خطبة الجمعة | 19-5-1994
الموضوع: أسرار الحج ومعطياته
تناول الأستاذ – حفظه الله – محاضرته حول الحج وأسراره قائلاً:
يبدأ الحج بخلع المخيط، وهذا يدل على خلع الإنسان لهذه الدينا ورحيله عنها، وأنه يفد على الله من الدنيا بكفنه وعمله، وبهذا فإنه يبدأ رحلته إلى الله، وهذا بعض ما يستشعره الحاج حينما يلبس ثوبي الإحرام، ولا ينعقد الإحرام إلا بالتلبية «لبيك اللهم لبيك» ودلالة التلبية أن الإنسان يجب أن يلزم الطاعة المطلقة إلى الله تعالى ليحظى بالقبول عند الله يوم يلقاه. وفي طريق الحاج من الميقات وإلى أن يدخل البيت الحرام يمر بعرصات وفلوات وتلال وهضاب، وكل هذه تدركه بما سيعترضه في عالم البرزخ من حيث نزوله في القبر وإلى أن يبعثه الله منه … حتى إذا دخل بيت الله الحرام استشعر وقوفه بين يدي الله عز وجل، واقفا بين الخوف والرجاء فأما القبول والرضا أو الرفض والغضب، وهكذا الحاج يقف في طوافه بين الخوف والرجاء، بين الخوف من الرد ورجاء القبول عند الله عز وجل بهذا المقدار ندرك ما يستشعر الحاج في الحج، من رحيله إلى الله وعوده إليه عز وجل.
وهذه الرحلة تعكس سلطان الله وقهره لعباده، فلا أحد يستطيع أن يلغي وجوده، ولا أحد يستطيع أن يمنع الموت عن نفسه، أو يمنع البعث والنشور والحساب عن نفسه، أو يمنع دخول الجنة والنار عن نفسه، وهذا ما يستشعره الإنسان من أعمال العمرة، أما مناسك الحج فهي تلخص رحلة الإنسان إلى الله بقدر المعرفة.
النزول بعرفة: لها دلالة خاصة في رحلة الإنسان إلى الله ووفادته عليه، ففي عرفة يعترف بذنوبه، ويتوب إلى الله من ذنوبه ((والله تواب رحيم)) وقد ذكر الفقهاء بأنه يحرم على الحاج ان يخرج من عرفة وهو لا يزال معتقدا بأن عليه ذنبا لم يغفر، فعلى الحاج أن يجتهد في الاعتراف بذنوبه واستغفاره وتوبته إلى الله حتى تحصل له الحالة التي يعتقد فيها أن ذنوبه قد غفرت جميعا.
وبعد ذلك يكون الحاج مؤهلا للوفادة على الله، وللدنو والقرب من الله، فينزل إلى مزدلفة (( من الازدلاف والقرب )) فبعد أن اعترف بذنوبه ازدلف (اقترب ) واستشعر القرب من الله عز وجل واستشعر القرب من حرم الله، وهناك يجتهد في الدعاء والحمد والثناء على الله لما أولاه من نعمة القرب والدنو من الله عز وجل، حتى إذا نزل إلى منى يلتفت إلى الموانع والعقبات التي تمنعه من السفر إلى الله عز وجل ووفادته على الله وتعرقل طريقه إليه عز وجل وأول هذه العقبات، الشياطين الخارجية، فيرجم الشيطان الخارجي، يتبرأ منه، يرفضه ..
فالإنسان الحاج مصر أن يرحل إلى الله، وهناك من يحاول أن يقطع عليه الطريق، فعليه أن يرجمه، ويتبرأ منه أيا كان، كبير أو صغيرا، وكما أنه، يرجم الشياطين ويتبرأ منهم، فعليه أن يتولى الله ورسوله، وولي الله الأعظم، ويتولى المؤمنين. بعد ذلك يلتفت على العدو الداخلي في نفسه الأمارة بالسوء فيحاول أن يقتلها، وهذا ما يدل عليه النحر.
فعد أن تغلب على الأعداء الخارجيين، وتغلب على الشياطين الذين هم في داخل نفسه، يصبح مؤهلا لأن يدخل إلى حرم الله وساحة قدسه، ولكنه يتذكر جسده الذي طالما عصى الله فيه، هنا يتمنى لو أنه دخل إلى حرم الله وساحة قدسه بجسد لم يعصي الله فيه، فتأتي دلالة الحلاقة (الحلق) فيدخل بجسد طاهر ونفس طاهر عن الذنوب والمعاصي. فإذا دخل على بيت الله، طاف حوله وحول ولي الله، وحول كتاب الله، حتى يكاد يأذن له بالدخول في رحاب الله عز وجل. من هنا نستشعر دلالة الحج.
أما على رحيل الإنسان إلى الله (عودته إلى الله) أو رحلته إلى الله بقدم المعرفة (الرحلة المعنوية) لهذا تأتي هذه الأحاديث: «ضمان الحاج والمعتمر على الله إن أبقاه بلغه أهله، وإن أماته أدخله الجنة» وعن الإمام الصادق (ع) «الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة، النازل لها في ضمان الله، وإن أبقاه أراه إلى عياله، وإن أماته أدخله الجنة»، في حديث آخر: «الحج والعمرة، سوقان من سوق الآخرة، والعامل بهما في جوار الله إن أدرك ما يأمل غفر الله له، وإن قصر به أجله وقع أجره على الله عز وجل»، وفي حديث رابع: «الحاج والمعتمر في، في ضمان الله، فإن مات متوجها غفر الله له ذنوبه وإن مات محرما بعثه الله ملبيا وإن مات لاحد الحرمين بعثه الله من الآمنين، وإن مات منصرفا غفر الله جميع ذنوبه»، وحديث آخر عن الإمام الصادق (ع): «الحجاج يصدرون على ثلاثة أصناف، صنف يعتق من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وصنف يحفظ في أهله وماله، فذلك أدنى وارجع له الحاج».
ثم قال فضيلة الأستاذ – هذه الأحاديث تذكرنا بالأخوين العزيزين – في نفق المعيصم – أحمد وزهراء، فقد حصلت لهما الشهادة وهما يؤديان مناسك الحج، فقد وقع أجرهما على الله، ونسأل الله أن يدخلهما الجنة كما وعد بذلك. الله تولاهما وقادهما إلى هذه النهاية السعيدة التي يتمناها كل مؤمن، فنحن حينما نتأمل الحادثة نحزن إلى فراقهما، وفي نفس الوقت نغبطهما على هذه النهاية السعيدة (التي يتمناها كل إنسان مؤمن) وفي نفس الوقت ندرك بعض المآسي التي يعيشها المؤمنون في العالم حينما نتأمل الحادثة التي رحلوا بسببها إلى الله عز وجل، أكتفي بهذا المقدار والحمد لله رب العالمين.