خطبة الجمعة | 15-4-1994

الموضوع: المشاركة الإيجابية في المسيرة الإسلامية

حدیث هذا الیوم استمرار للأحادیث السابقة وهو تحت عنوان المشاركة الإیجابیة في المسیرة الإسلامية المباركة علی صعید البناء والصراع الفكري.

المشاركة‌ الفكریة للمفكر أو‌ الباحث الإسلامي مرة تكون مستندة إلی الوعي والبصیرة لحاجات المسیرة الإسلامیة المباركة علی صعید البناء والصراع الفكري، ومرة لا تكون كذلك، فقط تكون المشاركة الفكریة ذات قیمة علمیة في ذاتها ولكنها لا تكون ذات قیمة‌ عملیة لأنها لا تستند إلی الوعي والبصیرة بحاجات المسیرة الإسلامیة المباركة علی صعید البناء والصراع، أو أنها لا تشبع حاجات المسیرة الإسلامیة المباركة علی صعید البناء أو الصراع الفطری.

مثال من الحس: مثلاً حینما تنظرون إلی هذا المسجد، فهو مكون من أجزاء: لبنات، أجهزة، أدوات مختلفة، مواد مختلفة؛ هذه المواد، كل مادة أو كل جهاز، ذات قیمة في ذاتها، المكیف له قیمة في ذاته، اللبنة لها قیمة في ذاتها، المروحة لها قیمة في ذاتها، النافذة كذلك، لكن لو وضعنا هذه الأجزاء أو هذه الأجهزة أو هذه المواد متفرقة، فهي غیر قیّمة، وإنما أصبحت هذه الأجزاء والمواد والأجهزة ذات قیمة علمیة حینما جُمعت ورُتبت بشكل ما بحیث أعطتنا هذا البناء المسمی (مسجداً).

فالمشاركة الفكریة قد تكون ذات قیمة علمیة في ذاتها، ولكن لأنها لا تشبع حاجة من حاجات المسیرة الإسلامیة المباركة علی صعید البناء أو الصراع الفكری فإنها تفقد قیمتها.

توجد كتابات أو مشاركات فكریة ذات مردودات سلبیة لأنها أبداً لا تستند إلی الوعي والبصیرة بشكل عام.

من هنا تأتي الحاجة إلی البحث في هذه الحاجات، حاجات المسیرة الإسلامیة المباركة علی صعید البناء والصراع الفكري.

على صعيد البناء

سوف أذكر نما‌ذجاً من هذه الحاجات، وبصورة إجمالیة ولیست تفصیلیة:

  1. مثلاُ حاجة الترتیب، وتنقسم إلی قسمین:

أولاً: ترتیب العلوم لممارسة وظیفة معینة، مثلاً: الفقیه وظیفته استنباط الحكم الشرعي من القرآن والسنة، القرآن مفروغ من جمعه علی عهد رسول الله (ص)، أما السنة فهي متفرقة، فقد ترك أصحاب الائمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ما عرف من أصول الستة آلاف والستمائة، الفقیه عندما یرید أن یستنبط الحكم الشرعي، فمن الصعب أن یجمع كل هذه الأصول الستة آلاف والستمائة (6600 أصل)، لهذا وجدت الحاجة إلی جمع هذه الأصول في كتاب واحد وتنظیمها وتبویبها، ومن هنا انبری المحدث الثقة الكلیني، ووضع كتاب: الكافي في عصر الغیبة الصغری، إلا أن جمع الأحادیث في كتاب واحد غیر الكافي لكي یمارس الفقیه وظیفته في عملیة الاستنباط؛ لأن الأحادیث منها الصحیح ومنها الموضوع.

لهذا وجدت الحاجة إلی وضع علم الرجال، وبالفعل نجد بأن علماء مدرسة أهل البیت وعلی زمن الائمة وفي قم المقدسة، قاموا بوضع علم الرجال، فوضع علم الرجال في تلك الفترة أیضاً متقدم، فكانوا علی وعي لحاجة البناء الفكري في مدرسة أهل البیت (ع).

وحتی مع وضع علم الرجال أیضاً، لم یكن هذا المقدار كافٍ، فهناك الحاجة مثلاً إلی علم الأصول، فقام العلماء بوضع علم الأصول، وهكذا حتی أصبحت الیوم الرسالة العملیة للفقهاء في متناول كل فرد مسلم. قبل وضع كتاب الكافي وعلم الرجال وعلم الأصول لم یكن بالإمكان أن تكتب رسالة، فالوصول إلی هذه الوظیفة كان بحاجة إلی إیجاد بعض العلوم، وبالفعل أخذ علماء مدرسة أهل البیت هذه العلوم حسب أهمیتها، فبدأوا بجمع الحدیث ثم وضع علم الرجال ثم وضع علم الأصول، وحتی أصبح من الیسیر علی الفقیه ممارسة عملیة الاستنباط وتوصیل الأحكام إلی الناس.

ثانیاً: الترتیب علی مستوی التبلیغ بالإسلام الصحیح ككل، مثال ذلك: الأمة بعد الرسول الأعظم (ص) اختلفت وتفرقت إلی ثلاث وسبعین فرقة، في حین إن الصراط المستقیم لا یكون إلا واحداً، وهو الذي علیه أهل البیت وشیعتهم، بدلیل حدیث الثقلین وغیره.

عملیة الانحراف عن أهل البیت حدثت في تاریخ مبكر بعد وفاة‌ الرسول الأعظم (ص).

فلكي یمارس الائمة (ع) التبلیغ بالإسلام الصحیح یلزم ترتیب أولویات التبلیغ، ولهذا فإن الائمة (ع) قاموا بترتیب الأولویات.

المرحلة الأولی: ركز أهل البیت (ع) علی كشف عوامل التحریف ومحاصرتها، وقد لعبت ثورة الإمام الحسین (ع) دوراً حاسماً في ذلك، وبما إن هذه الحاجة ما زالت قائمة حتی الوقت الحاضر؛ نجد كتابات العلامة السید عبدالحسین شرف الدین، وأخیراً السید مرتضی العسكري ذات أهمیة كبیرة جداً في هذا المجال (مجال كشف عوامل التحریف ومحاصرتها).

المرحلة الثانیة: التي عمل علیها أهل البیت (ع)، التبلیغ بأساسیات وأصول الإسلام الصحیح ومن التفاصیل بقدر حاجة الأمة وانتهت هذه المرحلة بانتهاء الغیبة الصغری.

المرحلة الثالثة:‌ هي العلم بتفاصیل الإسلام الصحیح عن طریق الاستنباط والتبلیغ به علی ید الفقهاء، ومن أساسیات التمهید بعصر الظهور هو الوعي بهذه التفاصیل، فأهل البيت (ع) قاموا بترتيب الأولويات في التبليغ للإسلام الصحيح.

  • أيضاً من حاجات البناء، حاجة تطوير العلم؛ هناك علوم أساسية في الفكر الإسلامي، مثل: علم الحديث، علم الرجال، علم الأصول، علم العقائد و… الخ، فنجد بان العلماء يبذلون جهوداً في تطوير هذا العلم، فمثلاً كما ذكرت جمع الحديث، الشيخ الكليني رحمة الله عليه قام بوضع «الكافي»، بعد ذلك جاءت باقي الأصول الأربعة «من لا يحضره الفقيه» و«التهذيب» و«الاستبصار»، بعد ذلك جاء الحر العاملي ووضع «وسائل الشيعة»، حيث جمع كل الأصول الأربعة في كتاب واحد، بهذا الكتاب يسر على الفقيه مسألة الحصول على الحديث ومن ثم عملية الاستنباط، فأصحاب الكتب الأربعة كانوا على بصيرة بحاجة البناء الفكري في مدرسة أهل البيت (ع)، كذلك كان الحر العاملي.

علم الرجال كما ذكرتُ بدأ في فترة مبكرة جداً وعلى عهد الائمة، وعلى يد أصحاب الائمة (ع) في قم المقدسة، بعد ذلك جاءت كتب الرجال حتى بلغ علم الرجال ذروته على يد السيد أبو القاسم الخوئي كتاب «معجم الرجال»، كان على وعي بحاجة البناء الفكري في مدرسة أهل البيت (ع).

علم التفسير مثلاً بدأ في مرحلة مبكرة وعلى يد أصحاب الرسول (ص)، مثل ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، وتطور هذا العلم حتى بلغ إلى درجة كبيرة على يد صاحب الميزان، ولكنه لا نستطيع أن نقول أنه بلغ الذروة وأنه حقق ما حققه أبو القاسم الخوئي مثلاً في كتابه «معجم الرجال».

هناك الحاجة ما زالت قائمة في تطوير علم التفسير وتطوير عملية التفسير، مثلاً كتابات السيد مرتضى العسكري حفظه الله في الكشف عن عوامل التحريف للفكر الإسلامي ومحاصرتها؛ تدل على وعيه بحاجة البناء الفكري في مدرسة أهل البيت (ع) وعلى صعيد الإسلام ككل.

كتابات السيد الصدر في علم الأصول «الحلقات الأربع في علم الأصول» تعطيك حاجة إلى تطوير علم الأصول وتيسير عملية الاستنباط.

فالكاتب أو الباحث هنا نجده يمتلك بصيرة ووعي بحاجات البناء الفكري في المسيرة الإسلامية المباركة، لهذا أصبحت هذه الكتابات ذات قيمة علمية وذات قيمة عملية، ومن ثم أصبحت هذه المشاركة إيجابية.

على مستوى الصراع الفكري

الكتابات أو المشاركة الفكرية على مستوى الصراع الفكري قد تشبع حاجات المرحلة في الصراع، مثل كتابات حسن البنا وسيد قطب وعبدالقادرعودة، فيما يتعلق بمحاولة إثبات أصالة الإسلام، وكذلك كتابات السيد الصدر، كذلك كان المفكرون الإسلاميون الذين وقفوا في وجه التميّع الفكري، مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني.

كتابات السيد الصدر مثل «فلسفتنا» و«اقتصادنا» كانت تشبع الحاجة في الصراع الفكري، في إثبات أساسية الإسلام.

الآن تكمن الحاجة إلی الكتابة في تفاصیل الفكر الإسلامي، نحن الآن لا نشعر بحاجة كبیرة إلی إثبات أساسیات الإسلام، انتهینا من هذه المرحلة.

نحن الآن في حاجة ماسة إلی الكتابة في تفاصیل المنهج الإسلامي، مثل: الكتابة في التوحید، إلا إذا دعت الحاجة إلی ذلك، فمثلاً كتابات السید الصدر عن «البعد الحضاري للتوحید» أو «البعد الحضاري للعدل» و… الخ، فإنها ذات أهمیة؛ لأنها داخلة ضمن تفاصیل المنهج الإسلامي، فالكاتب أو المفكر الإسلامي الذي یملك الوعي بحاجة الصراع الفكري، یكتب الآن في تفاصیل المنهج الإسلامي، مثل: معالجة المشكلات السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة والثقافية التي یعاني منها العصر والمجتمعات الإسلامية.

فهنا تكون الكتابات – في هذه الحالة – تشبع حاجة المرحلة في مسیرة الصراع، مرة تكون الكتابات تشبع حاجة مجتمع معین، مثل من واقع البحرین، علی مستوی البناء الفكري حینما نتأمل الوضع الثقافي في البحرین، نجد أن هناك جماهیر الشعب یمتلكون وعیاً إیمانياً حينما یقاس بمستوی المنطقة، لكن لا یوجد في البحرین فكر نوعي متقدم، بمعنی آخر لا نجد شخصیات تمتلك القدرة علی المشاركة والبناء والصراع الفكری علی مستوی العالم، لا یوجد عندنا شخصیات كالشیخ المطهري والسید فضل الله وغیرهما الذین تكون كتاباتهم تشبع حاجات البناء والصراع الفكري علی مستوی العالم كله، صحیح أن الجماهیر تمتلك وعیاً إیمانياً متقدماً علی مستوی المنطقة، لكن علی مستوی الفكر النوعي لا توجد شخصیات متقدمة علی مستوی البناء والصراع الفكري، لهذا الذي یرید أن یشارك مشاركة إیجابیة في المسیرة الفكریّة في البلد، لا ینبغي أن یشارك مشاركة كمیّة، إننا نحتاج لمشاركة نوعیة حتی یكون الطرح جدیداً، والفكر متقدماً نوعیاً، هذا علی مستوی البناء.

أما علی مستوی الصراع الفكري، عندنا خطرین: خطر خاص وخطر عام، فمثلاً الفكر المخالف لمبدأ أهل البیت (ع)، هذا الفكر في ذاته ضعیف ومخالف لظواهر القرآن الكریم، ولكن لاْسباب خارجیة بسبب الدعم وغیره، الدعم السیاسي، الدعم الاقتصادي، الدعم الإعلامي، إلی آخره، أصبح یمثل خطراً علی فكر أهل البیت (ع) في البلد، من هنا الذي یمتلك الوعي بحاجات الصراع في تلك البلد، یوجه اهتمامه للرد علیها.

أما علی المستوی العام للمسیرة الإسلامیة ككل، لا یمثل خطراً بالفعل إنه شيء ضعیف، لكن في مستوی المنطقة ولأسباب معینة أصبح هناك حاجة لمواجهته.

العلمانیة معركتنا الحقیقية

الخطر الجاد هو الخطر العام، وهو خطر الفكر العلماني أو الفكر الرأسمالي، العماد علی المستوی الإسلامي كله، الآن معركتنا الحقیقة ومعركتنا الحاسمة علی مستوی العالم لیست ضد الوهابیة وإنما ضد العلمانیة وفكرها الذي سوف یحدد مصیر مستقبل العالم كله، هو مستقبل الصراع بین الإسلام والعلمانیة، من ناحیة الفكر فالمعركة الحقیقية ضد الوهابیة حتی داخل البحرین.

هناك حاجة لمواجهة هذا الفكر، لكن المعركة الأساسية ضد العلمانیة وفكرها، ولهذا نحن لسنا في حاجة نرد علی كل المهاترات التي توضع ضد مذهب أهل البیت (ع)، والحاجة لذلك أقل من مستوی الحادة لمواجهة العلمانیة، المعركة الأساسیة ضد الفكر العلماني الذي یمثل الخطر الفكري علی الإسلام كله، الدعم الحقیقي الیوم مقدم للفكر العلماني، والخطر ینبع من الفكر العلماني، والمواجهة الحقیقية ضد الفكر العلماني والمعركة الأساسیة ضد الفكر العلماني.

فالذي یمتلك وعیاً بحاجات المسیرة الإسلامیة المباركة علی صعید البناء والصراع الفكري یوجه اهتمامه للفكر العلماني، وكما ذكرت في البدایة أنه یتعلق بتبلیغ التفاصیل للمنهج الإسلامي في تنظیم الحیاة.

هذه مقتطفات سریعة جداً إلی من یهمه المشاركة الإیجابیة في المسیرة الإسلامیة المباركة علی صعید البناء والصراع الفكري ونحتاج إلی البصیرة في ذلك والحمدالله رب العالمین.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى