خطبة الجمعة | 30-12-1994

الموضوع: دور الشعب في الأحداث الأخيرة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العـالمين، اللهم صل على محمد وآل محمد، وارحمنا بمحمد وآل محمد، وأهد قلوبنا بمحمد وآل محمد، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد، واجمع بيننا وبين محمد وآل محمد، ولا تفرق بيننا وبينهم طرفة عين أبداً في الدنيا والآخرة يا كريم. اللهم معهم معهم لا مع عدوهم.

السلام عليكم أيها الأحبة. أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله وبركاته.

روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر ابن الخطاب انه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول. (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع ومسئول عن رعيته). صدق رسول الله (ص).

في البداية نحاول أن نتعرف على معنى الرعاية، في معاجم اللغة: كل من تولى أمر شيء وتكفل بتدبير شئونه فهو راع. ويطلق اللفظ على حارس الماشية والأغنام.

وبعيداً عن تعقيدات اللغة. فأننا إذا حللنا معنى الرعاية ـ كما جاء في معاجم اللغة ـ نجده يتألف من ثلاثة عناصر:

(أ) العنصر الأول (النظر): أن ينظر الراعي في حال ما تكفل برعايته. وأن يتعرف شئونه وما سينتهي إليه أمره.

(ب) العنصر الثاني (الحماية): أن يحافظ الراعي على الأمر الذي تكفل برعايته، وأن يحميه ويدافع عنه.

(ج) العنصر الثالث (التنمية): أن يعمل الراعي ويبذل جهده في تنمية وتطوير الأمر الذي تكفل برعايته. وأن يعمل الشيء الذي فيه مصلحته.

هذه هي العناصر الرئيسية التي يجب أن تظهر في جميع أشكال الرعاية تقريباً، سواء كانت رعاية الإمام أو الحاكم لرعيته، أو كانت رعاية الخادم لمال سيده. فالإمام أو الحاكم يجب أن يكون عارفاً بأحوال الشعب وأوضاعهم، وأن يجتهد في الدفاع عنهم وعن بلدهم ومصالحهم، وأن يسهر في سبيل تنميتهم وتطويرهم وازدهار بلدهم، وإلا لم تصدق عليه الرعاية للشعب. وما يقال عن الحاكم يقال عن الرجل في أهله، والزوجة في بيت زوجها. الخ.

تنقسم الرعاية الواجبة على كل إنسان إلى قسمين. هما:

أولاً: رعـاية الإنسان لنفسه: بمعنى أن يعرف ما يصلح شأنه في هذه الحياة، وما يجب عليه عمله. وأن رعاية الإنسان لنفسه تقتضي أن يدفع الضرر عن نفسه، وأن يسعى لحلب المنفعة إليها، وان الإنسان السوي يباشر ذلك بحكم العقل والفطرة. ولأن الإنسان كائن مادي ومعنوي، وأنه يعمل في الدنيا من أجل الآخرة، أو أنه يجني ثمار عمله في الدنيا والآخرة، فهذا يعني أن منافع الإنسان ومضاره مادية ومعنوية، دنيوية وأخروية.

فالمنافـع المادية مثل. المأكـل والمشرب والملبس والمسكن والزواج والصحة. الخ، وتقابلها المضار المادية مثل. الجوع والعطش والعرى والتشرد والعزوبة أو العنوسة والمرض. الخ، فهذه منافع ومضار مادية. أما المنافع المعنوية فهي كالعلم والأيمان وحسن الخلق والحرية. الخ، وتقابلها الأضرار المعنوية مثل. الجهل والكفر والنفاق والمعصية ومساوئ الخلق والعبودية. الخ. فهذه منافع ومضار معنوية.

ونظراً لكون الإنسان كائن مادي ومعنوي، وأنه يشترك مع الجمادات والنباتات والحيوانات في الجانب المادي ويمتاز عنها في الجانب المعنوي. فأن الأهم في المنافع والمضار بالنسبة إلى الإنسان هي المنافع والمضار المعنوية، وليس معنى ذلك الإهمال أو التقليل من أهمية المنافع والمضار المادية فهي مهمة وضرورية بالنسبة للإنسان في حياته الاجتماعية على وجه الأرض، ويجب إن تحظى بعناية ورعاية الإنسان لها.

ولكن الأهم في الجنسين هي المنافع والمضار المعنوية لأنها المنافع والمضار التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان، وبها تعرف قيمته وإنسانيته. ولأن الحياة الآخرة هي الحيوان أي أنها الحياة الحقيقية، فالمنافع والمضار المهمة هي المنافع والمضار التي تؤثر في الآخرة، وهي المنافع والمضار المعنوية بالدرجة الأولى.

وعلى هذا الأساس يجب أن تتركز رعاية الإنسان لنفسه أو لغيره من البشر كالحاكم أو المربي أو غيرهما على الجانب المعنوي، وليس الجانب المادي الذي يحظى بالأولية عند الماديين الذين لا يميزون بين الإنسان والحيوان ألا من جانب الكم لا من جانب النوع أو الكيف. فصيّروا حياة الإنسان حياة حيوانية على الرغم من التقدم الذي حققوه على الصعيد العلمي والتكنولوجي. أما القيم الأحسن، القيم الأهم في رعايتهم هي المنافع والمضار المعنوية مع الاحتفاظ بقيمة وأهمية المنافع والمضار المادية.

ثانياً: رعاية الإنسان لغيره، سواء كان الغير مشاة كحارس المدرسة ومديرها، أو حيواناً كراعي الأغنام والأبقار والإبل، أو أنساناً كالحاكم والمعلم وغيرهما. وهذا القسم من الرعاية هو المنظور إليه في الحديث الشريف الذي أشرت إليه في بداية البحث، وتنقسم هذه الرعاية بدورها إلى قسمين:

(أ) رعاية خاصة:

وهي الرعاية التي يمارسها الإنسان من موقع عمله ووظيفته الخاصة في المجتمع مثل. البحار والنجّار والطبيب والمهندس والمعلم والقاضي والأمام. الخ.

فكل واحد من هؤلاء يمارس شكلاً من الرعاية في المجتمع من خلال موقعه والوظيفة التي يمارسها في الحيـاة الاجتماعية.

فهناك إذن رعاية طبية من طبيب، ورعاية هندسية من قِبل المهندس، ورعاية تعليمية وتربوية من قِبل المعلم، أو رعاية سياسية من الحاكم. الخ.

وتختلف كل رعاية عن أخرى سعة وضيقاً، فرعاية الحاكم رعاية واسعة جداً بحيث تشمل الأمة بكل أنشطتها وفعالياتها ووجودها. أما رعاية حارس المنشأة فهي رعاية ضيقة في حدود المنشأة نفسها.

(ب) رعاية عامة:

وهي الرعاية التي يقدمها كل فرد للكيان الاجتماعي ككل، فكل فرد في المجتمع مسئول عن رعاية هذا الكيان الاجتماعي. فيجب عليه أن يتعرف على أحواله وأوضاعه، وأن يحميه ويدافع عنه، وأن يعمل ما فيه مصلحته، ولهذا شبه الرسول الأعظم (ص) المؤمنين في توادهم وتعاطفهم بقوله (ص): (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

فهناك رابطة عضـوية بين أفراد المجتمع جميعاً على اختلاف طبقاتهم ووظائفهم، ورغم اختلاف الوظائف فالعين تبصر، والإذن تسمع، واليد تعمل، والرجل تسعى. الخ.

إلا إن بين الكل تكامل، وأن الكل يعمل لهدف مشترك، وفي النهاية الكل مسؤول عن حماية الكيان وتطويره، وهذه الصورة يجب إن تتكرر وتتكرس في الحياة الاجتماعية بين الأفراد.

وعلى هذا الأساس، ومن هذا المنطلق سوف أتحدث عن الأزمة الأخيرة التي شهدتها البلاد. فلا تزال هذه الأزمة تحتاج إلى الكثير من البحث والدراسة والتحليل والتعمق وتحمل المسئولية من جانب الحكـومة والشعب على حد سواء.

وقد ذكرت فيما سبق من أحاديث، أنه ينبغي للحكومة أن تبحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الأزمة وألا تكتفي بالقشور، وأن عليها إن تسعى إلى معالجة الأسباب الحقيقية أن هي أرادت أن تعالج الأزمة الحقيقية صادقة، وفي تقديري فإن معالجة الحكومة للأزمة ليست كما ينبغي حتى اليوم.

فقد اكتفت بمعالجة جسم الأزمة ولم تعالج روح الأزمة وأسبابها الحقيقية. وفي الواقع فأن هذه المعالجة مثيرة للقلق حيث أنها خلقت حالة احتقان وتشنج وهي غير قادرة على منع تكرار الأزمة مرة أخرى، بل قد تدفعها إلى مزيـد من العنف. ولا أرغب هنا مزيداً من البحث لدور الحكومة، فقد تحدثت فيه كثيراً في الأسابيع الماضية وتحدث فيه المثير غيري. وإنما أرغب في تسليط بعض الضوء على دور الشعب.

هناك أوضاع سيئة في البلد على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحقوقي والأخلاقي. الخ.

وقد ذكرت في أحاديث سابقة بأن الحكومة والشعوب إذا لم يتحركا في سبيل إصلاح أوضاع البلاد، وأن يقبلا ببعض التضحيات في هذا السبيل. فعليهما أن ينتظرا أحد أمرين: إما التدهور والانهيار إلى ما لا نهاية، وإما الانفجار.

والأول غير ممكن ـ عادة ـ فلا يبقى إلا الثاني. والأحداث الأخيرة شاهد صدق على ما أقول، ولا شك فإن هذه النتيجة تنذر الحكومة والشعب مما يقنع الحكومة والشعب بالسير معا في طريق الإصلاح.

ومن الناحية الواقعية أيضاً. فأن الذين تحركوا في سبيل معالجة الأوضاع السيئة في البلاد هم الطبقة العاملة والأشخاص العاديون، من منطلق إحساسهم بالضيق وثقل الحياة. مع قليل من المفاهيم الدينية والوطنية وبأسلوبهم الخاص في المعالجة.

أما الطبقة الواعية والمثقفون فلم يكن لهم دور. لم نلمس للمعلمين وأساتذة الجامعة والأطباء والمهندسين والتجار وغيرهم من الطبقات الراقية دور في معالجة أوضاع البلد السيئة، لم يكن لهم دور!! لقد كان موقفهم سلبياً، وأصبحوا عالة على الطبقة الفقيرة في عملية التغيير، ولهذا حدث ما حدث. فمسؤولية ما حدث تقع أيضاً على عاتق الواعين والمثقفين لأنهم لم يمارسوا دورهم في عملية الإصلاح. وتركوا الساحة للبسطاء في الوعي والثقافة والموتورين من متاعب ومشــاق الحياة، فلا يتوقع هؤلاء غير ما حدث. بل عليهم أن يتوقعوا أسوأ ما حدث إذا هم تخلوا عن مسؤولياتهم وتركوا الساحة لغيرهم.

والعجب في الأمر هو الإدانات وعمليات الشجب من النوادي والمؤسسات رغم أنها محسوبة على الشعب، لقد قلت في حديث سابق: بأن هذه الإدانات عمل غير حكيم وغير مسئول. حيث أنها تُحدث شرخاً عميقاً في الوحدة الوطنية. فهي من جهة تعمق وتوسع الفجوة بين الحكومة والشعب، ومن جهة ثانية تألب الشعب بعضه على البعض الآخر. وكان ينبغي لهذه المؤسسات أن تجلس وتبحث في حقيقة الأوضاع وأسبابها، وأن تضع الحلول والمعالجات الواقعية وتقترحها على الحكومة غير الشعب والشعب غير الحكومة.

إننا نرى الحكومة والشعب كياناً واحداً، وأن ما يضر أو يُسيء إلى الحكومة والعكس يضر ويُسيء إلى الشعب والعكس صحيح أيضاً.

هذا إذا كانت الحكومة تنبع وتمثل الشعب وتجسد أحلامه وطموحاته، فالتنديد بالشعب هو في واقع الأمر ـ حسب النظرة العقلانية الواقعية ـ تنديد بالحكومة لا غير. فينبغي لعمليات التنديد هذه أن تتوقف حالاً قبل أن تتفاقم سيئاتها ويعظم خطرها في المجتمع.

وأن على مؤسسة رعاية الشباب والرياضة أن تطلب من إدارات ولجان النوادي أن تتجمع لدراسة الأوضاع دراسة واعية، وأن تضع لها الحلول الواقعية، وترفع مقترحاتها إلى الحكومة لا أن تطلب منها التنديد والشجب أو تقبل منها ذلك.

