خطبة الجمعة | 1-7-1994
الموضوع: الله عز وجل المالك والمشتري
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))
بعد أن تلا فضيلة الأستاذ – حفظه الله – هذه الآيات أشار إلى أنها تحوي على معان مهمة وأنه سيشير إلى هذه المعاني وذلك على فترات، وفي هذا اليوم طرح فضيلته الآية الأولى
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ))
قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا))
الله جل جلاله يخاطب عباده المؤمنين، ويناديهم بصفة الإيمان هذا الخطاب في حد ذاته يشرح قلب الإنسان المؤمن، بما أن الخطاب من الله، وبما أنه بصفة الإيمان، فهو يشرح صدر الإنسان المؤمن ويخلق فيه البهجة والسرور.
لو افترضنا بأن إنساناً عظيماً أنت تعتقد بعظمته، هذا الإنسان الذي تعتقد بعظمته يناديك في محفل الناس باسم أو لقب أنت تحبه، لا شك أن هذا الخطاب من هذا الإنسان يترك أثر ايجابي في نفسك، لأنه أعطاك مكانة بهذا الخطاب، فكيف إذا كان الخطاب من الله جل جلاله، الله بعظمته بجلاله يخاطب الإنسان المؤمن ويناديه بصفة الإيمان ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا)) وكل إنسان يحب صفة الإيمان ويحب هذا الاسم (المؤمن)، فالإنسان المؤمن الذي يعتقد بأن صفة الإيمان متوفرة فيه، حينما يسمع هذا الخطاب، أو هذا النداء من الله عز وجل بعظمته وجلاله يناديه ويخاطبه بهذه الصفة أو بهذا الاسم. طبعا هذا الخطاب للمؤمنين عموماً، سواء كان الأشخاص الذين كانوا في زمن الخطاب أو لمن بعدهم إلى يوم القيامة وكل خطابات الله عز وجل من خطابات واقعية …
وهو دليل على أن الإنسان المؤمن بما هو مؤمن له مكانة عالية، ومكانة حقيقية، وأن صفة الإيمان صفة عظيمة.
((هل أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ))
استفهام وله وظيفة وغرض، وهو أنه يوجد حالة لتهيأ لتلقى الجواب والأمر من الله عز وجل. فهو من جهة خاطبه وناداه بصفة الإيمان، ثم جاء هذا الاستفهام ليخلق حالة من التهيأ لان يسمع الجواب، وحالة الاستعداد للعمل بالأمر الإلهي العظيم.
هذا الاستفهام يقوم على أساس، وهو أن الإنسان المؤمن الذي عرف الحياة الدنيا، على أنها إلى زوال، وعرف بأن ملجأه على الله، وأنه سوف يعود إلى الله عز وجل، وأنه موقوف بين يدي الله، وأنه لا ملجأ ولا منجي من الله إلا إليه، هذا الإنسان المؤمن – الذي عرف هذه الحقيقة – يبحث عن العمل الذي يرضاه الله ويحبه ليقف يوم القيامة أبيض الوجه فرحاً مسروراً بين يدي الله عز وجل، بدل أن يقف موقف الإنسان المخزي الذليل.
روي عن الإمام أبي جعفر(ع): لما نزلت ((هل أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) قالوا: لو نعلم ما هي لبذلنا فيها الأموال والأنفس والأولاد.
فالإنسان الذي عرف بأنه ذاهب إلى زوال، وأنه موقوف بين يدي الله عز وجل وأنه محاسب، يبحث عن الأعمال التي يحبها ويرضاها الله ليعملها. فهذا الاستفهام قائم على هذه الحقيقة، التي توجد في عقل وفي ضمير كل إنسان مؤمن. الله جل جلاله بلطفه وعنايته، تكفل بأن يوضع للإنسان طريقة في الحياة وأن يوضح له النهج الذي فيه سعادته في الدنيا والآخرة.
((هل أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) التجارة هي تداول البيع والشراء من أجل المكسب والتجارة، هنا لا بد لها من رأس المال وهو نفس الإنسان.
ونستطيع بأن نقول بأن الطاقات والإمكانيات والاستعدادات التي أودعها الله عز وجل في نفس الإنسان المؤمن بدليل قوله تعالى ((وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَة لَعَلَّكُمْ َ تَشْكُرُونَ))
فالنفس البشرية بما فيها من استعدادات، من طاقات، من مواهب، هي رأس المال يتاجر فيه مع الله (عز).
وما هو الربح؟ ((تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) الذي لا يقدر قدره فالتجارة جليلة الشأن عظيمة القدر، ولعظمة التجارة لها دلالة كبيرة جداً. فمن جهة أنه فيه تلطف من الله (عز) بعبده المؤمن، كقوله تعالى ((إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))
فكيف يشتري الله وهو مالك للإنسان؟ الله يملك ذات الإنسان ويملك صفات الإنسان، ويملك أفعال الإنسان، أنت وما تملك لله عز وجل فكيف يشتري الله؟ وهل يشتري الله ما يملك؟ فهذه العبارة تدل على التلطف من الله عز وجل بعبد المؤمن وتدل أيضاً على حقيقة الدنيا، وفيها تشبيه للحياة الدنيا بالمتجر وفي الحديث أيضاً تشبيه بالمزرعة “الدنيا مزرعة الآخرة” مما يدل على أن الربح – التجارة من العذاب الأليم – لا يكون إلا بالعمل، ولا يكون إلا بالسعي.
عليك أن تعمل وعليك أن تسعى، وعليك أن تتاجر وعليك أن تزرع، فالتجارة من العذاب الأليم والفوز بالجنة لا يكون إلا من خلال العمل، السعي، الجد والاجتهاد.
البعض وللأسف يفهم بأن التجارة في الحياة، هي كسب الشهرة، وجمع الأموال، وتكريس الثروات، وهذا دليل على الجهل والغرور، والإنسان الذي يكرس حياته من أجل كسب الشهرة، وكسب الأموال وتجميع الثروات، هذا الإنسان يجهل حقيقة نفسه كإنسان، ويجهل حقيقة الحياة، ويجهل المصير. هذا المعنى الذي أشار إليه الباري (ج) بقوله تعالى ((كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ))
فالفوز الحقيقي في هذه الحياة والمتاجرة الرابحة في هذه الحياة، هو النجاة من النار والفوز بالجنة.
((إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)) يعني أن الإنسان بما هو إنسان خاسر، وهنا الخسارة خسارة عظيمة لا تقدر قدرها ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)).
((تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) لماذا لم يذكر الفوز بالجنة وذكر النجاة من العذاب؟ “الجواب” إشارة إلى أن الإنسان إذا لم يكن ناقصاً، والنقص هنا نقص معنوي، نقص روحاني، هذا النقص يجعله بعيداً عن الله (عز).
فإنما يكون قريب من الله بعمله. والإنسان يكتسب صفات الكمال ليكون قريباً من الله (عز).
والعذاب الأليم هو أثر طبيعي للنقص – وليس أثراً منطقياً – فالإنسان الذي لا يعمل الصالحات والذي لا يؤمن بالله، يكون ناقصاً ويكون بعيداً عن الله (عز)، وهذه حقيقة العذاب، فضلاً عن تأثير الذنوب على الإنسان فلكي ينجو الإنسان من النار، يحتاج إلى العمل، يحتاج إلى السعي ليرفع عن ذاته النقص، ويقترب من الله (عز).
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فكتبنا مع الشاهدين. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، أنك أنت الوهاب، ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، أن عذابها كان غراما، إنها ساءت مستقرا ومقاما. أستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.