خطبة الجمعة | 16-11-2001
الخطبة الدينية: رمضان والعلاقة المصيرية
أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي ومن سوء عملي ومن شر الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، اللهم صل على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين ، السلام عليك يا رسول الله ، السلام على أمير المؤمنين ، السلام على فاطمة الزهراء سيدتي وسيدة نساء العالمين ، السلام على خديجة الكبرى ، السلام على الحسن والحسين ، السلام على جميع الأوصياء ، مصابيح الدجى ، وأعلام الهدى ، ومنار التقى ، والعروة الوثقى ، والحبل المتين والصراط المستقيم ، السلام على الخلف الصالح الحجة بن الحسن العسكري روحي وأرواح المؤمنين لتراب مقدمه الفداء ، السلام على العلماء والشهداء ، السلام على شهداء الانتفاضة ، السلام عليكم أيها الأحبة ، أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله وبركاته .
في البداية، سواء كان هذا اليوم أول يوم من شهر رمضان أو آخر يوم من شهر شعبان، فإني بهذه المناسبة أرفع إلى سيدي ومولاي وقائدي وشفيعي يوم القيامة أحر وأسمى وأخلص وأصدق التهاني، وإلى كافة الفقهاء والعلماء والشهداء، وإلى البحرين قيادة وحكومة وشعبا، وإليكم، وإلى كافة المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها.
ثم أنبه إلى أن بعض الأخوة الأعزاء طلبوا تقديم موعد الصلاة ، ومنذ البداية استقر الرأي بعد استطلاع رأي الأخوة أن يكون وقت الصلاة وقتا محددا وثابتا لكي يتيح للمؤمنين السعي في قضاء حوائجهم خاصة في يوم الجمعة والحضور للصلاة في وقت محدد وثابت بحيث لا يكون إرباك في وقت الصلاة ، كما أن الأئمة الذين يصلون في أول الوقت في سائر السنة يؤخرون الصلاة في شهر رمضان حتى أن بعضهم يؤخرها للساعة الواحدة لكي يتسنى للمؤمنين حضورها ، ونحن نصليها في الساعة الثانية عشرة طوال السنة بناء على استقرار مختلف وجهات النظر ، ونرجو من الأحبة تقبل ذلك .
(وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب). ما اللهو وما اللعب؟ ولماذا وصفت الدنيا بأنها لهو ولعب؟ ولماذا قيمت وثمنت في القرآن الكريم بأنها لهو ولعب؟ اللهو: هو كل ما يشغل الإنسان ويلهيه عن الأشياء الأساسية في الحياة. فكل عمل ونشاط يلهي الإنسان عن قضاياه الأساسية في الحياة يسمى لهوا، ووصفت الحياة الدنيا باللهو وذلك في حال يكون فيه اهتمام الإنسان بأمور الحياة شاغلا له عن الآخرة، فإذا شغلت أمور الحياة الدنيا الإنسان عن الله وعن الآخرة فهي لهو، لأن الإنسان لم يخلق للدنيا وإنما خلق للآخرة، وأن المصير الحقيقي للإنسان لا يتحدد في الدنيا وإنما يتحدد في الآخرة، فمهما أعطينا العمل والدور الذي يقوم به الإنسان في الدنيا قيمة. إذا كان هذا الدور على حساب الآخرة فهو لهو. واللعب: هو كل عمل يقوم على تنظيم ولكنه لا يخدم أهدافا حقيقية وواقعية وإنما يخدم أهدافا خيالية مثل لعب الصبيان والأولاد، فالأولاد يجتمعون في مكان معين لمدة ساعة أو ساعتين يلعبون فيها، ويوزعون الأدوار. هذا رئيس جمهورية وهذا وزير وهذا حارس وهذا خادم، هذه الأدوار كلها أدوار خيالية ولا تخدم أهدافا حقيقية وواقعية وإنما هي من أجل التسلية وتنتهي كل هذه الأدوار بانتهاء ساعات اللعب. الحياة الدنيا لعب لأنها فانية وأن كل دور يقوم به الإنسان في هذه الحياة إذا لم يكن مرتبط بالآخرة فهو يزول بزوال الدنيا وهو تماما كلعب الصبيان.
(إن الدار الآخرة لهي الحيوان) بمعنى أن الدار الآخرة لهي الحياة الحقيقية وذلك لثلاثة أسباب:
السبب الأول: أنها حياة الخلود، حياة مخلدة باقية مستمرة، لا موت بعدها ولا فناء
السبب الثاني : أنها حياة ممتلئة بالحيوية ، حياة بكل معنى الكلمة ، كل مفردات الحياة وكل مقاصد الحياة موجودة فيها ، فهي حياة فيها كمال وحيوية ، وهي حياة فعلية وغير ناقصة ، وفي سبيل توضيح الفكرة نقول : أن الله – جل جلاله – هو الحي الذي لم يستمد الحياة من غيره ، وحياة الله تمثل الحياة المطلقة الغنية ، والحياة الكاملة من جميع الوجوه ، وأن الله هو مصدر كل حياة فيمنح الحياة لكي حي ، والحياة مراتب ودرجات ، فعندنا حياة النبات ، وحياة الحيوان ، وحياة الإنسان ، وأنتم تجدون الفرق بين درجات الحياة لدى النبات ودرجة الحياة لدى الإنسان ، هناك فرق شاسع ، فمرتبة حياة الإنسان أكمل وأعلى من حياة النبات والحيوان ، كذلك الحياة الدنيا حياة ناقصة إذا قيست بحياة الآخرة ، حياة الآخرة أكمل وأنضج ، والبعض يقول بأنها حياة ممتلئة بالحيوية ، حياة تفور بالحيوية ، وجميع هذه العبارات في وصف الحياة الآخرة عبارات ناقصة ولا توصل للمعنى الدقيق ، والإنسان يحتاج أن يجتهد لكي يصل للمعنى الحقيقي لهذه الحياة . فمثلا الحياة الدنيا فيها لذة، لكنها لذة محدودة يشوبها الألم، أما لذة الحياة الآخرة فهناك مجموعة من اللذائذ كالطعام والشراب والجنس وكلها لذائذ كاملة لا يشوبها الألم، والسعادة في الحياة الدنيا مشوبة بالشقاء والعناء والتعب، والسعادة في الآخرة لا. أكمل، الفرح في الدنيا يشوبه الحزن، والفرح في الآخرة ليس كذلك، فالحياة الآخرة أكمل لأنها أولا خالدة ولأنها حياة كاملة مليئة بالحيوية فحين أن الحياة الدنيا حياة ناقصة.
السبب الثالث: أن مرتبة الإنسان ودرجته في الحياة الآخرة واقعية وكماله كمال واقعي وحقيقي يكسبه من خلال الإيمان والعمل الصالح والجهاد، بينما المراتب في الحياة الدنيا ليست كذلك، فقد يكون المحكوم أفضل مائة مرة من الحاكم، وقد يكون العبد أفضل مائة مرة من السيد، فهذه مراتب ولكنها ليست مراتب حقيقية وواقعية بل مراتب وهمية، أما المراتب في الآخرة فهي مراتب حقيقية وواقعية.
(وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) لو كانوا يعلمون لعلموا حقيقة الوصف السابق أن الدنيا لهو ولعب وأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقة، لو كانوا يعلمون لما اشتغلوا بالدنيا على حساب الآخرة. وهذا المعنى يوصلنا إلى ثلاث نتائج: –
النتيجة الأولى: أن الاشتغال بالدنيا على حساب الآخرة هو: نتيجة الجهل وقلة العلم وقلة التدقيق والتحقيق في الأمور، وأن الإنسان لا يعرف حقيقة ذاته، ولم يتفكر ويتأمل ويتحقق من مصيره.
النتيجة الثانية: أن الذين يهتمون بالدنيا على حساب الآخرة هم أطفال مهما امتد بهم العمر ومهما احتلوا من مراكز لأن تفكيرهم في حقيقة الأمر في الحياة كتفكير الأطفال في اللعب، وأن ممارساتهم في الحياة هي تماما كلعب الأطفال حينما تنفصل الحياة الدنيا عن الآخرة.
النتيجة الثالثة: أن للحياة للدنيا حالتين. الحالة الأولى: هي أن ننظر للدنيا في نفسها معزولة عن الآخرة، والحالة الثانية: أن ننظر للدنيا من خلال اتصالنا بالآخرة، ففي الحالة الأولى: الدنيا لا قيمة لها فهي لهو ولعب، وأن كل الدول وكل الجيوش وكل المؤسسات وكل الوظائف هي في حقيقتها لهو ولعب. أدوار وهمية وأهداف وهمية تنتهي بانتهاء الحياة الدنيا ثم يقف الإنسان أمام المصير الأسود بعد الموت، أما في الحالة الثانية: إذا ارتبطت الدنيا مع الآخرة فهنا تكون للحياة قيمتها وتكون الحياة بالفعل مزرعة الآخرة.
هذا الكلام يقودنا إلى معرفة أهمية الدين لأن الدين هو الذي يربط الدنيا بالآخرة فهو وسيلة الربط بينهما، لذا يجب أن نعرف قيمة الدين وخطورة الدين وخطورة الخطاب الديني. الخطاب الديني لأهميته ولخطورته يحتاج إلى عملاقة أمثال الأنبياء والأوصياء والفقهاء العظام الذين بإمكانهم أن يرقوا إلى مستوى أهمية وخطورة الخطاب الديني ، أما أنا وأمثالي فأقزام ، وخطابنا مستحيل أن يصل إلى أهمية وخطورة الخطاب الديني ، ولهذا نحن نطلب منكم أن تصبروا علينا لأن الله ابتلاكم في هذا البلد بالفراغ الذي جرني أنا وأمثالي لهذا المنبر ، وإلا فالخطاب الديني له حضوره وأهمية حقيقية ، فنحن مثلا لنا خطاب سياسي ، ونعتقد بأهمية وخطورة الخطاب السياسي لأن نتيجة هذا الخطاب تترتب عليه أوضاعنا في هذه الحياة ، فإذا نجحنا في خطابنا السياسي يمكن أن نكسب معركة انتخابية ، وإذا فشلنا في خطابنا السياسي نخسر هذه المعركة الانتخابية ، ونقول بأن هذا له قيمة ، وهو بالفعل له قيمة ، لكن إذا نجحنا في خطابنا الديني نكسب نحن والمستمعون نفوز بالجنة ، وإذا فشلنا في خطابنا الديني نخسر الجنة وندخل إلى النار . فهل يمكن أن تتساوى كسبنا إلى معركة انتخابية أو خسارتنا لها وكسبنا إلى الجنة وخسارتنا لها. هذا هو الفرق بين الخطاب السياسي والخطاب الديني وقيمة كل منهما.
نحن لنا مصالح ومكاسب سياسية في هذه الحياة نريد المحافظة عليها، نريد المحافظة على المقاعد البرلمانية، نريد منابر إعلامية، نريد مؤسسات، نريد وظائف، كلها حقوق ومكاسب نريد المحافظة عليها والمدافعة عنها ونواجه كل قاطع طريق أو سارق لهذه المكاسب، ولكن ما هو الموقف لو أن شخص حاول أن يسرق منا شعيرة إسلامية. يسرق منا مثلا شهر رمضان، أو يسرق منا مثلا الأعياد عن طريق نصب الخيم الرمضانية والحفلات الغنائية. هذه سرقة شعيرة !! ما هو موقفنا منه ؟!! هل نقاومه مثلما نقاوم شخصا يريد أن يسرق منا مقعدا انتخابيا أو برلمانيا ؟!!! إذا كان هناك شخص يريد أن يسرق منا مقعدا برلمانيا أو منبرا إعلاميا نقاومه !! لكن لو أن شخصا حاول أن يسرق منا شعيرة من شعائر الله. هل نقاومه بنفس القوة التي نقاوم فيها شخصا يريد أن يسرق منا مكسبا سياسيا ؟!
الدين فيه ثلاث نقاط مهمة ، الدين العقائد ، والعقائد وظيفتها أنها توضح لنا حقائق الأشياء ، وهي بمثابة النور الذي يضيء لنا طريق حياتنا الذي يربط الدنيا بالآخرة ، والدين الأحكام الشرعية : وهي بمثابة القوانين التي تنظم السير في هذا الطريق ، والدين الشعائر : وهي بمثابة الزاد في هذا الطريق ، ومن نعم الله العظيمة علينا أنه وضع لنا هذه الشعائر في سبيل إعطائنا الزاد الذي يزودنا للآخرة ويؤمن حياتنا فيها ، الزاد الذي يصفي نفوسنا ويكملها ، ويؤهلنا لأن نحتل مراتب محترمة في الآخرة ، هذه نعم عظيمة وعلينا المحافظة على هذه النعم ، ومن النعم الكبيرة على الإنسان هي هذه الشعائر .. الحج، الصيام، الزكاة، الصلاة، وعلينا أن نعرف قيمة هذه الشعائر فلا نفرط فيها ولا نسمح لأحد أن يسرقها منا، وإذا فعل ذلك فيجب أن نقاومه.
أنا كما ذكرت سابقا أعتقد بأنني قزم لا أستطيع أن أرقى بمستوى الخطاب إلى أهمية هذه الشعائر، وأنا أتكلم أحس أنني قزم أمام هذه الشعائر، ولا أستطيع أن أوصل لكم المعاني المطلوبة التي تحفزكم لها وتشعركم بقيمة وخطورة هذه الشعائر في الحياة، لكنني أقول ما أقوى عليه.
ونحن نستقبل شهر رمضان، علينا أن نستقبل هذا الشهر بالتوبة، والشعور بالتقصير في جنب الله -عز وجل -لأننا بحاجة ماسة لصفاء التوبة لندخل إلى ساحة قدس الله -جل جلاله -، والأقوال والأحاديث كثيرة في موضوع التوبة، ولكن فقط أذكر حديثين، الحديث الأول (حديث قدسي) يقول الله -جل جلاله -: ” لو علم المدبرون عني كيف انتظاري لهم وشوقي إلى توبتهم لماتوا شوقا إلى ولتفرقت أوصالهم “، وفي الحديث القدسي الآخر: ” عبدي. بحقك علي أحبك ، فبحقي عليك أحبني ” ونحن في هذا الشهر ونعيش أيامه محتاجين أن نتذكر هذه الفقرة من دعاء وكميل ” لأي الأمور إليك أشكو ، ولما منها أضج وأبكي ، لأليم العذاب وشدته ، أم لطول البلاء ومدته ” ونحن نعلم بأن شهر رمضان هو أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ، ولياليه أفضل الليالي ، وساعاته أفضل الساعات كما في خطبة الرسول الأعظم (ص) في أواخر شهر شعبان ، والمطلوب منا أن نتعامل بجدية مع هذا الشهر ، وأن نتعامل مع هذا الشهر تعاملا مصيريا ، تعامل من يريد أن ينقذ نفسه من جهنم ويدخل إلى الجنة ، ومثل ما قدمت في أول الحديث لا توجد مسألة مهمة في هذه الحياة .. أي مهمة. تريد أن تصبح رئيس دولة. تريد أن تكون ملك العالم كله. تريد. ومتى يكون هذا الشيء ؟!!!. هل يساوي أنك تدخل النار ؟!! فلو أن بإمكانك أن تكون ملك العالم كله، فأيهما أهم أن تكون ملك العالم ثم تدخل جهنم، أو تحرص على أن تدخل الجنة ؟!! أيهما أكثر مصيرية وأهمية ؟!. شهر رمضان فرصة لإنقاذ النفس من جهنم، فلنتعامل مع أيام وساعات شهر رمضان هذا التعامل الجاد المصيري الذي ننقذ فيه أنفسنا من جهنم ” فالشقي هو من حرمان غفران الله في هذا الشهر العظيم “. مع التسامح والكرم العظيم لله في هذا الشهر والفيوضات الإلهية العظيمة بالفعل ” الشقي من حرم غفران في هذا العظيم ” فلنكن من عتقاء الله في هذا الشهر من جهنم، وذلك يتطلب منها مراعاة الأوقات والحالات، والدخول في تجارة مع الله بالمحافظة على الصلاة والدعاء والقرآن وصلاة الجماعة وصلاة المسجد، لأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرادى وصلاة المسجد أفضل من صلاة البيت. كل هذه الأمور يجب الاهتمام فيها ومراقبتها في هذا الشهر في سبيل تحقيق هدفنا، ولنحذر كل الحذر بأن تشغلنا الأمور الأخرى عن هذا الاهتمام، فنحذر بالدرجة الأولى من أعداء الله الذين يحاولون أن يسرقوا منا هذا الشهر ويحرموننا بركات وفيوضات هذا الشهر، ثم نبحث عن الأمور المهمة في هذا الشهر، فشبابنا مثلا يهتمون بالمسابقات الرياضية وهو أمر غير خاطئ ولكن لا تصبح هذه المسابقات الرياضية كل شيء في هذا الشهر. الأنشطة الرياضية من شأنها أن تقوينا ولا تعيشنا الملل والكسل في هذا الشهر ولكن لا تكن هذه الأنشطة كل شيء، فهناك أمور أهم من شأنها أن تصفي أنفسنا وتقربنا إلى الله عز وجل وتجعلنا نعيش الأنس والقرب من الله كالصلاة والقرآن والدعاء، فلنحاول تخليص النفس وتنقيتها لنفوز بالقرب والأنس بالله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بتاريخ 1 رمضان 1422هـ الموافق 2001/11/16 م
في مسجد الشيخ خلف في قرية النويدرات