وإذا كان حسب النظام الأساسي لهذه المؤسسات يحرم عليها الدخول في العمل السياسي؟ فكيف يقبل منها عمليات الشجب والتنديد هذه؟ أليست هي من السياسة؟ أم أن العمل السياسي المحرم عليها هو ما يعود على الشعب بالمنفعة فحسب؟ أرجو إعادة النظر كثيراً في هذا الموقف غير الصحيح.

والأعجب من شجب النوادي للإحداث هو شجب مجلس الشورى لها. فبعيداً عن الجانب الدستوري للمجلس، فإن سمو الأمير حينما قام بتشكيل المجلس أراد له ـ حسب النظام الأساسي للمجلس ـ أن يمثل رأي الشعب. ورغب في خطابه الأخير بمناسبة العيد الوطني في تطوير المجلس بحيث يكون أكثر وأصدق تمثيلاً للشعب.

فكيف سمح هذا المجلس لنفسه أن يقوم بعملية الشجب هذه بدون دراسة كافية للحدث شأنه في ذلك شأن المؤسسات الصغيرة كالنوادي والجمعيات الخيرية وغيرها. وان يكرر نفس العبارات، ويدعي بأن الأحداث محركة من الخارج متناسياً الأسباب والأوضاع الحقيقية في البلد، والتي هي وراء الأزمة.

وأن مجلس الشورى يعقد الجلسات المطولة من أجل دراسة واجهات الشوارع، فكيف يسمح لنفسه بإصدار برقيات الشجب والإدانة مثل دراسة الحدث الذي لم تشهد الساحة المحلية له مثيلاً في تاريخها الحديث.

وكان جديراً به أن يتروى كثيراً وأن يدرس الموضوع بكل تفاصيله. وأن يضع له الحلول الواقعية، ويرفعها في صيغة مقترحات على الأقل إلى الحكومة ليحتفظ لنفسه ولو بصورة شكلية تمثيل الشعب.

وقبل أن أختم الحديث أرغب أن ألفت انتباه الجميع إلى أهمية المحافظة على الوحدة الوطنية والعمل الوطني المشترك. فهنا في البلد توجد هموم ومصالح مشتركة للمواطن بما هو مواطن بعيداً عن انتمائه الديني أو السياسي، ويجب علينا أن نعرف ذلك ونحافظ على المصالح الوطنية المشتركة.

أما الاختلافات الدينية والسياسية فنحن نقرها ولكن يجب أن يحسم الموقف فيها على ضوء نتائج البحث الموضوعي، وينبغي تحذير الأشخاص الذين يدعون إلى الشقاق بأطروحاتهم ومواقفهم العملية من عواقب عملهم ومسئولياتهم الدينية والتاريخية وأنهم سوف يحاسبون عليها في الدنيا والآخرة.

ويكفي الإنسان المخلص وازع من ضمير حي لا سيما في الظروف الراهنة على الصعيد المحلي والعالمي والعربي والإسلامي. حيث الأخطار المحدقة بالأمة العربية والإسلامية، وحيث الوهن والضعف من مواقفهما بسبب الانهيارات في الجبهات الداخلية للمجتمعات العربية والإسلامية. بفعل الاختلافات والنزعات ودعوات الشقاق وجعل الأمتين العربية والإسلامية لقمة سائغة في فم الأعداء.

كما ينبغي التحذير والتنبيه للأشخاص الضعفاء الذين عجزوا عن القيام بمسؤولياتهم الدينية والوطنية، أو أنهم لا يملكون الشجاعـة والقوة للنهوض بها، عليهم أن يكتفوا بذلك، وأن لا يضيفوا سيئة أخرى أخطر إلى سيئاتهم عن طريق التبرير المضر بالموقف الديني والوطني بدلاً من الاعتراف بعجزهم.

فإذا هم شاءوا أن لا يعترفوا بعجزهم، وليست لديهم الرغبة في معالجة أمراضهم فعليهم أن يكتفوا بذلك. وأن لا يقدموا التبريرات الخطيرة التي تضر بالموقف الديني والوطني على الساحة الإسلامية والوطنية كما نجده في أطروحات الكثير من الخائنين وأصحاب المصالح. هذه أقل مسؤولية يجب عليهم أن يتحملوها تجاه الدين والأمة والوطن.

أكتفي بهذا القدر. وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى