما زلنا نعيشها إلى اليوم:
أولها: تفتيت البلاد الإسلامية إلى دول أو دويلات صغيرة، وصاحب هذا التفتيت ظهور النزعة القومية والوطنية، أولاً لترسيخ هذا التفتيت، ولفلسفته ثانيًا.
ثانيها: بروز النزاعات والصراعات المسلحة بين البلدان الإسلامية، ولا شك أن هذا الجانب أنهك وبدد ثروات وطاقات المسلمين.
ثالثها: الاستعانة بالأجانب أعداء الإسلام ضد المسلمين وهذا أعطى الهيمنة للأجانب على المسلمين.
رابعها: عاش الإنسان المسلم في هذه الظروف الغربة عن الإسلام كمنهج حياة، بدأ الإنسان المسلم يلتفت للإسلام كعقيدة، أما الإسلام كواقع ملموس يمكن التعامل معه.. لا.. الإنسان المسلم أصبح غريبًا في هذا الجانب.
خامسها: لم تعد للإسلام دولة تذب وتحمي الإسلام، وتحفظ للمسلمين هويتهم ومكانتهم، ما عدا الفترة الأخيرة فقد مّ الله علينا بالجمهورية الإسلامية في إيران، وأخذت تلعب هذا الدور، وبدأت بعض الدول تميل نحو إعادة الإسلام كمنهج حياة، وما زلنا نعيش بعض الآمال بأن تقوم بعض الدول الإسلامية في هذا القطر أو ذاك.
هذه المسألة الخطيرة التي أثبتتها حقبة ما بعد سقوط الدولة العثمانية، جعل مسؤولية إعادة الإسلام كمنهج حياة مسؤولية خطيرة وشاقة جدًا.
وما أصبحت الدراسات النظرية وقراءة الكتب وتدريسها ذات أثر مهم في إعادة الإسلام إلى الحياة. وبقية مسألة إعادة الإسلام للحياة كقاعدة وكمنهج للحياة يحتاج إلى جهود كبيرة جدًا. قبل ان أتكلم عن هذه الجهود، أريد أن أبين موقف الحكام في البلاد الإسلامية من عقيدة الإسلام كمنهج حياة، ويتمثل هذا الموقف في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: الإقصاء العملي للإسلام، إبعاد الإسلام عن ساحة الحياة. بل ومعاقبة من يدعو إلى ذلك أحيانًا بل كثيرًا.
النقطة الثانية: أن الحكام لا يصرحون في الحقبة السابقة بعدم صلاحية الإسلام كمنهج حياة، بل كثيرًا ما نجد في خطاباتهم الإشارة إلى أن الإسلام عقيدة وشريعة.
إلا أن في الآونة الأخيرة -خاصة العشر السنوات الأخيرة- برزت كتابات حكومية وكتابات مسنودة ومدعومة من بعض الحكومات العربية والإسلامية تدعو -على الصعيد النظري- إلى فصل الدين عن الحياة، وتدعو مباشرة إلى العلمانية، وتحاول أن تبرهن على ذلك من خلال فهمها إلى بعض الآيات القرآنية. وبعض الأحاديث ومستفيدة من الواقع التاريخي المر الذي ذكرته سابقًا من تاريخ الخلافة.
وفي هذه الكتابات قولهم: أنه حتى لو سلمنا أن الإسلام عقيدة وشريعة، إلا أن الإسلام اليوم غير قادر على التكيف مع النظام العالمي، ولا سيما النظام السياسي والاقتصادي، القائم على الأفكار الغربية. مما يضطر الدول العربية والإسلامية إلى التخلي عن الإسلام ليس لأنهم يعتقدون أن الإسلام غير صالح أو أنه عقيدة لا علاقة له بالحياة. وإنما تطبيق الإسلام اليوم غير ممكن نتيجة عدم قدرة الإسلام على التكيف مع هذا النظام العالمي السائد والمهيمن اليوم، ولا سيما على الساحة الاقتصادية والسياسية.
الحلول المقترحة
هذا الوضع الخطير يحتاج إلى جهود جبارة من قبل المؤمنين وتحملهم للمسؤولية الخطيرة في إعادة الإسلام للحياة وتطبيق الإسلام في المجتمعات الإسلامية. هذا الأمر يحتاج لهم أن يلتفتوا إلى عدة نقاط:
النقطة الأولى: يجب دراسة وفهم الإسلام من خلال حركة الواقع، وليس من خلال القراءة والدراسة في الزاوية المغلقة. فكما أننا نعتقد بأن غير المسلم البعيد عن الإسلام لا يمكنه أن يفهم فهمًا صحيحًا، كذلك نحن نعتقد بأن لا يمكن فهم الإسلام فهمًا صحيحًا من خلال القراءة والدراسة في الزاوية المغلقة، لأن الله عز وجل أنزل الدين من أجل صيانة الحياة، ليس الإسلام هو دين الحياة. أنزله الله من أجل قيادة الحياة، فإذا عزلنا الدين عن الحياة لا يمكن أن نفهمه فهمًا صحيحًا. وربما في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} دلالة وإشارة إلى هذا المعنى: أن الإسلام لا يمكن أن يفهم الفهم الصحيح الآمن خلال الارتباط بحركة الواقع، ولا يصح أن نفهم الإسلام بعيدًا عن حركة الواقع، أو من خلال الدراسة والفهم في الزوايا المغلقة.
من خلال فهم ودراسة الإسلام مع حركة الواقع يستطيع الإسلاميون في هذه الحالة أن يقدموا المعالجات الإسلامية الواقعية لقضايا ومشاكل الإنسان المعاصر اليومية. ومن ثم يجد الإنسان المسلم بأن الإسلام بالفعل مرتبط بحركة الواقع.
النقطة الثانية: يجب محاكمة الحكام على ضوء الشريعة، يجب على العلماء والأئمة أن تحاسب الحكام على ضوء أحكام الشريعة. وأن تطالبهم بإعطاء الناس حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. فليس فقط أن تطالب الأمة بإعطاء حق الطاعة للحكام، وإنما أيضًا مطالبة الحكام بأن يعطوا الناس حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومطالبة الناس بأن يطالبوا الحكام بهذا الحق، وعدم التخلي عن هذا الحق، لأن تخلي الناس عن حقوقهم السياسية والاجتماعية تؤدي إلى تدهور هذه الأوضاع، وفساد الحياة الاجتماعية كلها، وتخلي المسلمين عن ركب الحضارة. فلن يستطيع المسلمون أن يلعبوا دورًا في الحياة، إلا إذا أصلحوا الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلاد الإسلامية، ولن يكون كذلك إلا إذا طالبت الأمة أو الرعية الحكام بهذه الحقوق.
وإذا أعطى الحكام الرعية هذه الحقوق، وإذا أصرت الرعية على هذه الحقوق، وإذا أصرت الرعية على هذه الحقوق، فستكون الجبهة الإسلامية داخل البلاد الإسلامية جبهة قوية جدًا. في هذه الحالة يحدث التماسك والقوة في البلاد الإسلامية لأن الأوضاع صحيحة فيها. صلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد الإسلامية يعطي القوة ويمثل الأرضية القوية للدول الإسلامية لأن تلعب دورًا بارزًا وخطيرًا على الساحة الدولية وفي الحضارة الإنسانية. أما إذا أغفلوا حقوق الإنسان وسكتت الرعية من حقوقها فهذا سوف يؤدي إلى ظهور الفساد وبالتالي ضعف المسلمين وتخليهم عن دورهم الحضاري الإنساني.
النقطة الثالثة: الدعوة والتمسك العملي لإقامة العلاقات الطيبة بين الدول الإسلامية. فما يؤسف له حقًا أن نجد اليوم بعض الدول العربية حريصة كل الحرص على تحسين علاقاتها مع إسرائيل في الوقت الذي تصعد وتيرة التوتر والخلافات مع بعض الدول العربية والإسلامية. فهي تسعى في تحسين علاقاتها مع إسرائيل، الكيان الصهيوني المحتل للبلاد الإسلامية من جهة ومن جهة ثانية توتر علاقتها مع بعض الدول العربية والإسلامية.
النقطة الرابعة: يجب أن نرفض رفضًا قاطعًا ولأي سبب، تدخل الأجانب، أو الاستعانة بهم، ضد المسلمين لأي سبب من الأسباب.
أكتفي بهذا المقدار وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.