خطبة الجمعة | 28-12-2001
الخطبة الدينية: تأثير الأقوال والأفعال في مسيرة المجتمع
أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي ومن سوء عملي ومن شر الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، اللهم صل على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين ومن اتبعه بإحسان إلى قيام يوم الدين ، السلام عليك يا رسول الله ، السلام على أمير المؤمنين ، السلام على فاطمة الزهراء سيدتي وسيدة نساء العالمين ، السلام على خديجة الكبرى ، السلام على الحسن والحسين ، السلام على جميع الأوصياء ، مصابيح الدجى ، وأعلام الهدى ، ومنار التقى ، والعروة الوثقى ، والحبل المتين والصراط المستقيم ، السلام على الخلف الصالح الحجة بن الحسن العسكري روحي وأرواح المؤمنين لتراب مقدمه الفداء ، السلام على العلماء والشهداء ، السلام على شهداء الانتفاضة ، السلام عليكم أيها الأحبة ، أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله وبركاته .
(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) لأي شيء تقولون ما لا تفعلون، وفي ذلك إشارة إلى مخالفة الأفعال للأقوال، ونستطيع أن نذكر خمس حالات مهمة تخالف فيها الأفعال الأقوال: –
الحالة الأولى: أن يكون الإنسان واعدا فيعطي وعدا بأن يفعل شيئا ما؛ وهو يعلم من البداية بأنه لن يفعل، وهذه من صفات المنافقين، لأن الإنسان المنافق يعد ثم يخلف.
الحالة الثانية: هي أن الإنسان يعد وفي نيته بأن يفي بوعده، ولكن تأتيه ظروف خارجة عن إرادته فتمنعه من الوفاء بوعده، وهذا إنسان معذور وخارج عن التوبيخ الذي تشير له الآية القرآنية.
الحالة الثالثة: وهي من الحالات التي يجب أن نتأملها كثيرا لأن الكثير من المفسرين يشيرون لهذه الحالة؛ كما أن الروايات تشيرا لها أيضا، وهي أن الإنسان يعد بفعل شيء من الخير؛ ثم إذا جاء وقت التنفيذ يضعف عن الفعل ولا يمتلك الإرادة القوية التي تحمله على الأداء، فهذه الحالة تتكلم عن ضعف الإرادة. أسباب نزول هذه الآية أن بعض المؤمنين سألوا الرسول الأعظم (ص) عن أفضل الأعمال فذكر لهم الجهاد، فضعفوا وكرهوا الجهاد، وفي روايات أخرى تذكر أن سبب نزول الآية أن الرسول الأعظم (ص) أنبأهم عن الله بالثواب العظيم الذي حصل عليه شهداء بدر، فتمنوا أن تكون هناك معركة فيفوزوا بشرف وثواب الشهادة، فجاءت معركة أحد؛ وبدل أن يصمدوا في هذه المعركة انهزموا. هذه الحالة التي تعبر عن حالة الضعف والوهن في الإرادة أمام أعمال الخير هي التي تستنكرها الآية وتشير لها الكثير من الروايات على لسان الكثير من المفسرين؛ وتحذرنا منها، وهي بذلك تريد منا العمل الذي يعبر عن عمق وحرارة الإيمان بأن يكون للإنسان إرادة وعزم قوي في فعل الخير، لأنه لا يليق بالإنسان المؤمن أن تضعف إرادته عن فعل الخير.
قوة الإرادة هنا لها أكثر من وجه؛ فهناك وجه إيجابي، ويتمثل في مقاومة الأعداء والقتال -كما ذهب لذلك معظم المفسرين -أو أي فعل من أفعال الخير. وهناك جانب آخر سلبي يجب أن يحمل الإنسان المؤمن مسئوليته على عاتقه، وهو حماية الجماعة المؤمنة من الاختراق والتهري بحيث يكون هذا الإنسان المؤمن بمستوى هذه المسئولية.
الحالة الرابعة : والتي تشير لها الكثير من الآيات القرآنية ، وهي أن يحب الإنسان أن يمتدح بما لا يفعل ، وحسب تعبير بعض المفسرين أنه يقول : ضرب بسيفه وطعن برمحه ، وهو لم يضرب بسيف ولم يطعن برمح ، أو أن يقول : فعلت وخططت وبنيت وعملت ؛ ويخلق واقعا زائفا كاذبا سواء كان حول الذات أو الجماعة أو الدولة ، والقرآن الكريم يستنكر علينا أن نخلق أوضاعا كاذبة حول أنفسنا ، كما أن خلق الواقع الكاذب لا يتعلق فقط بجانب واحد ، فهو لا يتعلق بالجانب السياسي ، أو الاجتماعي ، أو الاقتصادي ، بل يتعلق حتى بالجانب الروحي والأخلاقي ، فالقرآن الكريم وأحاديث الرسول وأهل بيته (ع) نهت المؤمنين عن التجاهر بالمعاصي ؛ وهذا إجراء لحماية الجماعة المؤمنة لأن التجاهر بالمعاصي يؤدي في النهاية إلى تحقير هذه المعصية ؛ وبالتالي يسهل على النفس ممارسة هذه المعاصي ، وعليه فالمعصية المخفية يغفرها الله قبل المعصية التي يتجاهر بها الإنسان ، وفي نفس الوقت الذي يحذرنا الإسلام فيه من التجاهر بالمعاصي ؛ ولا يريد لنا أن نتجاهر بها حماية للجماعة المؤمنة ، فهو لا يريد لنا أن نخلق واقعا تقوائيا أو أخلاقيا كاذبا . هو يريد منا أن نخلق واقعا تقوائيا وإيمانيا وأخلاقيا متقدما على أرض الواقع وليس مجرد كلام؛ وذلك من خلال الأفعال لا الأقوال.
الحالة الخامسة: علاقة التخطيط بالعمل، والقرآن بذلك يريد منا أن نكون إجرائيين وعاملين في الساحة، فإذا أردنا بناء مسجد على سبيل المثال فلا ينبغي أن نجلس لسنتين أو ثلاث لتداول هذا المشروع؛ وفي النهاية تختلف أقوالنا ولا يبنى المسجد، وهو كلام يندرج على المشاريع الأخرى أيضا. القرآن بذلك يحثنا على الفعل وعدم قتل المشاريع بالكلام الفارغ، فهو يريد منا أن نكون أصحاب مشاريع ننطلق منها لنبني الحياة، وهذا ليس معناه ألا نقوم بعملية التخطيط. الإسلام يريد منا التخطيط وعدم الارتجال؛ لكنه يحذرنا من كثرة الكلام وقلة الأفعال، وتحت عنوان التخطيط والدراسة نقتل كل المشاريع، فإذا أشرنا إلى الدراسة والتخطيط فذلك من اجل بناء مشاريع ناجحة وليس من أجل قتلها، ولكننا ابتلينا أننا وتحت عنوان الدراسة والتخطيط والعقلانية نعمل على قتل كل مشاريعنا، والذي يسمعنا يقول: بأن هؤلاء سيسطرون على العالم بمشاريعهم ومخططاتهم، في حين نجد أن واقعنا واقعا متخلفا جدا. القرآن يوبخنا ويستنكر علينا هذا الفعل، فالعقيدة لم تأت من أجل الكلام وإنما جاءت من أجل تغيير الحياة وتطويرها، وفي هذا المنظور يوجد فرق بين المشاريع العملية، وبين الحوارات الفكرية، فالقرآن يشجعنا على الحوار ويريد منا أن نتحاور في المفاهيم والأفكار والعقائد، وعلينا أن نكثر من الحوار لأن الحوار في هذه الحالة يبنينا ويطورنا، ولكن هناك فرق أنك تدخل في حوار فكري، وأن تأتي لمشروع تريد إنجازه فتقتله بالكلام الفارغ.
في هذه الخمس الحالات المذكورة هناك حالة واحدة يعد الإنسان فيها معذورا؛ وهي: أن الإنسان يعد بوعد معين ثم تأتي الظروف لتمنعه من تحقيق وعده، أما الحالات الأربع الباقية فالقرآن يستنكرها بشدة في الإنسان المؤمن والمجتمع المؤمن ويحذرهم منها، ويقول لهم: أن هذه الحالات لا تتناسب مع روح وحرارة وعمق الإيمان.
لهذا قال: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) والمقت: هو البغض الشديد، ومعنى ذلك أن الله يبغض هذه الحالات التي تكون فيها أفعالنا مخالفة لأقوالنا بغضا شديدا، وليس هذا فحسب وإنما قال (كبر مقتا عند الله) وهنا إضافة لفظة (كبر) فيه دلالة على أن هذا الفعل هو حالة ممقوتة جدا عند الله، لأنها تمثل خطورة على الحالة الإيمانية سواء كان ذلك عند الفرد أو عند الجماعة المؤمنة، وقوله تعالى (كبر مقتا …) يمثل الجانب السلبي، في حين يمثل قوله تعالى: (إن الله يحب …) الجانب الإيجابي.
قبل أو ضح الجانب السلبي والإيجابي؛ أريد أن أنبه إلى نقطة ارتكازية ومهمة جدا في فكر المؤمن وعلاقته مع الله -عز وجل -فأبينها باختصار شديد. الله – جل جلاله – يتصف في ذاته بصفات الجمال وصفات الجلال ، وصفات الجمال هي الصفات التي تخلق حالة الحب والعشق عند الإنسان المؤمن لله – عز وجل – ، وصفات الجلال هي الصفات التي تخلق الخوف والرهبة عند الإنسان المؤمن من الله – عز وجل – .هذه الصفات يظهر أثرها ودلالاتها في كل فعل من أفعال الله – عز وجل – ، فيظهر أثرها في خلق السماوات والأرض ، فإذا نظرت إلى السماوات والأرض ترى في خلق السماء مثلا ما يدل على جمال الله بما يجعل قلبك يهفو إلى الله ويكون محبا إليه وعاشقا له ، وفي خلق السماء أيضا ما يدل على عظمة الله وجلاله مما يترك في قلبك الخوف والرهبة من الله – عز وجل – ، ويظهر أثر ذلك أيضا في خلق الإنسان والحيوان والنبات ؛ حتى في خلق البعوضة ، فلو تأملت بدقة في خلق البعوضة تجد فيها من الأدلة والبراهين والآثار ما يدل على جمال وجلاله ، فقط علينا بالتأمل لنكتشف ذلك .
كما أن آثار جمال الله وجلاله تظهر حتى في كتابه ، فإذا تأملنا القرآن نجد فيه ما يدل على جمال الله وجلاله ، والإسلام كمنهج حياة حينما وضعه الله للناس فيه ما يدل على جمال الله وجلاله ، وأيضا النبي المبتعث والإمام المعين من قبل الله في شخصيتهما ما يدل على جمال الله وجلاله ، والإنسان المؤمن – وهي النقطة التي أريد الإشارة إليها – هذا الإنسان المؤمن الذي يتربى على التخلق بأخلاق الله ومنهجه وتحت عين ولي والله يكون فيه آثار ودلائل جمال وجلاله ، ومن أخلاق المؤمن مثلا قوله تعالى : ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) فأن يكون الإنسان المؤمن متواضعا ذليلا أمام أخيه المؤمن هو مما يدل على تخلقه بالصفات الجمالية لله – عز وجل – ، وأن يتصف بالعزة أمام الإنسان الكافر ففي ذلك دليل على اتصافه بالصفات الجلالي لله – عز وجل – ، ويأتي في سياق هذا المعنى أيضا قوله تعالى ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) ، وأخيرا تظهر آثار صفات الله في المجتمع سواء كان صغيرا أو كبيرا ، فالمجتمع المؤمن الذي يتخلق بأخلاق الله ومنهجه ويتربى تحت عين ولي الله ورعايته وعلى يده – سواء كان نبيا أو إمام – تظهر فيه صفات الجمال والجلال .
وبالتالي فقوله تعالى: (كبر مقتا) فيه إشارة إلى أن الآثار السلبية الناتجة عن مخالفة أفعال الإنسان لأقواله لها تأثير على الفرد والمجتمع الذي لا يليق به -وهو المنتسب لله ولمنهجه، والمتربي تحت عين ورعاية ولي الله وعلى يده -. لا يليق به أن يفعل هذا الفعل، وحينما ننظر للمجتمع الذي تخالف أفعاله أقواله بما فيه من حالات ضعف ووهن وتخلف وكذب وتشويه؛ فهل يمكننا القول: أن هذا المجتمع تخلق بأخلاق الله وتربى على منهج الله ؟!!! وهل يمكننا القول: أنه تربى تحت عين ورعاية ولي الله وعلى يده ؟!!!، وهل يصح أن ننسب لله -عز وجل -هذا المجتمع ؟!!!. هذا المجتمع الذي لا توجد ثقة بين أفراده نتيجة الكذب. هذا المجتمع المتخلف العاجز أمام الآخرين. هل يمكن أن يكون مجتمعا إلهيا مصنوعا تحت عين الله ؟!!! هل هذا معقول ؟!!! أليس في ذلك ظلم وإساءة لله -عز وجل -ولدينه وكتابه وأوليائه؟ ولهذا قال: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون)، وهو بذلك يقول: بأن مخالفة الأفعال للأقوال تخلق حالة كاذبة ومشوهة وضعيفة لا يجوز أن تنسب لله؛ بل هي ممقوتة وصاحبها عند الله -عز وجل -، وليس المقت مقتا عاديا وإنما مقتا شديدا، والإنسان المؤمن أكثر ما يخشاه أن يكون ممقوتا عند الله، فإذا كان الإنسان المؤمن ممقوتا عند الله فما هو مصيره؟ مصيره الهاوية، لأن حرص الإنسان المؤمن أن يكون محبوبا عند الله، وعليه أن يتجنب ويبتعد ويحذر من هذه الحالة ليبتعد عن مقت الله -عز وجل -ونتائجه عليه.
ويمكن أن تكون هناك نتائج خطيرة حين تخالف أفعال الإنسان أقواله وذلك على مستوى الفرد والمجتمع وقد تصل للقيادة ، فعلى مستوى المجتمع ذكرنا أنه لا توجد ثقة في هذا المجتمع الذي يمارس هذا الفعل ، وإذا كانت هذه الصفات موجودة في القيادة فتلك مشكلة وطامة كبرى ، وإذا وجدت هذه الصفات في القاعدة فتلك طامة كبرى أيضا ، لأن القيادة في هذه الحالة حتى لو كانت قدوة في هذا الجانب فهي لا تستطيع أن تعتمد على القاعدة ، ووجودها في القيادة معناه أن الجماعة المسلمة والمجتمع المسلم لا وجود له وقد انتهى ، وبخصوص الإنسان فهو يحب أن يكون محبوبا عند الله لأن الله إذا أحب إنسانا أفاض عليه من رحمته ، وإذا كان ممقوتا فمعنى ذلك أنه مطرود من رحمة الله موكل إلى نفسه بحيث لا يطمع في نصر الله له رحمته به ، وعليه فينبغي أن يحذر الجميع أفردا ومجتمعا وقيادة من التخلق بهذه الصفات حذرهم من مقت – جل جلاله – ويحبون الحالة الثانية .
(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) والصف: أن تجعل الأشياء في خط مستقيم، والمرصوص: مأخوذ من الرصاص، وكان الرصاص يوضع في البنيان سابقا ليحكم بناؤه، وهذه الآية تبين لنا نقطتين أساسيتين: –
النقطة الأولى: أن يكون أمر الجماعة المؤمنة منظم بحيث تتخذ صفة العشوائية في أوضاعها وعلاقتها، وفي هذه الحالة ينبغي الالتفات إلى دور القيادة وأهميتها في تنظيم الجماعة المؤمنة.
النقطة الثانية : أن تكون هذه الجماعة المؤمنة قوية التماسك ، وذلك ( كالبنيان يشد بعضه بعضا ) أو ( كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ، وكأنما أحد الإشارات التي نستلهما ونأخذها من هذه الآية بأن هذا الكلام الكثير يكون على حساب هذه الحالة الإيمانية المتقدمة جدا ، فكلما تكلمنا كثيرا وقلت أفعالنا تشتتنا وتفرقنا واختلطت أوراقنا ، وعليه فينبغي أن تكون أوضاعنا منتظمة ونكون قوة متماسكة كالبنيان المرصوص ، ومن كل هذا نستنتج أنه : لن تكون هناك جماعة منتظمة ومتماسكة ما لم تكن هناك قيادة مؤهلة بعيدة كل البعد عن تلك الحالات ، وأن تتمسك الجماعة المؤمنة بهذه القيادة .
وذكر القتال في الآية يدل على أن الإنسان المؤمن يمر بثلاث مراحل حتى يصل إلى مستوى حب الله له:
المرحلة الأولى: الإيمان العميق. الإيمان الصحيح والواعي. الإيمان الحار الصادق.
المرحلة الثانية: العمل بما يؤمن.
المرحلة الثالثة: الدعوة إلى الله والدفاع عن هذه الدعوة؛ وهو ما عبرت عنه الآية بالقتال.
هذا القتال ليس في المجال العسكري وساحات المعارك فحسب، وإنما القتال يدخل في السياسية، والاقتصاد، والثقافة، وكل مجالات الحياة، فالله -عز وجل -يريد للإنسان المؤمن أن يحمل الروح القتالية في كل هذه الميادين لأنها من صفات الإنسان المؤمن الواعي بمقتضيات الزمان والمكان في كل حقل وفي كل ميدان من ميادين الحياة.
الروح القتالية هي روح هجومية، وهي روح تحصينية أيضا، فمثلما ندافع ونقاوم الأعداء والانحراف والاختراق والتهري فلا نسمح لهم بالسيطرة علينا، ونعد ذلك مقاومة للجانب السلبي، فهناك مقاومة في الجانب الإيجابي حيث يجب أن نملك الروح القتالية في البناء والتطوير في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي، لأن الله -عز وجل -لا يريد منا أن الاسترخاء والكسل وضعف الإرادة، وإنما يريد منا أن نحمل إيمانا يولد إرادة قوية وفعلا كبيرا في المقاومة والبناء.
حينما نأتي لأي مجتمع من المجتمعات نجد فيه عوامل القوة وعوامل الضعف ، وفي هذه المجتمعات تلتفت وتتكأ الجماعة الضعيفة إلى عوامل الضعف لكي تجمد الأمة ، وحينما تطلب من هذه الجماعة العمل والبناء سواء كان في مقاومة الأعداء أو الانحراف أو الاختراق أو التهري فإنهم يتكئون بصورة دائمة على عوامل الضعف في الأمة ليجمدوا وضعها فلا تنطلق وتندفع للإمام ؛ وذلك لأنهم ضعاف وغير صادقين ولا يعملون للمصلحة العامة ، أما الجماعة القوية الصادقة المخلصة فتتكئ على عوامل القوة في الأمة وذلك بتحريك عوامل القوة فيها للسيطرة على عوامل الضعف لتنطلق بالأمة للأمام وتحصنها ، لتستطيع مقاومة الأعداء ، فأي الاتجاهين المذكورين يتناسبان مع روح الآية الشريفة ؟ الذي يعتمد على عوامل الضعف في الأمة في سبيل تجميدها، أو الذي يعتمد على عوامل القوة فيها في سبيل تحريكها وبنائها وتطويرها ؟!!
الخطبة السياسية: رسالة عاجلة للجمعيات السياسية والأفراد والعوائل الكبيرة
بعد هذه الوقفة مع الآية الشريفة؛ أقف باختصار عند قضية مهمة على الساحة الوطنية، والقضية تتعلق بالمؤسسات السياسية خاصة، ومؤسسات المجتمع الأهلي بوجه عام.
المؤسسات السياسية في البلد تمثل خطوة مميزة على مستوى المنطقة، والقيادة السياسية حينما سمحت بقيامها فقد خطت خطوة مميزة غير موجودة بصورة رسمية في دول المنطقة، ونستفيد من هذا الأمر نقطتين: –
النقطة الأولى: تتعلق بسقف الإصلاحات.
النقطة الثانية: تتعلق بتجاوب القيادة السياسية.
معلوم لديكم بأنه في بداية الإصلاحات بأن القيادة السياسية بما فيهم سمو الأمير – حفظه الله – كان لهم موقف سلبي ومضاد ضد الأحزاب بصورة خاصة والجمعيات السياسية ، وكانوا يرون بأن وجود هذه المؤسسات سوف يؤثر تأثرا سلبيا على وحدة المجتمع البحريني والوحدة الوطنية ، وقد تم السماح للجمعيات السياسية بممارسة عملها كما أن سمو الأمير لا يرى أي مانع بأن تتحول هذه الجمعيات إذا أراد البرلمان ذلك إلى أحزاب سياسية ، وهذا يلقي الضوء على النقطة الأولى هي : سقف الإصلاحات ، لأن سمو الأمير والقيادة السياسية لم ترسم سقفا معينا للإصلاحات ، وعليه فهذا السقف يمكن أن يرتفع ويمكن أن ينخفض ، وهو أمر يتوقف على وعي وممارسة الناس ، فلما أن أصرت الناس والرموز الشعبية – ونحن المرحلة الانتقالية – على الجمعيات السياسية والأحزاب ، ورأى سمو الأمير أن التجربة السياسية يمكن أن تنجح في هذا الجانب ، غير سمو الأمير رأيه مما جعل سقف الإصلاحات يرتفع ، وذلك لأن الإصلاحات والحياة السياسية – كما سيتضح مستقبلا من خلال ممارسة الجمعيات السياسية والأحزاب – تختلف اختلافا نوعيا عن ممارسة الحياة السياسية بعيدا عن الأحزاب .
هذا يبين لنا تجاوب القيادة السياسية، فبالرغم من أن القيادة السياسية أعلنت موقف محددا فإنها لم تتحرج بأن تتراجع عن هذا الموقف، وذلك يعطينا أمل أكبر، فنحن نطالب القيادة السياسية بالتجاوب بصورة خاصة فيما يتعلق بالمادة 104 الخاصة بالتعديلات الدستورية. نحن نريد من القيادة السياسية ونتوقع منها أن تتجاوب بصورة أكبر مع مؤسسات المجتمع الأهلي فيما يتعلق بهذه القضية، وأنا واثق أن سمو الأمير لن يضحي بالحركة الإصلاحية فيتخذ خطوة من شأنها أن تؤثر على الحركة الإصلاحية ويصر على موقف معين يتعلق بالتعديلات الدستورية، فحرص سمو الأمير على الحركة الإصلاحية، والتجاوب الذي وجدناه منه فيما يتعلق بالأحزاب يحملنا على القول: بأننا سوف نجد منه تجاوبا في قضايا أهم كقضية التعديلات الدستورية.
أعود إلى هذه الجمعيات ؛ فبعد أن سمحت القيادة السياسية بتكون هذه الجمعيات التي قد تصبح في المستقبل أحزابا ، مطلوب من هذه الجمعيات أن تثبت جدواها وقيمة وجودها للقيادة السياسية والشعب ، فلا تتحول هذه الجمعيات إلى مجرد زينة أو صورة في الساحة السياسية ، مجرد ديكور ، بل يجب أن تتحول إلى شيء ذو قيمة فعلية فيما يتعلق بالإصلاحات ، وهذا يتطلب من الجمعيات أن يكون لها دور إيجابي عبر ممارسة دورها من خلال برامج ورؤى معينة ، وأن تتعاون وتنسق سواء فيما بينها ، أو مع القيادة السياسية ، كما يجب عليها أن تبتعد عن الجوانب السلبية ومن أهمها التفرق والتشرذم والتطاحن والدخول في المهاترات ، وفي مقدمة هذه المهاترات ما يطرح حول الهوية ، فكل جمعية من حقها أن تعبر دورها إذا كان دورها وطنيا أيا كان انتماؤها الفكري والسياسي ، لكن التركيز على الهوية وإثارة الطائفية الفكرية للتغطية على الطائفية السياسية أمر مرفوض ، وهو من ضمن المهاترات الخطيرة التي تهدد مستقبل الجمعيات ، وبدل أن تشتغل الجمعيات بالبرامج تشتغل بالهويات والصراعات الطائفية الفكرية والسياسية .
هناك جانب يمكن أن يوجه للناس وبصورة خاصة إلى العوائل الكبيرة المحترمة في البلاد. أنا أخشى إلى درجة القلق أن يبرز دور سياسي للعوائل الكبيرة على حساب الجمعيات والرموز الشعبية، وهذا ليس معناه طلب تهميش دور هذه العوائل والتقليل من شأنها. نحن نريد أن ندخل للحياة السياسية وفق رؤى وبرامج بما يعطى الأصالة والعمق للممارسة السياسية ، لكن إذا برزت العوائل كواجهات سياسية ؛ فسوف تبرز بثقلها الاجتماعي والاقتصادي على حساب البرامج ، وهي بذلك سوف تقوم بتسطيح الإصلاحات والعمل السياسي والممارسة السياسية ، وسوف تمزق المجتمع أيضا ، فبدل أن يكون للناس رموزا سياسية ومؤسسات تعبر عنها سوف تبرز هذه العوائل لتشق التيارات والمجتمع ، وبالتالي تحدث عملية التشطير والتسطيح للعملية السياسية ، وأقول وأكرر : أنا لا أقلل من شان هذه العوائل واحترامها ، فأنا أحترمها وأقدرها وأطالبها بلعب دور أيضا ؛ ولكن ليس كواجهات سياسية ، فإذا كان عندها ثقل اجتماعي وسياسي ومادي فيجب أن تدعم به المؤسسات والرموز السياسية من أجل المحافظة على وحدة الساحة والممارسة السياسية.
وهناك جانب آخر أحذر منه كل من الجمعيات والأفراد وهو مسألة الخدمات. الخدمات حق للمواطن ويجب أن تصل للمواطن كحق من حقوقه عبر القوانين والمؤسسات، أما استخدام الأشخاص كأدوات ووسائل لإيصال الخدمات فهذا أمر مرفوض، لأنه يأتي على حساب كرامة المواطن، والحركة الإصلاحية، والممارسة السياسية في البلد، ونحن نحذر الأفراد أن يأخذهم الهوى وحب البروز وتأخذهم مصالحهم الشخصية أن يقبلوا بتقديم هذه الخدمات للناس على حساب المصلحة الوطنية، كما نحذر الجمعيات أيضا لأنها بدأت تتسابق وتفكر في الحظوة والتقارب من خلال هذه الخدمات وذلك على حساب المصلحة الوطنية. الجمعيات السياسية لا يليق بشأنها أن تكون أداة لإيصال الخدمات، وإنما أداة لوضع البرامج وتقديمها بما يجعلها تناظر مشاريع الحكومة، أما أن تتحول هذه الجمعيات إلى واجهات لتقديم الخدمات، وتحصل على الحظوة عند الحكومة والقيادة السياسية فهو أمر مرفوض كما ذكرت؛ لأنه يضر بالقيادة السياسية. الجمعيات السياسية عليها أن تسعى في بناء الاتجاه الصحيح للقيادة السياسية لا أن تشجعها وتساعدها على حرف وجهات نظرها الصحيحة. القيادة السياسية اليوم متوجهة لتقديم الخدمات للمواطنين كحقوق من خلال القوانين والمؤسسات، وأنا أحذر الأفراد والمؤسسات من أن تخرب هذا الاتجاه، وعليها أن تكون عونا للقيادة السياسية في ترسيخ هذه الاتجاه لا تغييره وحرفه، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بتاريخ 13 شوال 1422هـ الموافق 2001/12/28 م
في مسجد الشيخ خلف في قرية النويدرات