خطبة الجمعة | 15-11-2002
الخطبة الدينية : منهجين في العمل السياسي – رؤية قرآنية
أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي و من سوء عملي و من شر الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين ، وأصحابه المنتجبين ، ومن اتبعه بإحسان إلى قيام يوم الدين ، السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أمير المؤمنين ، السلام على فاطمة الزهراء سيدتي وسيدة نساء العالمين ، السلام على خديجة الكبرى ، السلام على الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، السلام على جميع الأوصياء مصابيح الدجى ، وأعلام الهدى ، ومنار التقى ، والعروة الوثقى ، والحبل المتين ، والصراط المستقيم ، السلام على الخلف الصالح الحجة بن الحسن العسكري ، روحي وأرواح المؤمنين لتراب مقدمه الفداء ، السلام على العلماء والشهداء ، السلام على شهداء الانتفاضة ، السلام عليكم أيها الأحبة .. أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله وبركاته .
قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا : إذا لقيتم فئة فاثبتوا ، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ، ولا تنازعوا .. فتفشلوا وتذهب ريحكم ، واصبروا إن الله مع الصابرين * ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ، ويصدون عن سبيل الله ، والله بما يعملون محيط * ) صدق الله العلي العظيم .
هذه ثلاث آيات من سورة الأنفال ( 45 – 47 ) ، والحديث في هذا الأسبوع يدور حول الآية الثالثة وهي الأخيرة ، ولكن لكون الآيات الثلاث تمثل وحدة متماسكة ، رأيت أن أتلو الآيات الثلاث ، وأقف على الآيتين الأولى والثانية باختصار شديد ، ثم أدخل في محور الحديث ، وهو الآية الثالثة.
الآية الأولى تأمر المؤمنين بأمرين :
الأمر الأول : تأمرهم الثبات . ( يا أيها الذين آمنوا : إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) واللقاء يستخدم غالبا في المواجهة العسكرية ، ولكنه يشمل كل المواجهات في ساحات الصراع ، فيشمل المواجهة العسكرية والسياسية والإعلامية والثقافية وغيرها ، وهذه الآية تأمر المؤمنين بالثبات في مواجهة أي فئة أخرى يدخلون معها في صراع .
الأمر الثاني : تأمرهم بذكر الله . ( واذكروا الله كثيرا ) قول لا إله إلا الله ، والحمد لله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، وغيرها من الأذكار ، على أن هذه الأذكار يجب ألا تقف عند حركة اللسان ، وإنما يجب أن تعكس حضور الله في قلوب أصحاب الذكر. وذكر الله يعني عدة نقاط :
النقطة الأولى : أن ذكر الله ينسي ذكر الدنيا ، وذكر المال ، وذكر الأولاد ، وذكر الدنيا والأموال والأولاد عادة ما يضعف الإنسان في ساحة المواجهة ، وعلى العكس منه نجد أن ذكر الله يسيطر على عوامل الضعف التي تضعف الإنسان في ساحة المواجهة .
النقطة الثانية : أن ذكر الله يساعد على تقوية الإرادة ، لأنه يذكر الإنسان بنصر الله له ، كما أنه يذكره بالعوض ، أي أن ثباته وعمله الصالح له عوض عند الله عز وجل ، وهو رضا الله والفوز بالجنة ، فتقوى إرادة الإنسان .
النقطة الثالثة : أن ذكر الله يعني الإخلاص لله عز وجل .
الآية الثانية تأمر المؤمنين أيضا بأمرين :
الأمر الأول : المحافظة على وحدة الصف أو الاتفاق فيما بينهم ، وتحذرهم من الاختلاف ( أطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا ، فتفشلوا وتذهب ريحكم ) وتبين هذه الآية بأن مرتكزات وحدة الصف وعدم الاختلاف ثلاثة ، وهي :
الركيزة الأولى : الالتفاف حول المنهج ( أطيعوا الله ) .
الركيزة الثانية : الالتفاف حول القيادة ( ورسوله ) .
الركيزة الثالثة : حسن الإدارة ( ولا تنازعوا ) ولا يعني عدم التنازع ألا نختلف في الرأي ، لأن الاختلاف في الرأي أمر طبيعي بل ومطلوب ، ولكن الآية تلفت انتباهنا إلى حسن التدبير والإدارة مع وجود الآراء المختلفة ، بأن نحسن الإدارة للآراء المختلفة لتتحول الآراء المختلفة إلى قوة ، ووحدة صف لا يمكن أن تتحقق إلا باعتماد مبدأ تعدد الآراء وحسن إدارتها ، لأن فرض الرأي الواحد يعني إما تنازل أصحاب الرأي الآخر عن آرائهم ، وإما ابتعادهم عن صاحب الرأي المفروض ، أو أصحاب الرأي المفروض ، فوحدة الصف تتوقف إذن على الاعتراف بتعدد الآراء ، وحسن إدارتنا للآراء المختلفة ، فإذا أحسنا إدارة اختلاف الآراء ستتحول إلى قوة ، وإذا أسأنا في ذلك ستكون النتيجة التنازع والاختلاف بلا شك ، وسيترتب على هذا التنازع الضعف والفشل في تحقيق الأهداف ، وهو ما تقره الآية ( ولا تنازعوا فتفشلوا ) أي تفشلوا في تحقيق أهدافكم ( وتذهب ريحكم ) أي تصبحوا ضعفاء ، فتفقدوا دولتكم وهيبتكم وقوتكم وعزتكم .
الأمر الثاني : أن الآية الكريمة توصي بالصبر ، وذكر الصبر في الآية يشير إلى مسألتين مهمتين:
المسألة الأولى : أن المحافظة على الوحدة ، وحسن إدارة الاختلاف في الآراء يتطلب الصبر ، فإذا لم نتحلى بالصبر ، لن نستطيع المحافظة على وحدتنا ، ولن نستطيع إدارة الاختلاف في الرأي بيننا .
المسألة الثانية : أن النصر بوجه عام لن يتحقق إلا من خلال الصبر .
وهناك التفاتة مهمة جدا من خلال سياق الآيات ، فقد ذكرت الآية الأولى الثبات وأمرت المؤمنين به ( إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) والثبات معناه أنه ضد الزوال ، ومعناه أيضا عدم الفرار من الزحف ، وهناك من العلماء من يرى فرقا بين الثبات والصبر ، فالبعض منهم يرى أن الثبات أعم من الصبر ، وأن الصبر بعض الثبات ، وهناك فرق آخر يذكره العلماء ، بأن الثبات في الجسم أي في الظاهر ، والصبر في القلب أي في الباطن ، والنكتة هنا في المعنى الأخير ، فالبعض من الناس قد يجزع ويخاف أثناء المواجهة سواء كانت المواجهة عسكرية أو سياسية أو إعلامية أو ثقافية ، والآية تطالبه بعدم الاستسلام لهذا الجزع وهذا الخوف ، بل تطالبه بإخفائه والتظاهر بالثبات ، لأن هذا التظاهر بالثبات هو الذي من شأنه أن ينمي عنده ملكة الصبر ، فيتحول هذا الثبات الظاهري إلى صبر حقيقي .
كما أن الثبات يعني : أن الإنسان كلما قطع مرحلة في سلم الكمال ، فإن هذا الثبات لا يسمح له بالتراجع إلى الوراء ، فكلما حافظ على اتزانه واعتداله وثبت ، فإن هذا الثبات يبقيه في مكانه ، ولا يسمح له بالتراجع إلى الوراء ، حتى يتهيأ عمليا إلى الانتقال إلى مرحلة أعلى ، من خلال تحول الثبات الظاهري إلى حالة صبر حقيقي تؤهله إلى المرحلة الأعلى ، وبدون الثبات الظاهري ، فإن حالة التزعزع والاضطراب التي قد تعترض الإنسان في مرحلة من المراحل ، قد تدفع به إلى التراجع .
بعد هذه الوقفة الموجزة مع الآيتين الشريفتين ، ننتقل إلى محور الحديث ، وهو الآية الثالثة .
( لا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ، ويصدون عن سبيل الله ، والله بما يعملون محيط ) هذه الآية الشريفة تقدم منهجين في العمل السياسي ، كما تقدم طائفتين من الناس ، كل طائفة تلتزم بأحد المنهجين ، والآية تنهانا عن منهج وتأمرنا بمنهج آخر .
( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم ) فهناك مجموعة خرجت من ديارها وفق منهج معين في العمل السياسي ، والآية تنهانا أن نعمل وفق هذا المنهج ، وبالتالي فهي تأمرنا بالمنهج المضاد والمغاير لهذا المنهج .
المنهج الأول : نتعرف على هذا المنهج من خلال وقوفنا على أسباب نزول هذه الآية ، فقد نزلت هذه الآية في معركة بدر حسب أقوال المفسرين ، وذلك لما أن خرج الرسول (ص) لاعتراض قافلة أبي سفيان وتسمى بالعير ، فلما سمع أبو سفيان بالخبر استطاع أن ينجو بالقافلة ، ولما أن سمعت قريش بذلك ، خرجت لحماية هذه القافلة فيما يسمى بالنفير ، وهو جيش قريش بقيادة أبو جهل .. بعد أن يتفق العلماء على هذه المقدمة ، يذكرون سببين للنزول :
السبب الأول : أن ابن القحاف الكناني جاء إلى أبي جهل يحمل هدية من والده ، وبعد أن سلمه الهدية نقل له كلام والده حيث قال : ” إن شئت أمدك بالرجال ، وإن شئت زحفت معك ” فقال أبو جهل : ” إن كنا نقاتل الله كما يدعي محمد ، فليس لنا والله طاقة بالله ، وإن كنا نقاتل الناس ، فإن لنا والله على الناس لقوة ” ، وبعد ذلك أصر على نزول بدر وقال : ” فوالله لننزلن بدرا ، ونشرب الخمر ، وتعزف القيان علينا – وهي الإماء والغواني ، وتسمع العرب ذلك ” .
السبب الثاني : أن أبا سفيان نفسه أرسل رسولا إلى أبي جهل يأمره بالرجوع ، لأنه استطاع النجاة بالقافلة ، فذكر له نفس الكلام السابق ، بأنه سوف ينزل بدرا ، ويبقى فيها ثلاثة أيام ، ينحر الجزر أي الجمال والإبل ، ويطعم الطعام ، ويشرب الخمر ، وتعزف القيان عليهم ، لماذا ؟!! ” لا تزال العرب تهابنا أبدا ” هذا هو المنطق والمنهج الأول ، وعاقبته كانت الهزيمة والذل والهوان لقريش وزعمائها .
المنهج الثاني : ويتمثل في قول الحسين (ع) : ( وإني لم أخرج لا أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي رسول الله (ص) ، وسيرة أبي علي ابن أبي طالب (ع) ) .
من الواضح جدا ، أن المنهج الأول لا يحمل رسالة ، وممارساته ممارسات سطحية ، وأهدافه لا تخدم مصالح الناس في الدنيا والآخرة ، بينما المنهج الثاني على العكس من ذلك تماما ، فهو يمتلك رسالة ، وممارساته ممارسات عميقة جدا ، وأهدافه تخدم مصالح الناس للدنيا والآخرة .
بعد ذلك ، نعالج هذين المنهجين من خلال نص الآية :
قوله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ) البطر في اللغة يعني ثلاثة أمور :
الأمر الأول – الزهو والفخر : بمعنى أن يحصل الإنسان على نعمة ، فيزهو ويفخر ويفرح بها ، وينسى مصدر النعمة ، وهو الله ، وينسى الأشخاص الذي وقفوا معه في سبيل الحصول على هذه النعمة ، فينسب هذه النعمة إلى نفسه ، إلى علمه وقدرته ، كما في الآية الشريفة على لسان قارون فيما يتعلق بماله : ( إنما أوتيته على علم عندي ) .
الأمر الثاني – عدم الشكر على النعمة : بأن يحصل الإنسان على النعمة ، فلا يقدم الشكر لله على هذه النعمة ، وذلك لأنه ينسب النعمة إلى نفسه .
الأمر الثالث – الطغيان بالنعمة أو الانحراف بها عن مقاصدها التي أرادها منها : فإذا امتلك الإنسان القوة أو السلطة أو الجاه أو المال ، فهذه كلها نعم ، ولكنه بدلا من شكرها ، وتوظيفها في الخير وخدمة الناس ، فإنه يحرفها عن المقاصد التي أرادها الله لها ، ويطغى بها ويظلم .. إلخ .
من الناحية السياسية ، البطر يعني عدة أمور :
الأمر الأول : أن الأهداف التي تسعى لها الحركة السياسية أهداف غير جادة ، وإنما أهداف سطحية وغير عميقة ، ولا تحوي منفعة للإنسان في الدنيا والآخرة ، لماذا ؟ .. لأنها تقوم على الزهو والفخر والتظاهر .
الأمر الثاني : أن الحركة التي تعتمد البطر منهجا لها ، فإن هذه الحركة تسيطر عليها النزعات والمصالح الفردية ، بدلا من الرأي الجماعي وفق آليات عمله ، والمصالح العامة .
الأمر الثالث : أن الحركة السياسية التي تعتمد على البطر منهجا لها ، لا تصرف الأمور في وجهها الصحيح ، وإنما تحرفها عن وجهها الصحيح ، فتوظف القوة والسلطة والمال والجاه في غير مكانها ، بما يعود على الناس بالضرر بدلا من النفع .
وهذا النهي من قبل الآية للمؤمنين عن هذا المنهج ، تقابله الدعوة لهم بأن يكونوا على منهج آخر مضاد لهذا المنهج ، تكون فيه أهدافهم عميقة ونافعة للناس في الدنيا والآخرة ، وأنهم حينما يديرون ويدبرون الأمور ، فيجب عليهم إدارتها على أساس واقعها ، وحسب وجهتها الصحيحة التي تخدم مصالح الناس ، سواء كانوا يملكون وزارة أو موقع قوة أو غير ذلك .
قوله تعالى : ( ورئاء الناس ) لنعالج مفهوم الرياء أولا على ضوء مقولة الإمام الحسين (ع) : ( إني لم أخرج أشرا ) والأشر يعني أمرين :
الأمر الأول : الرياء والسمعة حسبما أشارت له الآية القرآنية ، ومعناه أن يظهر الإنسان الجميل ، ويبطن القبيح .
الأمر الثاني : الاستكبار والاستعلاء على الناس .
من الناحية السياسية ، فإن الحركة السياسية التي تعتمد على الرياء والسمعة (الأشر) في حركتها ، نجدها تحمل ثلاث صفات :
الصفة الأولى : أنه يغلب على الحركة الدعاية والإعلام ، أي أنها تتحرك من أجل ذلك ، وأن جل اهتمامها ينصب على الدعاية والإعلام ، إلا أن هذه الحركة الإعلامية لا تعكس واقعا صحيحا ، فتجد نفسك أمام واقع ظالم ومتخلف ، ولكن الدعاية والإعلام يصوران لك الواقع في صورة مغايرة ، كما أن العمل السياسي لا يهدف إلى تحسين وتطوير الواقع ، بقدر ما يهدف إلى الرياء والسمعة ( الدعاية والإعلام ).
الصفة الثانية : أن الحركة السياسية التي تعتمد هذا المنهج ( الأشر ) أو ( الرياء والسمعة ) ترفع شعارات زائفة ، وحين تأتي إلى الواقع تجده مخالف تماما ، فالشعارات الجميلة البراقة في واد ، والأفعال والتطبيق في واد آخر ، كما في المعنى اللغوي للرياء : أن يظهر الإنسان بالمظهر الجميل ، ويخفي الباطن القبيح ، وعلى المستوى السياسي ، يرفع شعارات جميلة ، ولكن التطبيق قبيح وسيء جدا .
الصفة الثالثة : أن الهدف من الحركة السياسية في هذا المنهج ( الأشر ) أو ( الرياء والسمعة ) ليس خدمة مصالح الناس للدنيا والآخرة ، وإنما الاستعلاء والسيطرة عليهم .
فإذا نهتنا الآية عن هذه الصفات ، وعن هذا المنهج ، فهي تأمرنا بمنهج آخر يقوم على الصدق والشفافية والإخلاص ، وحين نرفع الشعارات ، فيجب أن تكون شعاراتنا صادقة ومخلصة ، كما يجب أن يتناسب سلوكنا مع هذه الشعارات ، وألا يكون الهدف من الحركة السياسية الاستعلاء والسيطرة على الناس ، وإنما خدمة مصالح الناس لدنياهم وآخرتهم .
( ويصدون عن سبيل ) الصد له معنيان :
المعنى الأول : الانصراف أي عدم الإتباع لدين الله .
المعنى الثاني : المنع ووضع العقبات في طريقه .
ومن الناحية السياسية ، فإن الحركة التي تصد عن سبيل الله ، فهذا يعني ثلاثة أمور:
الأمر الأول : إنها تطرح وتطبق منهجا غير منهج الله .
الأمر الثاني : أنها تضع العراقيل والعقبات في طريق منهج الله .
الأمر الثالث : أنها تقاتل أولياء الله الذين يدعون إليه .
والآية القرآنية إذ تنهانا عن هذا المنهج الذي يصد عن سبيل الله ، فإنها تأمرنا بأن
تكون حركتنا في سبيل الله ، ولكي تكون كذلك ، فهذا يعني أيضا ثلاثة أمور :
الأمر الأول : أن نقوم بطرح منهج الله في الحياة ، وندعو ونسعى إلى تطبيق هذا المنهج .
الأمر الثاني : أن نطيع أولياء الله ونحبهم .
الأمر الثالث : أن نحرر الإنسان من قوى البغي والضلال التي تحاول أن تنتهك كرامته وتذله ، ونحمي حقوق الإنسان وحرياته وحرماته .
هذان المنهجان ينطبقان على الحكومة والمعارضة ، فالحكومة والمعارضة أمامهما خياران ، فإما أن يتبعان المنهج الأول في حركتهما أو المنهج الثاني .
قوله تعالى : ( والله بما يعملون محيط ) هذه الآية فيها تحذير إلى الطائفة الأولى التي تعمل وفق المنهج الأول ، وتقول لهم : ما يلي
أولا : أن الله يعلم نواياكم وأعمالكم .
ثانيا : أن الله وقادر عليكم ، فمهما ملكتم من العدد والعتاد ، فهذا لا يخرجكم عن سلطة الله وقدرته ، ولا يزال الله مهيمنا ومسيطرا عليكم ، وقادرا على أن يفعل بكم ما يشاء .
ثالثا : أن الله سوف يحبط أعمالكم في الدنيا ويعذبكم في الآخرة .
والآية كما تحذر الكافرين من مغبة عملهم ، فإنها تبشر المؤمنين بأن الله ناصرهم ، وأن لهم حسن العاقبة في الدنيا والآخرة .
الخطبة السياسية : التشكيلة الوزارية الجديدة
بعد هذه الوقفة القصيرة ، انتقل إلى الحديث السياسي ، ويتعلق بتشكيلة الحكومة الجديدة .
الغالبية العظمى من الذين علقوا على التشكيلة الجديدة ذكروا بأن التشكيلة مخيبة للآمال ، وأنها دون مستوى طموح الناس ، وقد صرح وزير الإعلام لإذاعة لندن بأن هذه الحكومة تكنوقراطية بمعنى تخصصية ، وأنها سوف تهتم بالتنمية . و يطرح سؤالين على التشكيلة الحكومية الجديدة :
السؤال الأول : هل هذه التشكيلة الحالية تخدم حركة التنمية أم لا ؟ هناك توقف عند البعض حول هذه المسألة بالذات ، فهو يرى أن التشكيلة الوزارية الجديدة لا تحمل الكفاءة لتحقيق التنمية المطلوبة ، ويوجد فيها نقص في هذا الجانب ، ويشير البعض إلى غياب التخطيط بصورة خاصة .
السؤال الثاني : أن الحاجة إلى التنمية حاجة مستمرة ، والتشكيلات الحكومية عادة ما تبرز فيها الحاجات المرحلية والمستجدة ، والحاجة المرحلية في البحرين اليوم هي الإصلاحات والديمقراطية ، والملك في أمره إلى رئيس الوزراء بتشكيل الحكومة ، جعل ضمن أولويات الحكومة تنمية الديمقراطية ، ونحن نسأل : هل قدمت التشكيلة الوزارية الجديدة شيئا من شأنه أن يعزز الديمقراطية ؟!!! أقول : أنه يكاد لا يختلف اثنان من العقلاء بأن التشكيلة الوزارية الجديدة جاءت على النسق القديم ، ولو تم تشكيل الحكومة في العهد القديم لأفرزت نفس الإفراز ، وبالتالي لا علاقة لهذه الحكومة بالمرحلة الجديدة ، وهي مرحلة الإصلاحات والديمقراطية ، وليس من شأن هذه الحكومة أن تقدم شيئا جديدا في تنمية وتعزيز الإصلاحات والديمقراطية ، وقد طرحت هذه النقطة في لقاء الثلاثاء ، واليوم في أخبار الخليج كان مقال الأخ علي صالح يركز على نفس النقطة .
هذه التشكيلة التي ليس من شأنها أن تعزز الديمقراطية تدل على عدة أمور :
الأمر الأول : أن الحكومة في تفكيرها لم تنتقل إلى المرحلة الجديدة ، وإنما لازالت تفكر بالأسلوب والنمط القديم .
الأمر الثاني : أن الحكومة في تشكيلتها أخذت بعين الاعتبار واقع المجلس الحالي ، فواقع المجلس الحالي ضعيف ، وحتى الأسماء التي سوف تكون في المجلس المعين لن تختلف كثيرا عن الأسماء الموجودة في المجلس المنتخب لامتناع الرموز والشخصيات المرموقة عن الدخول إلى المجلسين ، فالشخصيات التي نأت بنفسها عن الدخول في المجلس المنتخب ، فإنه من الأولى أن تنأى بنفسها عن الدخول في المجلس المعين ، ولهذا سوف تكون أسماء أعضاء المجلس المعين غير معروفة على غرار أعضاء المجلس المنتخب . وقد ألقى ضعف المجلسين المنتخب والمعين بظلاله الكثيفة على التشكيلة الوزارية الجديدة ، فلو كان هناك مجلسا قويا يحمل تحديا ، لدفع أو حفز وحث رئيس الحكومة على تشكيل حكومة قوية جدا ، لتكون متكافئة مع المجلس الوطني ، ولكن لكونه مجلسا ضعيفا ، جاءت الحكومة بهذه الشاكلة ، وهي امتداد للمرحلة القادمة ، دون أن تدخل في متطلبات المرحلة الجديدة.
هذا بحث في عموم التشكيلة الوزارية ، وحينما نأتي إلى بحث بعض الخصوصيات ، نجد أن الحكومة لم تعط ثقلا أو وزنا للمجلس الوطني ، وإنما قللت من شأنه ، وذلك من خلال الوقوف على هاتين الملاحظتين :
الملاحظة الأولى : نجد أن الوزير الذي أسندت له حقيبة الشئون البرلمانية وهو الأستاذ عبدالعزيز الفاضل – ونحن هنا نناقش الأمور بموضوعية ، ونريد وضع النقاط على الحروف بعيدا عن الأشخاص – هذا الأخ الفاضل كان ضابطا في وزارة الدفاع ، وبعد ذلك أسندت له وزارة التربية ، والمعروف عن الأستاذ عبدالعزيز الفاضل ، بأنه لا يمتلك خبرة سياسية ولا إدارية ، فحينما تسند له هكذا وزارة ، فهذا دليل على عدم وجود قوة لهذا المجلس ، ولو كانت هناك قوة للمجلس ، لبحث رئيس الوزراء عن شخصية قوية تمتلك خبرة سياسية وإدارية لتسيير أمور هذا المجلس وتطويره ، حتى لو كان المجلس ضعيفا ، فلكي تطوره ، ينبغي الإتيان بشخصية قوية تكون قادرة على تطوير هذه المؤسسة البرلمانية ، والأخ عبدالعزيز الفاضل – مع احترامنا لشخصه ، وبنظرة موضوعية للأمور– لا يمتلك الخبرة السياسية والإدارية التي تمكنه من إدارة وتطوير هذه المؤسسة . فإذا كانت المؤسسة قوية فهو عاجز عن قيادتها ، وإذا كانت ضعيفة فهو عاجز عن تطويرها .
كما أن الأسماء المرشحة لرئاسة المجلس تحمل نفس الإشكالية ، حيث أن الاسم الأكثر بروزا والأوفر حظا لرئاسة مجلس الشورى والمجلس الوطني حسب جريدة الوسط هو الدكتور فيصل الموسوي ، وفيصل الموسوي كان طبيبا ، ونحترمه كطبيب ، وكان عضوا في مجلس الشورى ، ثم وزيرا للصحة ، وهذه الشخصية – مع احترامنا لها ، وتقديرنا لجهودها – فإنها بالنظرة الموضوعية ، لا تمتلك الخبرة السياسية والإدارية التي تمكنها من إدارة وتطوير هذه المؤسسة . فحينما تعهد المؤسسة البرلمانية الضخمة لشخص يفتقر للخبرة السياسية والإدارية ، فهذا يعني عدم إعطاء وزنا ودورا مهما لهذه المؤسسة .
الملاحظة الثانية : في النظام الديمقراطي ، تكون الشخصية الأولى في الدولة هي رأس الدولة ، والشخصية الثانية هي رئيس السلطة التشريعية ، والشخصية الثالثة هي رئيس السلطة التنفيذية ، ولكننا في البحرين ، نجد بأن رئيس السلطة التشريعية يأتي برتبة وزير ، وهذا معناه خفض لمكانة السلطة التشريعية .
فإذا جئنا لدستور 2002 نجده ينتقص الحقوق المكتسبة ، وإذا جئنا للمؤسسة التشريعية وجدنا المجلس المعين يهيمن ويرتهن إرادة المجلس المنتخب ، وإذا جئنا إلى التشكيلة الوزارية نجدها تتجاهل المرحلة الجديدة ، وإذا جئنا إلى الوزير الذي يحمل حقيبة الشئون البرلمانية نجده لا يحمل الكفاءة المطلوبة ، وإذا جئنا إلى الرئيس المعين للمؤسسة التشريعية نجده لا يحمل الكفاءة المطلوبة أيضا ، والسؤال ماذا أبقت الحكومة من مكانة لهذه المؤسسة . الجواب : أنها لم تبق لها شيئا ، وقد انتقصت من شأنها مرات ومرات :
المرة الأولى : تمثلت في انتقاص الدستور للمكتسبات ، وهيمنة المجلس المعين على المجلس المنتخب .
المرة الثانية : أنها جعلت رتبة رئيس السلطة التشريعية برتبة وزير .
المرة الثالثة : حينما عينت وزيرا لحقيبة الشئون البرلمانية ، ورئيس للمؤسسة التشريعية لا يمتلكان الخبرة السياسية والإدارية الكافية أو اللازمة لمنصبيهما ، وبالتالي فهما غير قادرين على إدارة هذه المؤسسة وتطويرها .
بعد ذلك ، أنتقل إلى موضوع أكثر خصوصية ، ويتعلق بالأخوين العزيزين ، الدكتور محمد علي الستري ، والدكتور السيد مجيد العلوي ، اللذين تكثر حول دخولهما الحكومة الأسئلة .
في بدء الإصلاحات ، في أكثر من مناسبة ، وكل خطاباتي التي أشرت فيها لهذا الموضوع حتى 14 / 2 / 2002م ، ذكرت أن المعارضة يجب أن يكون عندها برنامجا ومشروع عمل تسعى لتطبيقه على الأرض ، وتطبيق هذا البرنامج يتطلب منها أن يكون لديها أعضاء في البرلمان ، وأعضاء في المجلس البلدي ، وأعضاء في الحكومة ، والوظائف الإدارية العليا ، أي أننا نحتاج إلى التشريع والتنفيذ ، وشيء طبيعي في مرحلة الديمقراطية والمشاركة السياسية أن تدخل المعارضة إلى المجالس التشريعية والبلدية ، وتدخل إلى الحكومة والمراكز الوظيفية والإدارية العليا ، ولكن لما جاء زلزال 14 / فبراير .. هذا الزلزال السياسي قلب الأمور كلها على عقب ، وأصبحنا غير قادرين على الدخول إلى البرلمان ، وتشمل المسألة التحفظ على السلطة التنفيذية أيضا .
إذا جئت إلى خصوصية الأخ الدكتور السيد مجيد العلوي ، فالدكتور السيد مجيد العلوي كان أحد رموز المعارضة ، والآن أصبحت الصورة واضحة لدى الدكتور نفسه ، ولدى المعارضة والحكومة ، بأن الدكتور ليس محسوبا على صفوف المعارضة ، رغم أنني شخصيا في لقاءات سابقة مع السيد مجيد كان يقول لي : أنه يرى نفسه في داخل المعارضة ، ولا أعرف إن كانت الرؤية تغيرت أو لم تتغير لديه بهذا الخصوص ، ولكننا نعرف كما الحكومة بأنه الآن ليس محسوبا على المعارضة ، واختيار الدكتور السيد مجيد ليس لأنه رمز من رموز المعارضة ، وإنما لأنه رمز خرج عن المعارضة ، والتعيين الوزاري بالنسبة له قد يعد بمثابة المكافئة ، وكأن الحكومة تبعث برسالة لرموز المعارضة ، بأن أي واحد منكم مستعد للخروج من صفوف المعارضة ، ومستعد أيضا للتعاون مع الحكومة ، فنحن مستعدون لمكافأته أيضا .. هذه رسالة واضحة .
وبخصوص نظرة الحكومة إلى المعارضة فقد اختلفت نظرتها ، حيث لم تكن في بدء الإصلاحات تقبل القول بوجود معارضة ، وكلنا يعرف تصريح وزير الإعلام في الصحافة المحلية في بدء الإصلاحات ، ولكننا وجدنا هناك تغيرا ، سواءً على مستوى القيادة السياسية في البلد ، حيث بدت تقبل وتعترف بوجود المعارضة وأثنت عليها ، وفي مقدمتهم سمو ولي العهد ، حيث أثنى على المعارضة ، وعد سلوكها سلوكا حضاريا ، كما أن الأخ الوزير محمد المطوع كان واضحا في بداية الإصلاحات أنه يرفض الاعتراف بوجود المعارضة ، وفي آخر مقابلة له في ( mbc ) اعترف بوجود المعارضة وقوتها وحضورها ، واعترف أيضا بتحضرها ، بل أكثر من ذلك ، قال : أن العمل السياسي الحكومي لا يمكن أن يتطور بدون وجود معارضة ، وهذا كلام كنا نكرره ، وقد اعتـُرِف به الآن ، ولكن من الناحية العملية ، لم تتح الحكومة الفرصة للمعارضة لكي تقوم بدورها على أحسن وجه ، حيث لا يوجد تعاون في هذا الصدد ، والتشكيلة الوزارية الحالية لم يأخذ في تشكيلها رأي المعارضة بعين الاعتبار .. إذن : فاختيار الدكتور لم يكن على أساس أنه معارض ، وإنما على أساس أنه خارج عن دائرة المعارضة .
هناك بعد ثان لتعيين الدكتور السيد مجيد في منصب وزير العمل ، فكلنا يعرف بأن مشكلة البطالة من المشاكل الشائكة في البحرين ، وموضوع اختلاف بين الحكومة والمعارضة ، فحينما تأتي الحكومة وتعين الدكتور السيد مجيد في منصب وزارة العمل ، فهي تقول لنا بذلك : أن الدكتور كان محسوبا على المعارضة ، ويدعو إلى حل مشكلة البطالة ، الآن تفضلوا ، فهذه الوزارة عنده ، فليفعل ما يشاء ، ويحل المشكلة ، ونحن نتمنى على الحكومة أن تساعد الأخ الدكتور السيد مجيد ، وتحل مشكلة البطالة ، لكن لو أن الدكتور السيد مجيد فشل في حل هذه المشكلة ، فسيحسب ذلك أنه فشل للمعارضة ، أي أن المعارضة تقول ما لا تستطيع أن تفعل ، وحينما تأتي في موقع المسئولية ، تعجز حتى عن تفعيل شعاراتها وتحقيق مطالبها .
أما فيما يتعلق بالأخ الدكتور محمد علي الستري ، وبعيدا عن القضايا والعلاقات الشخصية ، فسوف أبعدها ، وأتكلم من ناحية موضوعية ، فمن الناحية السياسية الموضوعية ، فإن اتجاه الدكتور محمد علي الستري سياسيا مخالف ومعارض لاتجاه الوفاق ، والوفاق اشتركت في الانتخابات البلدية ، وأحرزت ما يقارب من 22 مقعدا ، وبعد ذلك قاطعت الانتخابات البرلمانية ، فإذا كانت الحكومة تريد أن تتعاون ، وتنجح تجربة البلديات ، وتشجع الوفاق خاصة ، والمعارضة عامة ، فإنه من المفروض عليها أن تأتي بشخص متوافق مع الوفاق لكي تنجح التجربة ، لكن حينما تأتي بشخص معارض من الأساس للطرف الأقوى في البلديات ، فمعناه في القراءة السياسية أن الحكومة لا تريد التعاون ولا تريد إنجاح التجربة ، ونصيحتي للدكتور وأعضاء المجالس البلدية من الوفاق وغيرهم أن يبتعدوا عن توجهاتهم الشخصية ، وأن يركزوا على مصالح المواطنين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بتاريخ 10 رمضان 1423 هـ الموافق 15 / 11 / 2002 م
في مسجد الشيخ خلف في قرية النويدرات