خطبة الجمعة | 12-8-1994
الموضوع: العلاقة الجدية بين الإيمان والجهاد
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))
نواصل الحديث في الآيتين الشريفتين، وفي هذا اليوم المعظم، موضوع حديثنا الشطر الأخير من الآية الثانية قوله تعالى: ((ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))
((ذَلِكُمْ)) أي ما ذكر لكم، وهي التجارة التي دللتكم عليها، وهي الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله بالنفس والأموال، وما فيها من الربح، وهو النجاة من النار والفوز بالجنة، وقال تعالى: ((فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز)) هذه هي التجارة.
((ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ)) ما معنى الخير؟ الخير هو المقصود لنفسه وذاته، أو الحسن في ذاته، والأصل في معنى الخير الانتقاء أو الاختيار، بمعنى أن هذا الشيء الذي هو خير، إذا قسته مع غيره من أجل أن أختار أحدهما فإني أختار هذا الشيء الذي هو خير، لما فيه من المصلحة والمنفعة والسعادة والكمال فهو مطلوب لنفسه، وأنا أطلبه وأختاره، حينما أقيسه بغيره.
هنا في موضوع الآية، ((ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ)) هذه التجارة وهذا الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله بالأنفس والأموال يقاس بماذا؟ وهو خير من ماذا؟
القول الأول: خير لكم الأنفس والأموال والأولاد والملذات وكل المنافع الدنيوية، قال تعالى: ((قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ))
القول الثاني: خير لكم من أن يرفع عنكم هذا التكليف وهذه المسألة في غاية الوضوح، لأسباب:
أولاً: لأن هذا التكليف يوجب لنا الثواب العظيم عند الله (عز) والجنة.
ثانياً: أن هذا التكليف يثري ويغني إنسانية الإنسان.
الإنسان فقير في إنسانيته ((وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا))، فهو يحمل مشروع إنسان، وهذا المشروع يتم بناؤه ويتم تكوينه، يتم اغناؤه وإثراؤه بواسطة التكليف، فهذه التكاليف تعني إنسانية الإنسان، وتقوم ببناء الإنسان وتكميله.
وإذا بهذا الإنسان الفقير، الذي أصله نطفة الذي لم يكن في يوم من الأيام له وجود، إذا هو من خلال هذا التكليف في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
هكذا يصل به هذا التكليف لهذه الدرجة من التكميل والبناء.
ثالثاً: لأن هذا التكليف فيه العزة والنصر للمؤمنين يعيش الإنسان عزيز، وبه ينتصر ويبني مجتمعاً قوياً صلباً، فضلاً عن كونه مجتمعاً إنسانياً، أما بغير هذا التكليف نعيش أذلاء خاسئين تتخطفنا الأمم من كل حدب وصوب – وهذا الأمر حادث – فبهذا التكليف يكون الثواب، وبه نثري إنسانيتنا وبه نعيش أقوياء أعزاء منتصرين، ولذلك فهذا التكليف (خير) ((ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))
وقيل فيها معنيان:
المعنى الأول: بمعنى إن كنتم من أهل العلم. فعملكم يدلكم على أن هذه التجارة خيراً لكم. بعملكم تدركون هذه الخيرية في هذا التكليف.
المعنى الثاني: هو إن كنتم تعلمون هذه التجارة خير فإنكم تختارونه، وتفضلونه على غيره، لأن العلم بحقيقة هذه التجارة يدفع بصاحبه ويحمله على اختياره وتفضيله على غيره.
هذه الآية وفي دلالة على تفضيل العلم والعلماء.
((هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) نحن مشكلتنا في هذا العالم هي مشكلة الجهل وعدم العلم، والمؤمنين يجب أن يكونوا من أهل العلم، ويجب أن يكون لهم اهتمام بالعلم والمعرفة، ولأن الله (عز) فضل العلماء على غيرهم ((هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) الجواب العقلاني ومن خلال واقع الحياة لا يستوون.
حتى أن علماء المنطق يعرفون الإنسان بأنه حيوان ناطق، أي مفكر بمعنى أن العالم أكثر إنسانية وأكمل إنسانيته من الجاهل. فكلما ازداد الإنسان علماً ومعرفة ازدادت قيمته في إنسانيته، فالمؤمن يجب عليه أن يهتم بالعلم والمعرفة، وأن هذا العلم يؤثر تأثيراً إيجابياً في الحياة الإيمانية والوعي الإيماني، وبالتالي في الواقع البشري كله.
المسألة الأولى: هي العلاقة الجدية بين الإيمان الجهاد وفيها:
أولاً: أن الإيمان في حاجة إلى الجهاد، الإنسان يستطيع أن يتحصل على الإيمان بالعقل والفطرة إذ كان إنساناً عاقلاً فعله يوصله إلى الإيمان ولا يحتاج في ذلك حتى إلى الأنبياء لكي يصل إلى الإيمان.
الفطرة السليمة أيضاً تقود الإنسان إلى الإيمان، ولكن المشكلة ليست في الإنسان كفرد، وإنما هي في الحياة الاجتماعية، وارتباط الإنسان في هذه الحياة بالماديات.
فالحياة الاجتماعية، وارتباط الإنسان بالماديات يفسد فطرة الإنسان. وأصحاب المصالح والطواغيت يحاولون أن يحاربوا الإيمان ويقضوا عليه، مما يؤدي إلى حاجة الإيمان للجهاد كي ينتشر ويبقى. فلكي ينتشر الإيمان بين الناس، ويبقى في وجوده وكيانه الاجتماعي، يحتاج إلى الجهاد، ويحتاج إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتذكير.
لذلك الجهاد يحتاج إلى الأيمان للأسباب التالية:
أولاً: لخلق البواعث والدوافع، لأن الإيمان يعطي الإنسان المؤمن الدافع من أجل الجهاد ((فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ))
الإنسان المؤمن يقبل على الجهاد ويروض نفسه على التضحية وطلب الشهادة، ويتحمل مشاق ومصاعب الحياة الجهادية ويتحمل طريق ذات الشوكة، قال تعالى: ((وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ))
ثانياً: لتحديد خط وغاية الجهاد (تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) ولقد بينت ما هي الغايات من الجهاد في الأسبوع الماضي قال تعالى. ((الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ))
الفرق كبير بين القتال في سبيل الله والقتال في سبيل الطاغوت.
المسألة الثانية: تتعلق بقيمة الجهاد وقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك بخلط إشكالين:
الإشكال الأول: أن أهل الباطل كثرة، وأنهم أصحاب قوة، وأصحاب شوكة، وأنهم أصحاب عناد لا يسمعون إلى كلمة الحق، في مقابل ذلك أصحاب الإيمان وهم قلة ومستضعفين ولا يسمح لهم، يجعل عملية الإصلاح عملية ميؤوس منها.
حل الإشكال الأول:
القرآن الكريم آثار هذه المسألة بصورة مباشرة، قوله تعالى: ((لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ))
الآية الكريمة طرحت هذين السببين:
أولاً: ((مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ)) الله (عز) أوجب علينا وفرض علينا بأن نأمر بالمعروف النهي عن المنكر ونجاهد في سبيل الله، ونحن نلتزم بذلك لكي تكون لنا المعذرة من الله يوم القيامة.
ثانياً: ( (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) حينما نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونذكر ونجاهد، ينتج عن ذلك صلاح الضالين ((يا علي لأن يهدين الله بك رجل خير مما طلعت عليه الشمس)) حتى إصلاح الشخص الواحد، له قيمة كبيرة عند الله والمؤمنين.
إصلاح أسرة، إصلاح قرية، إصلاح مدينة إصلاح مجتمع بأكمله. نحن نعمل والنتيجة بيد الله (عز) حتى ولو كان إصلاح رجل واحد.
النبي نوح عليه السلام قام بهذا الواجب 950 سنة يدعوا إلى الله ليلاً ونهاراً سراً وجهراً. بكل وسيلة ممكنة ونحن نحمل هذا الواجب، لعل الله يصلح بنا شخصاً واحداً أو عائلة أو قرية أو مدينة أو أمة بأكملها هذا بيد الله (عز).
الإشكال الثاني: أن إقامة الدولة الإسلامية غير ممكنة في كثير من البلدان والمناطق، وبناءاً على هذين الإشكالين، فما هي قيمة الجهاد وما هي قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
حل الإشكال الثاني:
أولاً: إن إقامة الدولة الإسلامية واجب شرعاً، ويجب ذلك على المؤمنين من أجل إقامة الدولة الإسلامية العمل على توفر الشروط.
وإن إقامة الدولة الإسلامية لا تفرض على الناس فرضاً وأما الناس هم الذين يختارون الدولة الإسلامية وحينما يكونون الأكثرية يجب على الأقلية أن تقبل برأي الأكثر.
-ثانياً: أن إقامة الدولة الإسلامية ليس كل شيء، الرسول الأعظم (ص) لم يعمل في سبيل الدولة الإسلامية في مكة. وإنما كان يحاول أن يصلح الأفراد.
نبي الله عيسى (ع) لا نفهم من سيرته أنه تحرك من أجل أن يقيم دولة إسلامية.
الأئمة الاثنا عشر(ع) ماعدا الإمام علي (ع) حتى الآن لم يقيموا الدولة الإسلامية فهل أن عملهم ليس له قيمة.
هل عمل النبي محمد (ص) في مكة ليس له قيمة؟ وأن عمل النبي عيسى (ع) ليس له قيمة؟ وإن عمل الأئمة الاثنا عشر (عهم) ما عدا الإمام علي (ع) ليس له قيمة؟ بل إن الإمام الحسين (ع) تحرك وهو يعلم بأنه سوف يكون شهيداً ((كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء)) وتحرك (ع) ليس لكي يقيم الدولة الإسلامية. وإنما من أجل أن يصلح (لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي) بل إن الأئمة (ع) لم نجدهم استثمروا ثورة الإمام الحسين (ع) من أجل إقامة الدولة الإسلامية وإنما استثمروها من أجل الإصلاح أيضاً.
هذا لا يعني أن إقامة الدولة غير واجب ولكنها لا تمثل كل شيء، فقد يحمل الإنسان نفسه على الشهادة، ليس من أجل أن يقيم الدولة الإسلامية. بل من أجل أن يصلح.
الإمام الصادق (ع) في حياته عاش فترة انهيار الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، الكثير من القادة السياسيين والعسكريين جاؤوا إلى الإمام الصادق (ع) من أجل أن يتحرك كي يستلم الدولة، ولكنه لم يستجب (ع) وآثر العلم والتعليم على الدولة.
فحالة العناد والاستكبار عند أهل الباطل وعدم توفر الإمكانية لإقامة الدولة الإسلامية، لا يمنعنا أبداً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.
وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.