خطبة الجمعة | 10-1-2003

الخطبة الدينية: الإدارة السياسية – هدهد سليمان (رؤية قرآنية)

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي الأمارة بالسوء ومن شر الشيطان الغوي الرجيم

اللهم صلي على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين, وأصحابه المنتجبين , ومن اتبعه بإحسان إلى قيام يوم الدين.

السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أمير المؤمنين السلام عليك يا فاطمة الزهراء سيدتي وسيدة نساء العالمين, السلام عليك يا خديجة الكبرى.السلام عليكما أيها الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة أجمعين، السلام على جميع الأوصياء , مصابيح الدجى , وأعلام الهدى , ومنار التقى , والعروة الوثقى , والحبل المتين , والصراط المستقيم ،السلام على الخلف الصالح الحجة بن الحسن العسكري , روحي وأرواح المؤمنين لتراب مقدمه الفداء، السلام على جميع الأنبياء والأوصياء والعلماء والشهداء، السلام على شهداء الانتفاضة، السلام عليكم أيها الأحبة ، الأخوة والأخوات في الله ، ورحمة الله وبركاته .

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد : ( وَتفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) النمل- الجزء التاسع عشر. آمنا بالله , صدق الله العلي العظيم .

الآيات الثلاث من سورة النمل , ذات بعدين رئيسيين , وهما :

البعد الأول : بعد فكري عقائدي , يدور حول القدرة العقلية الاستيعابية لدى الهدهد , لأوضاع المجتمع الإنساني السياسية والاجتماعية والدينية . ثم سلطة نبي الله سليمان ( ع ) على الهدهد , وفهمه ( ع ) للغة الطير

البعد الثاني : بعد إداري سياسي .

الغرض من الحديث في هذا الأسبوع , ليس البعد الفكري العقائدي , وإنما هو البعد الإداري السياسي , وسوف أتناول البعد الفكري العقائدي في الحدود التي تخدم الغرض من الحديث في البعد الإداري السياسي فقط .

في البعد الفكري جانبين كما أوضحت قبل قليل , وهما :

الجانب الأول : يدور حول القدرة العقلية الاستيعابية لدى الهدهد , لأوضاع المجتمع الإنساني , السياسية والاجتماعية والدينية , وهذا الجانب سوف أعالجه في ثنايا البحث في مضامين ومطالب الآية الشريفة المباركة .

الجانب الثاني : ويدور حول سلطة نبي الله سليمان ( ع ) على الهدهد , وفهمه ( ع ) للغة الطير , وهذا الجانب أرغب في الوقوف عند جانب منه ، بين يدي البحث في الآية الشريفة المباركة .

إن سلطة نبي الله سليمان ( ع ) على الهدهد, وفهمه للغة الطير, هما جزء من التأهيل الرباني لخلفاء الله تعالى في الأرض , ونعمه تعالى عليهم , وقد أوضحت ذلك في حديث الجمعة للإسبوع الماضي , وهنا أنبه إلى مسألتين مفيدتين في هذا الموضوع .

المسألة الأولى : الدرس الذي نستفيده من هذا الموضوع , هو ضرورة تأهيل القيادات حسب نوع وحجم المسؤوليات أو المهام الملقات على عواتقهم , وأن يكون التأهيل على أيدي ذات خبرة وكفاءة , وألا يتولى شخص وظيفة أو مهمة ، وهو غير مؤهل لها , فتكون النتيجة فساد وتخلف المجتمع , وعجزه عن القيام بواجباته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها . إننا يجب أن نلتفت إلى خطورة تولي المناصب على أساس القرابة أو العناوين الأخرى ، على حساب الكفاءة , فنخون بذلك الأمانة , ونساهم في فساد وتخلف المجتمع , بدلا من المساهمة في إصلاحه وتقدمه ونجاحاته .

المسألة الثانية : إذا كان الله جل جلاله, قد أعطى لعبده ونبيه سيلمان ( ع ) سلطة على الطير والجن والرياح , كجزء من تأهيله لخلافته في الأرض , وهداية الناس وقيادتهم إلى الله جل جلاله , فنحن نعلم أن نبي الله سليمان (ع) كان يجمع بين النبوة والملك , إلا أن ملكه في دائرة محدودة , وفي زمن متوسط من تاريخ البشرية . فإذا كان الله جل جلاله , قد أعطى لعبده ونبيه سليمان (ع) كجزء من تأهيله لخلافته في الأرض, وهداية الناس وقيادتهم إلى الله جل جلاله كل ذلك !! فبتصوركم كم سيعطي عبده ووليه الأعظم الحجة بن الحسن العسكري ، روحي وأرواح المؤمنين لتراب مقدمه الفداء , كجزء من تأهيله لخلافته في الأرض , وهداية الناس وقيادتهم إلى الله جل جلاله في آخر الزمان , وإقامة دولة العدل الإلهي العالمية , الذي هو أفضل وأرقى زمان ؟!! ( اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين ) .

قوله تعالى: ( وَتفَقَّدَ الطَّيْرَ )…

تفقد : حقيقة التفقد , هو التعرف على فقدان الشيء , وعلة وجوده وغيابه. والمعنى: أنه كان لنبي الله سليمان (ع) , أصناف من الطيور تأتمر بأمره , وهي مطلقه غير مسجونة في قفص أو غيره , لأن الهدف من ذلك ليس الزينة , وإنما هي مجنده للقيام بوظائف مفيدة ونافعة للمجتمع . ونحن نتفهم اليوم مسألة تعليم الطيور والحيوانات , وتسخيرها للأغراض المدنية والعسكرية والأمنية , ونحن نعلم بأن بعض الحيوانات في الوقت الراهن ، لها رتب عسكرية وحقوق وواجبات.

وفي ذات يوم تفقد نبي الله سليمان (ع) الطيور , كما يتفقد القائد الجند , ليعلهم الانضباط , وليرفع من معنوياتهم ، ولم ير من بينهم الهدهد …

قوله تعالى: (فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ )

لم ير نبي الله سليمان (ع) الهدهد من بين الطيور التي كانت حاضرة العرض , وكان واجب الهدهد الحضور , ولم يستأذن للتغيب أو التأخير, ولم يكن نبي الله سليمان (ع) يظن في حقه أن يغيب أو يتأخر , كما عهده منه ، فتساءل في تعجب عن سبب أو علة عدم رؤيته له , ووضع لذلك احتمالين , وهما :

الاحتمال الأول:

قوله تعالى : ( مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ؟! ) أي أنه قد احتمل أن يكون حاجبا أو ساترا قد حجب رؤيته للهدهد .

الاحتمال الثاني:

قوله تعالى : ( أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) أي أنه قد احتمل غيابه عن حضور العرض الواجب .

ولهذه الآية الشريفة المباركة عدة دلالات, أذكر منها:

الدلالة الأولى: أن المطالب بحضور العرض الواجب , هو واحد من طيور الهدهد, وليس جميع نوع أو أمة طيور الهدهد , كما أن العرض الواجب لم يكن يشمل جميع الطيور من الأنواع الأخرى , بل ممثلين عنها. وبالتالي: فالمقصود في الآية الشريفة المباركة ، هو هدهد خاص له مميزات تميزه عن عامة أمة أو نوع الهدهد .

الدلالة الثانية: الآية تدل على دقة ويقظة نبي الله سليمان ( ع ), وهي الدقة واليقظة التي ينبغي أن يتمتع بها كل قائد. فهو (ع) لم يغب عن إدراكه أو ملاحظته, غياب جندي واحد من جنوده ، في ظل ذلك الحشر العظيم الضخم من الجن والأنس والطيور .

الدلالة الثانية: تنبهنا الآية الشريفة المباركة, إلى أهمية وقيمة مراقبة القائد للجيش أو الحكومة أو مؤسسات الدولة للعاملين فيها , لكي لا يخفى عليه شيء من أوضاعها, وليطمئن إلى سلامة وحسن وجودة الأداء , وأنه لا يوجد فيها فساد إداري أو ماليّ أو التقصير في القيام بالواجبات, أو سوء استخدام للسلطة أو الوظيفة العامة…الخ.

وأن القائد يقوم بدور المراقبة بنفسه, بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة , أي بواسطة الأجهزة المختصة والأمينة , بدون أن يضعف ذلك من سلطة أو دور الأجهزة الرقابية التابعة لسلطات الدولة الرئيسية !! هذا هو الحق لا غيره .

وبخصوص الهدهد نخلص إلى النتائج التالية:

النتيجة الأولى: أن الهدهد كان هدهدًا خاصًا, وليس من عامة أمة أو نوع طير الهدهد .

النتيجة الثانية: أنه كان مكلفا بالحضور في العرض الواجب, ولم يؤذن له بالغياب أو التأخير, ولم يكن من عادته أن يفعل ذلك بدون إذن.

قوله تعالى: ( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ )

تأكد نبي الله سليمان ( ع ), أن عدم رؤيته للهدهد, إنما هي بسبب غيابه, ولم يكن الهدهد قد استأذن للغياب أو التأخير, وبالتالي فهناك حـالة عدم انضباط, وهذا يمثل خطرًا على نظام الدولـــة , وعــمل المؤسسات ، فأعلن للحشد استياءه من ذلك, ووضع احتمـالين لغياب أو تأخر الهدهد عن حضور العرض الواجب, وهما:

الاحتمال الأول : أن يكون غيابه أو تأخره بدون عذر , وبالتالي تجب معاقبته , لكي لا يختل نظام الدولة وعمل المؤسسات. وأن العقوبة سوف تكون بحسب المخالفة لا غير, وفي ذلك تأكيد على أهمية الطاعة وضرورة الالتزام.

قوله تعالى: ( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ )

فإذا كانت المخالفة تستحق عقوبة التعذيب بالحبس مثلا . فسوف يحبس, وإذا كانت المخالفة تستحق عقوبة الإعدام فسوف يعدم. إذن : العقوبة بحسب المخالفة لا غير, لا تهاون على حساب النظام والمصلحة العامة للدولة , ولا ظلم لأحد الرعية ، وكل يتحمل مسؤولياته بصدق وأمانة .

اللام في قوله تعالى: ( لَأُعَذِّبَنَّهُ )

وفي قوله تعالى: ( لَأَذْبَحَنَّهُ ) لام القسم وتدل على الحزم في الأمر .

الاحتمال الثاني: أن يكون غيابه أو تأخره بعذر, وفي هذه الحالة يجب عليه أن يأتي بدليل واضح على عذره, فإذا لم يأت بهذا الدليل الواضح على عذره, فسوف تنزل به العقوبة لا محالة, لأنه لا تهاون ولا محسوبية على حساب النظام والمصلحة العامة, ولا يوجد أحد فوق القانون .

وفي الآية الشريفة المباركة عدة دلالات, أذكر منها:

الدلالة الأولى: تدلنا الآية الشريفة المباركة, على أهمية الجزاء وضرورته في الحفاظ على النظام, واستقامة عمل الدولة والمؤسسات وتطورها.

الدلالة الثانية: أن الجزاء يجب أن يكون بحسب المخالفة.

قال الله تعالى في سورة النبأ ( جزاءً وفاقًا ). أي موافقا للذنب , بحسب نوعه وحجمه ، وهذا يتطلب أن يوجد القانون العادل أولا قبل العقوبة , وأنه لا عقوبة بدون قانون.. ولهذا نستفيد من قوله تعالى: ( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ) أنه أوجد قانون العقوبة قبل الجزاء , وأن هذا القانون قانون عادل موحى به من الله جل جلاله رب العباد .

الدلالة الثالثة : أن نبي الله سليمان (ع) لم يكن ملكا جبارا في الأرض, ولم يكن دكتاتوريًا. فهو (ع) مع حرصه على النظام , لم يظلم الهدهد وهو مخلوق ضعيف في مملكته , فضلا عن أن يظلم إنسانا بريئًا, ويعاقبه بغير ذنب , وقبل أن يسمع حجته وأقواله في محاكمة عادلة ، تحفظ له جميع حقوقه. لأن هدفه من الحكم هو الإصلاح والعدل , وليس الفساد والظلم من اجل المصالح الخاصة , أو من أجل التسلط على الناس بغير حق , وبدون سلطان مبين .

الدلالة الرابعة: أنه لا عقوبة بدون محاكمة عادلة يسمع فيها القاضي أقوال المتهم, ويسمح له بالدفاع عن نفسه, ولهذا وجدنا نبي الله سليمان ( ع ) لم يصدر حكما مسبقا على الهدهد ، واحتمل في شأنه أن يكون معذورا ، وله حجته في غيابه ، ولم يشوه صورته أمام الآخرين ، وإنما أكد (ع) في بيانه ، بأن الهدهد ، إذا لم يأت بدليل واضح على عذره , فسوف تنزل به العقوبة لا محالة , وذلك من أجل المحافظة على النظام ، والمصلحة العامة العليا في الدولة لا غير .

الدلالة الخامسة : أن نبي الله سليمان ( ع ) قال ما قاله عن الهدهد أمام الملأ , وذلك من أجل نشر الثقافة القانونية , وتعميق الإحساس بالمسؤولية الدينية والوطنية , ومن أجل ترسيخ وتعميق حالة وثقافة الانضباط بين شعبه وجنوده, وليأخذ الجميع العبرة الكاملة من الحادثة, وأن لا تمر الحادثة بين عبرة أو درس للجميع .

الدلالة السادسة: وفيها لنا درس كبير في العمل الإسلامي والوطني …

من الواضح أن نبي الله سليمان ( ع ) لم يكن يدفع أجرا للهدهد مقابل عمله , وإنما كان الالتزام من الهدهد أمام نبي الله سليمان ( ع ) بحسب نظام الدولة التي يعيش فيها , وبحسب التكليف الإلهي المقدس العظيم ، وبالتالي فإن عدم دفع الأجر ، لا يقلل من ضرورة الالتزام بالنظام والواجبات المحددة ، الملقاة على عواتقنا.. ونحن في العمل الإسلامي والوطني , لا ينبغي أن نقلل من أهمية التزامنا بالنظام والواجبات الملقاة على عواتقنا, بحجة أننا نمارس عملا تطوعيا, وأننا لا نتلقى أجرا على ذلك, ولنعلم أننا نمارس عملا واجبا, وتكليفنا شرعيا, نثاب على عمله يوم القيامة , ونعاقب على تركه . ومن شأن ذلك الإيمان ، أن يعمق ويقوي لدينا الإحساس بالمسؤولية ، والالتزام العملي بها , ولا يضعفها بأي حال من الأحوال , هذا إذا كنا مؤمنين صادقين في إيماننا, وملتزمين عمليا به .

قوله تعالى: ( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ )

( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) أي انتظر نبي الله سليمان (ع) وقتا غير طويل, ثم حضر الهدهد إلى مكان العرض , فسأله نبي الله سليمان (ع) عن سبب أو علة تأخره , وعاتبه على ذلك , فقال الهدهد : ( أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ )

الاحاطة تعني: العلم الكامل بالشيء.

تكلم الهدهد لقائده العظيم بدون خوف أو رهبة , لأنه يعلم بأن القائد العظيم : رغم حزمه فإنه عادل لا يظلم أحدا , وأنه لم يكن مذنبا, فلم يتخلف عن الواجب بدون عذر, وإنما تخلف بعذر معقول جدا, وأنه يمتلك الدليل الواضح على ذلك, بل أن تخلفه كان من أجل القيام ببعض واجباته , وأنه كان في مهمة كبيرة تتعلق بالمصلحة العامة ، التي يحرص عليها القائد ضمن رسالته أو هدفه في الحياة .

ودخل الهدهد مع قائده العظيم في الموضوع بصورة مباشرة, فلم يكن محتاجا إلى استعطاف القائد , ولم يكن محتاجا إلى تملقه , فالقائد صاحب رسالة ، وهو مخلص لرسالته , ولم يكن مجرد سلطان أو ملك يعجبه التملق واستعطاف الناس إليه ..

قال الهدهد للملك أو القائد العظيم : لقد اكتشفت شيئًا هامًا يتعلق ببعض مسؤولياتك الهامة في الحياة , والتي تحتاج منك إلى موقف وتدبير , وأنت لم تحط علما بذلك الشيء ، رغم سعة علمك وإحاطتك …

ونجد أن القائد العظيم ، قد استمع لأحد أبناء شعبه , أو لأحد جنوده باهتمام بالغ , ولم يمنعه حزمه من حسن الاستماع إليه , فإن الحزم من أجل المحافظة على النظام , وليس من أجل الهيبة المصطنعة , أو من أجل خلق الفجوة بين الحاكم والمحكوم , أو بين القائد وأتباعه. ولم يظن القائد سوء بالهدهد , ولم يخلق غيابه أو تأخر فجوة بينه وبين قائده .

قوله تعالى: ( وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ )

سَبَإٍ: اسم رجل تنتسب له قبائل باليمن, وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان , قيل : إن اسمه عبد شمس , ولقب بسبأ لأنه أول من سبي . وللفظ في الآية معنيين محتملين :

المعنى الأول: سبأ بمعنى – القوم أو القبيلة الذين ينتسبون إلى سبأ.

المعنى الثاني: الحي أو المدينة التي يسكنها القوم , وهي مدينة مأرب عاصمة اليمن في ذلك الوقت, وقد أطلق عليها أسم سبأ .

النبأ: الخبر المهم الذي له شأن , وليس الخبر العادي الذي قد يكون مهما , وقد يكون غير مهم .

اليقين: ما لا شك فيه.

قال الهدهد: إنني كنت بصدد مهمة في غاية الأهمية, ولم أكن عابثًا أو مقصرًا في الواجب, ولم أكن مستهترًا بالتزامي اتجاه النظام أو اتجاه قائدي العظيم .

لقد ذهبت يا سيدي إلى اليمن , واطلعت على أحوال أهلها, ونظام الحكم فيها, وجئتك منها بالخبر اليقين , والمفصل الواضح , والمعلومات الصحيحة التي تستطيع أن تعتمد عليها في اتخاذ الموقف الصحيح المناسب. .

نستطيع أن نستفيد من قول الهدهد , أنه كان يريد أن ينبه قائده العظيم , بأن هناك قوم في اليمن , يحملون النوايا الحسنة والصفات الجميلة , وأنهم يرغبون في الحق , وغير متعصبين للباطل الذي هم عليه ، ليتواصل معهم نبي الله سليمان (ع) ، من أجل هدايتهم لأنهم يستحقون ذلك ..

ونجد في الآية الشريفة المباركة عدة دروس, ولها عدة دلالات.

من الدروس التي نستفيدها من الآية الشريفة المباركة :

الدرس الأول: أن الهدهد لجأ إلى أسلوب دقيق وجميل في عرض الموضوع, بحيث يسترعي اهتمام وعناية القائد , ورغبه في الاستماع إليه .. فنجد بأن الهدهد بدأ حديثه بمفاجأة: ( أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) ، وقد أجمل الهدهد الخبر ، وقدمه بأسلوب مثير ، قبل أن يدخل في التفاصيل ( وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ). مما يدل على أهمية عرض المواضيع والأخبار , في سبيل أن تحقق أهدافها المشروعة , وليس في سبيل التضخيم والتضليل, كما تفعل الصحافة في الوقت الحاضر. فالإعلام الإسلامي كما نفهمه من الاستفادة القرآنية ، في هذه الآية الشريفة المباركة , أن الإعلام الإسلامي : في الوقت التي يهتم فيه بالإثارة وجمال الأسلوب, فإنه إعلام واقعي لا يضخم الخبر, وإنه يعتمد على الحقائق وليس على الأكاذيب والظنون ..

ونستفيد من الآية أيضا : فن التعامل بحكمة مع الحالات والمواقف ، كما فعل الهدهد مع قائده العظيم نبي الله سليمان (ع) ، فهل نتعلم من الهدهد كما تعلم قابيل من الغراب ؟!

الدرس الثاني: أهمية التقارير والأخبار في العمل الرسالي والوطني, على أن تعتمد التقارير والأخبار على المعلومات الدقيقة الواضحة , والمعلومات اليقينية , وليس على المعلومات العامة الغامضة غير الواضحة, والمعلومات الظنية غير اليقينية . لأن هذه المعلومات تمثل الأساس الذي تتخذ عليه المواقف والقرارات الهامة والمصيرية , وهي التي يجب أن تتخذ على أساس اليقين , وليس على أساس الظنون والتوقعات الغامضة غير الواضحة .

الدرس الثالث: نستفيد من الآية الشريفة المباركة, أهمية جمع القائد لطاقات وجهود الأتباع والمؤيدين ، والأعضاء العاملين في فرق العمل المختلفة وتوظيفها توجيهها من أجل تحقيق الأهداف المحددة سلفا , وليس تشتيتهم وتضييع جهودهم أو تعطيلها !!

ونستفيد أيضا من الآية الشريفة المباركة , أهمية استيعاب أعضاء أو أفراد فريق العمل ، والأتباع والمؤيدين لرسالة القائد ومنهجه وأهدافه , حتى يستطيعون المساهمة الفاعلة في مشروع القائد الذي يضمهم ، حتى أصغر واحد فيهم , كما هو الحال مع الهدهد في فريق عمل نبي الله سليمان (ع) ، فقد كان مستوعبا لذلك ، ولهذا استطاع أن يقدم إسهاماته المباركة في خدمة المشروع .

ونستفيد أيضا : أن القائد يجب أن يمنحهم التفويض وحرية الحركة في ضوء فهمهم واستيعابهم للخطوط العريضة : للرسالة والمنهج والأهداف , في سبيل إعطاء فرصة أكبر للنجاح في تحقيق الأهداف . ولنعلم بأن القائد الناجح هو الذي يبحث عن المؤازرين له في العمل ، وفق آليات عمل صحيحة ومتوافق عليها , وليس هو الذي يحب أن ينفرد في العمل , أو أن يعمل وحيدًا . فمن المستحيل أن تتحقق الأهداف الكبيرة , والمشاريع الضخمة , من خلال الأعمال أو الآراء الفردية , أو المرتجلة وغير المدروسة .

الدرس الرابع : أن القائد يجب أن يكون مستمعا جيدًا , وموضوعيًا في أحكامه , وأن لا ينطلق من ذاته في آرائه ومواقفه ، وإنما يجب أن ينطلق في جميع ذلك ، من رسالته ومبادئه وأهدافه التي آمن بها وأخلص إليها.

الدرس الخامس: يدور حول مجيء الهدهد بهذا النبأ دون غيره من العاملين مع نبي الله سليمان ( ع ) من الأنس والجن, وفيه عدة فوائد, أذكر منها :

الفائدة الأولى: امتحان الله لنبيه سليمان ( ع ) لكي تتصاغر إليه نفسه, ولا يداخله الإعجاب بنفسه. أي لكي يتواضع إلى الله جل جلاله ، وإلى الحقيقة ، وإلى الناس .

الفائدة الثانية : التنبيه إلى أهمية توظيف جميع الطاقات في فريق العمل , وأن القائد الناجح هو الذي يفعل ذلك .

الفائدة الثالثة : تذكير الله تعالى لنبيه سليمان ( ع ) بنعمه وفضله عليه, لكي يشكره ويخلص إليه في العبادة, ولا يشغله الملك عن ذلك. .

ومن دلالات هذه الآية الشريفة المباركة ، أنها تدل على عدة صفات جميلة وحسنة , يتحلى بها نبي الله سليمان ( ع ) منها : التواضع , والحلم , والمحبة ، والتسامح , والمرونة , والعدالة , والتفهم !! إلى جانب الهيبة والحزم التي هي من لوازم الملك والسلطان . وهذا ما ينبغي أن يتحلى به القادة دائمًا.

وفي نهاية المطاف : في الوقوف مع الآيات الشريفة المباركة , أتناول باختصار شديد البعد الذي وعدت به في بداية الحديث من الجانب الفكري العقائدي , الذي يدور حول القدرة العقلية الاستيعابية لدى الهدهد ، لأوضاع المجتمع الإنساني الدينية والسياسية والاجتماعية وغيرها .

أولا : من الواضح جدا لدى البصير ، بأن ما أخبر به الهدهد كان من الأمور المحسوسة التي لا تعد الاحاطة بها فظيلة علمية ، ولا الغفلة عنها نقيصة علمية وبالتالي لا يوجد تفوق علمي لذا الهدهد على نبي الله سليمان ( ع ) وكل ما في الأمر أن الهدهد قد أخبر نبي الله سليمان (ع) بما لم يُخْبَر به أو يسمع عنه من قبل ، وليس في ذلك أي منقصة لنبي الله سليمان (ع) ، أو أي فضيلة يتفوق بها الهدهد على نبي الله سليمان (ع) ، غير أن الهدهد قام بأحد واجباته .

والدرس الذي يمكن أن نستفيده من ذلك : أن القائد ينبغي له أن يقوم بدور الإرشاد والتوجيه العام لفريق العمل ، وأن الأعضاء يزودونه بالمعلومات التي يحتاجها لممارسة دوره في القيادة ، وأنه لا يوجد قائد في الأرض يستغني عن ذلك ، وأنه يجب أن يكون بين القائد وفريق العمل تعاون وتكامل في الأدوار .

ثانيا : أن الإحاطة بالأمور التي أنبأ بها الهدهد نبي الله سليمان (ع) ، هي بطبيعة الحال فوق قدراته الإدراكية العادية ، فكيف أستطاع أن يقوم بكل ذلك ؟

والجواب على ذلك باختصار شديد ، وبدون الدخول في التفاصيل المعقدة : أن ذلك كان بطريق الإلهام الإلهي له ، وأن الله على كل شيء قدير ، فأن الله جل جلاله قادر على إنطاق الحجر ، والجلود والأعضاء التي تشهد على أصحابها يوم القيامة : (( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ، قالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء )) . صدق الله ألعلي العظيم .

أما فهم نبي الله سليمان ( ع ) للغة الطير ، فهي كما قلت جزء من تأهيل الله جل جلاله لخلفائه في الأرض ، الذين أختارهم لهداية البشرية وقيادتهم إليه جل جلاله ، وزودهم بكل ما يحتاجون إليه في مهماتهم ويساعدهم على ذلك .

أكتفي بهذا المقدار من الوقوف مع الايات الشريفة المباركة ، وأنتقل بعدها إلى الحديث السياسي عن ساحتنا الوطنية …..

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ( وَتفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ )

كان من المفترض ، أن تكون هذه الآيات الثلاث من سورة النمل ، هي موضوع حديثنا الديني لهذا الأسبوع ، ولكني رأيت أن أكتفي في هذا الأسبوع بالحديث السياسي . ومن أجل الفائدة ، والقربة إلى الله جل جلاله ، فقد كتبت الخطاب الديني ، وسوف ينزل على الموقع ظهر هذا اليوم إن شاء الله تعالى ، وفيه الكثير من الدروس والعبر المهمة لنا في حياتنا ، فيمكنكم الرجوع إليه في الموقع .

الخطاب السياسي: بيان الصرخة

يدور هذا الأسبوع أيضا حول قضية الشغب والتخريب في شارعي المعارض والفاتح ، في الاحتفالات برأس السنة الميلادية ، وهي القضية التي لازالت جميع الأوساط الشعبية والرسمية ، تتفاعل معها بقوة ، وأفضل ما قرأته حتى الآن حول الموضوع ، ما كتبه سماحة العالم السيد كامل الهاشمي ، في جريدة الوسط في يوم الثلاثاء ، بتاريخ : 4 / ذو القعدة / 1423هـ الموافق : 7 / يناير / 2003م ، العدد : ( 123 ) تحت عنوان : ( أزمتنا في التعامل مع الأزمات ) ، وأنصح إخواني والمهتمين بالشأن العام البحريني ، أن يقرءوا هذا المقال القيم جدا .

أعود إلى أصل الموضوع فأقول : لم يكن أحد من العقلاء المهتمين بالشأن العام والمراقبين للوضع البحريني ، يظن عقلائيا ، أن تلصق المسئولية عن أحداث التخريب والشغب ، في شارعي المعارض والفاتح في احتفالات رأس السنة الميلادية الجديدة .. أن تلصق مسئولية ذلك بالمعارضة والحركة المطلبية ، لاسيما التيار الإسلامي بشقيه الشيعي والسني !! لكننا وجدنا حملات إعلامية وسياسية مسعورة ، وكأنه قد مسها طائف من الشيطان ، تحاول ومنذ البداية ، وقبل أن تظهر نتائج التحقيق في القضية ، بل قبل أن يبدأ التحقيق ، تحاول تحميل المعارضة لاسيما التيار الإسلامي الشيعي مسئولية ذلك !! مما يدل على أنها حملات مغرضة ومهندسة مسبقا ، وذات نوايا شريرة ، تريد سوءا بالوطن ، والطائفة الإسلامية الشيعية في البلاد ، وهذا مما يدل أيضا على أن كل هذا الدخان السياسي الأسود : التخريب والحملات الإعلامية والسياسية المسعورة ، يصدر من تنور سياسي واحد قديم ، لازال يعمل بالفحم والخشب في عصر الذرة ، لم يتهدم بعد .

إننا نجد أنفسنا في هذه الأحداث أمام مفاجأتين غريبتين ، هما :

المفاجأة الأولى : أحداث الشغب والتخريب بحجمها ونوعها ، وفي هذا التوقيت بالذات ، أعني في احتفالات رأس السنة الميلادية ، وفي الظروف السياسية التي تمر بها البلاد .

المفاجأة الثانية : المحاولات المحمومة للصق التهمة وتحميل المعارضة مسئولية ذلك ، لاسيما التيار الإسلامي الشيعي ، ومن الوهلة الأولى ، وقبل ظهور نتائج التحقيق ، بل حتى قبل أن يبدأ التحقيق .

وقد ذُكرت الكثير من التفاصيل حول هذا الموضوع ، أستغني عن ذكرها جميعا بذكر أربع نقاط أرى أهميتها ، وأرجو أن تسترعي اهتمامكم وانتباهكم إليها ، وهي :

النقطة الأولى : أن أعداء الإنسان والدين والوطن ، والمتضررين من الحركة الإصلاحية التي بدأها جلالة الملك ، والتي كنا نطمح أن تستمر ، لكن القدر كان لها بالمرصاد . إن هؤلاء يدركون ثقل وأهمية التيار الإسلامي الشيعي في الساحة ، ودوره المحوري في إنجاح وتطوير الحركة الإصلاحية ، لهذا وجهوا للتيار ورموزه الدينية والسياسية السهام المسمومة ، من أول فرصة سنحت لهم بذلك ، ولازالت نفس الوجوه ، ونفس الأقلام ، تحاول ذلك ، وسوف تستمر حتى يحكم الله بين الظالم والمظلوم ، وهو أحكم الحاكمين ، وأشد المعاقبين ، قال الله تعالى ، في محكم كتابه المجيد : ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ …) الأنفال- الجزء التاسع

إنني أرى بأن هذا الظلم ، لن يمر دون عقاب إلهي من هؤلاء الظالمين ، في الدنيا قبل الآخرة !! إنهم يرونه بعيدا ، ونراه قريبا ، فليحذروا .

قال الله تعالى : ( فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) هود- الجزء الثاني عشر ، صدق الله العلي العظيم .

النقطة الثانية : أن الشيعة هم ضحية لتمييز طائفي بشع ، لا يختلف حول وجوده اثنان من المنصفين العقلاء ، وقد تحدثت القوى السياسية هنا عندنا في البحرين على مختلف مشاربها عن ذلك ، وطالبت بإلغائه وتجريمه . ولكن بدلا من الدفع بهذا الاتجاه ، والاستجابة إلى هذه الإرادة الشعبية والوطنية ، بدلا من ذلك : نجد أن البعض يسعى لإقحام الوطن في وضع طائفي أخطر من مجرد ممارسة التمييز الطائفي بين أبناء الوطن الواحد . إننا نجد في الحملة الإعلامية والسياسية الجديدة المسعورة ، التي صاحبت تناول قضية الشغب والتخريب في شارعي المعارض والفاتح ، في الاحتفالات برأس السنة الميلادية الجديدة ، ما هو أخطر من ذلك بكثير !! وجدنا فيها التحريض على الكراهية والعداء بين الطائفتين ، من خلال السعي المحموم ، إلى إقناع إحدى الطائفتين بمسئولية الطائفة الأخرى عن الأحداث ، وأنها فعلت ذلك بهدف الإساءة إلى الوطن ومكتسباته ، بالتواطؤ مع الأجنبي !! إنها محاولات شيطانية تهدف إلى إشعال النار الطائفية بين المواطنين ، من أجل التغطية على ممارسات شيطانية أخرى ، تستهدف وحدة وسلامة الوطن .

إنني واثق من وعي وإخلاص المواطنين ، وأنهم أسمى وفوق الحقد الطائفي على بعضهم . إني واثق بأن مصير جميع هذه الحملات هو الفشل ، وأنها لن تنجح في تحقيق أهدافها الشريرة ، التي تريد الإساءة إلى الوطن ، وإلى الشعب المسلم المسالم النبيل ، ولكن أولئك النفر من أصحاب النفوس المريضة ، والدوافع الشيطانية ، وهم قلة ، يجب أن يعرفهم الشعب المسلم ، ويعرف أطروحاتهم ليكون منهم على حذر .

وفي الوقت الذي أؤكد فيه على قدرة هذه الطائفة المسلمة المسالمة المظلومة في الدفاع عن نفسها ، بالأساليب السلمية المشروعة ، ضد أولئك النفر الظالمين ، فإني أتوجه بالخطاب أولا إلى جلالة الملك بصورة خاصة ، لموقعيته في الدولة ، ورعايته لجميع أبناء شعبه ، الذين ائتمنه الله جل جلاله عليهم جميعا بدون تمييز أو تفريق بينهم ، ونقول لجلالته : بأننا نجد هنا عندك في البحرين : بأن طائفة كبيرة من أبناء شعبك ، يتعرضون في كل يوم للإساءة والمهانة ، وتشويه السمعة ، والتحريض الطائفي ضدهم ، دون جرم ارتكبوه ، على أيدي جناة قصدوهم بذلك ظلما وعدوانا بغير الحق ، وبدون سلطان مبين ، وإنهم لينتظرون من جلالتكم كلمة ، وينتظرون منكم موقفا ، يعيد إليهم الاعتبار ، وحق المواطنة في البلد الآمن ، تحت رعايتكم الكريمة ، فأنتم الملاذ الأخير إليهم في محنتهم ، بعد الله جل جلاله ، وهم من رعيتكم ، والله جل جلاله سائلكم عنهم يوم القيامة .

وأوجه الخطاب ثانيا : إلى كافة أبناء الشعب المسلم المسالم ، ولاسيما إخوتنا في العقيدة ، أهل السنة والجماعة ، وإلى كافة القوى السياسية في البلاد ، بأن يحذروا من أولئك النفر المغرضين ، ويحذِّروا منهم ، وأن يقفوا منهم موقفا إسلاميا وطنيا موحدا ، من أجل المحافظة على وحدة الشعب المسلم المسالم ، الإسلامية والوطنية ، وأن لا يتركوا لهم فرصة الإساءة للوطن ، وسمعة المواطنين ، وإشعال نار الفتنة الطائفية المهلكة طلابها ، وتهديد أمن الوطن واستقراره ، وحرق مكتسبات المواطنين المادية والمعنوية ، التاريخية والمعاصرة ، التي اكتسبوها عبر معاناة طويلة ، بذلت من أجلها الأجيال ، العرق والدمع والدم . وإن أملي فيهم لكبير ، بأن أرى نتائج هذا الخطاب في سلوكهم وفي واقعهم الحي المتحرك ، الإسلامي والوطني ، ولسوف يموت أولئك النفر السيئ بغيظهم ، وقد ذهبت أحلامهم أدراج الرياح ، بفضل إيمان ووعي هذا الشعب المسلم المسالم النبيل .

النقطة الثالثة : من الناحية المنطقية الخارجية ، فإنه مع الانقلاب على الدستور الشرعي ، وميثاق العمل الوطني ، والفشل في إقناع الشعب والمعارضة ، بتقبل الانقلاب والانصياع إليه ، وتحرك الشعب والمعارضة لإصلاح الخلل ، في المسالة الدستورية والوضع السياسي ، واختيارهم للنهج السلمي لتحقيق أهدافهم الوطنية المشروعة ، فإن ترك الفرصة للشعب وللمعارضة ، للعمل السياسي السلمي ، فإن الشعب والمعارضة سوف ينجحان حتما في تحقيق أهدافهما ، لاسيما أن إلغاء دستور 73 ، ووضع دستور المنحة الجديد ، تم بآليات غير دستورية ، وأن المعارضة في وضع قوي جدا من هذه الناحية ، وتمتلك دعما جماهيريا واسعا ، وأن لها علاقات جيدة ، وخبرة في توصيل رأيها إلى الأطراف الدولية ، ذات الشأن والشرعية . وبالتالي فإن الأطراف المتضررة من الحركة الإصلاحية ، التي بدأها وقادها جلالة الملك ، والتي تريد أن تستمر السياسة الانقلابية ، والوضع الانقلابي على الدستور ، وميثاق العمل الوطني ، هذه الأطراف لابد لها أن تعمل من أجل قطع الطريق على المعارضة ، قبل أن تنجح في تحقيق أهدافها المشروعة .

ومن هذه المحاولات الخيارات الثلاثة التالية ، وهي :

الخيار الأول : أن تسعى هذه الأطراف المتضررة من الإصلاحات ، إلى جر الشعب والمعارضة إلى العنف ، وقد أصبح من الواضح جدا ، أن مصير هذه المحاولات المشئومة إلى الفشل . وذلك لأن الشعب والمعارضة قد أصبحا بصيرين ، بمنهجهما السلمي في المطالبة بحقوقهما الوطنية المشروعة ، وضرر العنف على المسيرة الوطنية ، وحرق كل المكتسبات التي حققتها الأجيال ، بعرقها ودموعها ودمائها الغالية . إن كل تلك المحاولات الشيطانية ، إذا وجدت لن تفلح في تحقيق أهدافها ، وسوف تتحطم على صخرة إيمان ووعي شعبنا المسلم المسالم الوقور . وأيضا : فإن تلك الأصوات النشاز الغبية أو المغرضة ، التي تدعو إلى العنف ، والعودة إلى المربع رقم واحد كما يسمونه ، قد أصبحت واضحة البطلان . وقد أثبتت تجربة الشغب والتخريب ، في احتفالات رأس السنة الميلادية الجديدة ، قد أثبتت تلك التجربة بطلان هذه الدعوة المشئومة ، وضررها على المسيرة الوطنية ، وقطعها الطريق على الحركة المطلبية السلمية ، التي من شأنها أن تحقق الأهداف المشروعة لأبناء الشعب ، وأصبح من الواضح جدا ، أن تلك الأصوات تصب في نفس الاتجاه المعادي للحركة الإصلاحية والمصلحة الوطنية في البلاد .

الخيار الثاني : أن تفتعل تلك الأطراف الشريرة العنف ، أو تستثمر أي شكل من أشكاله ، يحدث في الساحة لأي سبب من الأسباب ، ومن أي طرف كان ، لتحميل المعارضة والحركة المطلبية المسئولية عن ذلك ظلما وعدوانا . إلا أنني أعتقد ، بأن تلك المحاولات الشيطانية إذا حدثت ، فسوف تكون مكشوفة ، وسوف يكون مصيرها الفشل الذريع ، فلن يقبلها العقلاء المنصفون والشرفاء . وذلك بسبب وضوح المنهج السلمي الذي تنتهجه المعارضة ، وعلاقته بالمصلحة الوطنية ، والأهداف المعلنة أكيدة الثبوت ، للمعارضة والحركة المطلبية ، التي ناضلت وضحت من أجلها لعدة عقود ، ولتوازن المصالح المتعارضة في ساحة العمل السياسي والوطني . لهذا كله لن تنجح الحملات الإعلامية والسياسية المسعورة الحالية ، في تحقيق أهدافها ، وسوف يكون مصيرها الفشل الذريع ، وإني أعتقد أنها دليل على غباء القائمين عليها ، وخطأ حساباتهم . إنني أرى أن الظاهر من نشاط القائمين على هذه الحملات الإعلامية والسياسية المسعورة الظالمة والأنانية ، أنهم لازالوا يحسبون الأمور بالخرز في عصر الحاسوب الآلي .

الخيار الثالث : أن تفتعل تلك الأطراف الشريرة العنف ، أو تستثمر أي شكل من أشكاله ، يحدث في الساحة لأي سبب من الأسباب ، ومن أي طرف كان ، لكي تصدر قوانين تقطع الطريق على المعارضة ، وتحرمها من حقها في التعبير عن رأيها ، ومن الممارسات السلمية للمطالبة بحقوقها الوطنية المشروعة ، معولة في ذلك على الوضع الحالي للبرلمان ، الذي قاطعته القوى السياسية الرئيسية ، والرموز الوطنية الكبيرة ، ذات الخبرة والنضال الوطني المرير ، لتمرير تلك القوانين ، فالبرلمان الحالي بما هو عليه من جميع الوجوه ، مهيأ لذلك تماما .

النقطة الرابعة : ما جاء في جريدة الوسط ، في يوم الأربعاء : بتاريخ : 5 / ذو القعدة / 1423هـ الموافق : 8 / يناير / 2003م ، العدد ( 124) على الصفحة الأولى ، تحت عنوان : ( سيناريوهات لتوجيهات اتهامات ” حوادث المعارض ” إلى جهات معارضة ) بقلم الكاتب : عباس بو صفوان .

قال : أشارت مصادر مطلعة إلى أن الجهات الأمنية ، تتداول عدة سيناريوهات ، عن منفذي شغب المعارض والفاتح ، في ليلة رأس السنة الميلادية ، وتخشى تلك المصادر ، توجيه اتهام إلى ” جهات إسلامية معارضة قاطعت الانتخابات النيابية بصلابة ” وكانت من ” قيادات حركة التسعينات المطالبة بالديمقراطية ” على أنها هي التي ” رتبت الأجواء لافتعال التجمع والتخريب بدعم خارجي ” .

إذا كان ذلك صحيحا !! فهذا أسوأ ما يمكن أن يصل إليه المخيل المريض بدوافعه الشريرة . أقول : لو كان هناك منطق سوي ، فإن هذا المخيل أبعد ما يكون عن الواقع وعن التصديق ، أما إذا كان المخيل غبي ومريض ، وذو نوايا سيئة وشريرة ، ولا يقوم على أي أساس منطقي سليم ، ولا يلتزم بأي حدود للمصلحة الوطنية ، أقول : إذا كان الأمر كذلك ، فلا تستبعدوا أن يصدر من هذا المخيل القول ، بأن آية الله فلان !! كان في شارع المعارض ، وأنه كان يكسر الحصى بيده ، ويضعها في أيدي المراهقين في أحداث الشغب ، في رأس السنة الميلادية الجديدة !!! لا تستبعدوا ذلك إذا صدر عن هذه المخيلة المريضة الفاسدة مثل هذا القول ، فهي لا تستند إلى منطق العقلاء ، ولا تقف عند أي حد من حدود المصلحة الوطنية ، فكل ما يهمها في الأمر ، أن ترضي غرورها ، وتلبي رغباتها ودوافعها الشريرة .

من الواضح جدا أن المقصود من تلك التلميحات والإشارات ، هم رموز من المعارضة في التيار الإسلامي الشيعي بالتحديد ، ناضلت وضحت من أجل الوطن ورفعته وازدهاره ، ومن أجل المصلحة الوطنية العزيزة ، وقد تضررت تلك الأطراف السيئة السمعة ، من نضالات وتضحيات هؤلاء المناضلين الشرفاء ، وما تحقق بسبب نضالاتهم وتضحياتهم من مكاسب ومصالح وطنية ، في ظل الحركة الإصلاحية ، التي بدأها وقادها جلالة الملك ، وقد أغاظهم ذلك كثيرا ، فلجئوا إلى هذه الأساليب الوقحة في الظلام ، بعيدا عن الشرعية القانونية والسياسية ، وبعيدا عن مسمع ومرأى الجماهير الشريفة ، التي ضحت وصبرت ووقفت إلى جانب أولئك الرموز الوطنية والإسلامية المجاهدة .

وأنا أتحدى كل هذه الأطراف ، التي تروج لهذه الأكاذيب الشريرة ، أن تكشف عن نفسها ، وتظهر للعلن ، وتصرح أمام الشعب بهذه الافتراءات الشريرة الظالمة . إنني أعلم يقينا بأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك ، لأنهم أغبياء وجبناء ومفترون ، ولا يستطيعون الظهور إلى النور ، إنهم لا يستطيعون العيش في الأجواء الفكرية والسياسية الصحية ، إنهم يعيشون ويعملون دائما في الأجواء والبيئات الموبوءة ، التي تستخدم سلاح الإشاعة الخبيثة المغرضة ، لتحقيق أهدافهم غير المشروعة ، على حساب المصالح الوطنية الجوهرية ، يفعلون ذلك ، بعيدا عن الشرعية القانونية والسياسية ، وبعيدا عن الرقابة الجماهيرية ، الرافضة والمتضررة من ممارساتهم الشيطانية الخبيثة .

ومن جهة ثانية : إن سمو رئيس الوزراء – كما نقل عنه أنور عبد الرحمن – في عموده يوم أمس الخميس ، في جريدة أخبار الخليج ” أكد على أن الأحداث مدبرة ” وكذلك فعل سعادة الدكتور عبدالعزيز عطية الله ، في خطابه أمام أعضاء مجلس الشورى ، حيث قال عن الأحداث بأنها مفتعلة ومقصودة ، ووصفها بأنها جريمة في حق الوطن والمواطنين .

أنا بكل تأكيد وحزم ، أوافق سعادة الدكتور ، في وصفه للأحداث بأنها جريمة في حق الوطن والمواطنين . وبناء على ما نقل عن سمو رئيس الوزراء ، وما ذكره سعادة الدكتور ، بأن أحداث الشغب والتخريب ، في احتفالات رأس السنة الميلادية الجديدة ، كانت مفتعلة ومقصودة ومدبرة ، بناء على ذلك : فإن من حق الشعب على الحكومة ، أن تكشف أسماء الذين يقفون وراء هذه الجريمة البشعة المدبرة ، التي أرادت أن تطفئ آخر وأفضل شمعة في ساحة الحركة الإصلاحية ، وهي حرية الرأي والتعبير ، وحرية التجمع والمطالبة بالحقوق المشروعة بالأساليب السلمية .. إن من حق الشعب على الحكومة ، أن تكشف لهم أسماء أولئك المجرمين في حق الوطن والمواطنين ، إننا نطالبها بذلك ، ونطالبها بأن تقدمهم للمحاكمة العلنية ، وتنزل بهم أشد العقوبة ، من أجل صيانة سمعة الوطن والمواطنين ، ومن أجل المحافظة على المكتسبات المادية والمعنوية ، التاريخية والمعاصرة ، ونحن جميعا مع الحكومة الموقرة يدا بيد في ذلك ، إن هي فعلت ، ويجب عليها أن تفعل ، لأن التستر على هؤلاء المجرمين جريمة .

وفي الختام ، أؤكد على أمرين ، وأذكر :

الأمر الأول : أن ما يحدث من ترويج الإشاعات والأكاذيب حول مسئولية المعارضة ، ولاسيما التيار الإسلامي الشيعي ، وبالأخص رموزه المجاهدة ، بهذه الأساليب البشعة ، بعيدا عن الشرعية القانونية والسياسية ، هي جريمة يجب أن نتصدى لها جميعا ، قبل أن تفسد علينا حياتنا ، ووحدتنا الوطنية ، فإن أهدافها الشريرة ، واضحة لكل ذي بصيرة ، ومن الواجب علينا إنسانيا ودينيا ووطنيا أن نوقفها عند حدها ، قبل أن تصل إلى تحقيق أي من أهدافها المشبوهة الخبيثة.

الأمر الثاني : لتعلم كافة تلك الأطراف الشريرة ، بأن المعارضة قد اختارت طريقها ، وحددت أهدافها الوطنية المشروعة بدقة ، وتسعى لتحقيقها بالنهج السلمي الحضاري المشروع ، وفقا للمواثيق الدولية المتعارف عليها ، وإنها لواعية بكافة الألاعيب والدسائس الماكرة والشيطانية الخبيثة ، التي لا تؤمن بقيم أو مبادئ إنسانية أو دينية أو وطنية ، ولا تقوم على أي أساس مشروع ، ولا يصرفها أي شيء من المنطق أو المصالح الوطنية ، عن أهدافها غير المشروعة ، لا يوقفها إلا الضرب على أيديها الآثمة بقوة القانون ، والرقابة السياسية والجماهيرية الفاعلة ، وأجزم بأن المعارضة ستبقى ماضية في طريقها على بركة من رب العباد ، وأنها مستعدة لتقديم الثمن ، ولدفع مهر عروس الجنة .

وأذكر في ختام هذا البيان ، جلالة الملك : بأننا نجد هنا عندك في البحرين ، بأن طائفة من أبناء شعبكم ، يتعرضون في كل يوم للإساءة والمهانة ، وتشويه السمعة ، والتحريض الطائفي ضدهم ، دون جرم ارتكبوه ، على أيدي جناة قصدوهم بذلك ظلما وعدوانا بغير الحق ، وبدون سلطان مبين ، وإنهم لينتظرون من جلالتكم كلمة ، وينتظرون من جلالتكم موقفا ، يعيد إليهم الاعتبار ، وحق المواطنة في البلاد الآمن ، تحت رعايتكم الكريمة ، فأنتم الملاذ الأخير إليهم في محنتهم بعد الله جل جلاله ، وهم من رعيتكم ، والله جل جلاله سائلكم عنهم يوم القيامة .

أكتفي بهذا المقدار ، وأستغفر الله لي ولكم ، وأسأل الله جل جلاله أن يجنب هذا الوطن الآمن ، وهذا الشعب المسلم المسالم النبيل ، كل شر مستطير ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،

بتاريخ 7/ ذو القعدة /1423هـ – الموافق 10 / 1 / 2003 م

في مسجد الشيخ خلف في قرية النويدرات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى