قراءة في بيانات الثورة – استجابة النداء

المناسبة : لما نزل الإمام الحسين
( عليه السلام ) في مكة المكرمة ، كتب إليه أهل الكوفة أفرادا وجماعات كتبا كثيرة
، يطلبون منه القدوم إليهم ، لأنهم ( كما يقولون ) بغير إمام ، فهم لم يجتمعوا مع
والي يزيد ( النعمان بن بشير ) في جمعة ولا جماعة ، وأنهم لا يريدون غير الإمام
الحسين ( عليه السلام ) حاكما عليهم ، وأنهم جند له مجندة ، وكان من الذين كتبوا
له : قادة سياسيون ووجهاء في الكوفة ، حتى بلغ عدد الكتب التي اجتمعت عنده ما يقرب
من ( اثنا عشر ألف كتاب ) فكتب إليهم الكتاب التالي :
نص البيان : ”
بسم الله الرحمن الرحيم . من الحسين بن علي ، إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين ..
أما بعد : فإن هانئا وسعيدا ( هاني بن هاني السبيعي ، وسعيد بن عبد الله الحنفي )
قدما علي بكتبكم ، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم
.. ومقالة جلكم : أنه ليس علينا إمام ، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق
، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي ، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم ،
وأمركم ، ورأيكم ، فإن كتب أنه قد اجتمع رأي ملأكم ، وذوي الفضل والحجى منكم ، على
مثل ما قدمت علي به رسلكم ، وقرأت في كتبكم ، أقدم إليكم وشيكا .. إن شاء الله .
فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط ، والدائن بالحق ، والحابس
نفسه على ذات الله .. والسلام ” ( البحار . ج 44 . ص 334 ـ 335 ) .
وقد دفع الكتاب إلى ابن عمه ( مسلم بن عقيل ) وبعثه إليهم ومعه ( قيس بن مسهر الصيداوي
) و ( عمارة بن عبد الله السلولي ) و ( عبد الرحمن بن عبد الله الازدي ) وأوصاه
بوصاياه وفي مقدمتها تقوى الله ( عز وجل ) .
وكان خروج ( مسلم بن عقيل ) من مكة بتاريخ ( 15 / رمضان / 60هـ ) الموافق ( 21 /
يونيو ـ حزيران / 680م ) ووصل الكوفة بعد مشقة وتعب بتاريخ ( 5 / شوال / 60هـ )
الموافق ( 10 / يوليو ـ تموز / 680م ) وقد طوى في سفره عدة مراحل ( أي أن سفره لم
يكن من مكة إلى الكوفة مباشرة ) ونزل في دار ( المختار بن أبي عبيد الثقفي ) وهو
من خواص شيعة أهل البيت ( عليهم السلام ) وأوثق أهل الكوفة ومن أشجع رجالها .
قراءة في البيان : لقد تضمن البيان الكثير من
الحقائق والأفكار .. وهي كالتالي :
أولا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” أما بعد : فإن هانئا وسعيدا قدما علي
بكتبكم ، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم ..
ومقالة جلكم : أنه ليس علينا إمام ، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق
” .
يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :
النقطة الأولى : الإشارة إلى كتب ورسل أهل الكوفة إلى الإمام الحسين ( عليه
السلام ) وكان آخر الكتب التي حملها الرسولين إليه .. وهما : ( هاني بن هاني
السبيعي ، وسعيد بن عبد الله الحنفي ) وخلاصة كتبهم : عدم اجتماعهم على خلافة (
يزيد بن معاوية ) وواليه على الكوفة ( النعمان بن بشير ) .
النقطة الثانية : طلب أهل الكوفة من الإمام الحسين ( عليه السلام ) القدوم
إليهم .
النقطة الثالثة : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) في تشخيص أهل الكوفة هو
إمام من أئمة الهدى ، من شأنه أن يجمعهم على الحق ويأخذ بهم في طـريق الرشـد
والهداية إلى اللـه ( تبارك وتعالى ) .
واستنادا إلى العقيدة والتجربة العملية والأخبار : لم يكن الإمام الحسين ( عليه
السلام ) بأقل بصيرة بتاريخ أهل الكوفة وأحوالهم وشؤونهم من الذين حذروه من الذهاب
إليهم ، ولا أقل علما بأحاديث الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم )
التي استند إليها بعضهم في تحذيره منهم ، ومع ذلك لم يظهر في كتابه إلى أهل الكوفة
الشك فيهم ، ولم يسأ الظن بهم ، ولم يجرحهم بكلمة واحدة ، وكان رده على كتبهم
هادئا وجميلا وفي غاية الاتزان والشعور العميق بالمسؤولية الدينية والاجتماعية
نحوهم .
ونخلص من ذلك : أن القائد الرسالي لا يشكك في نوايا الناس ، لكي يتخذ من ذلك مبررا
للتقاعس عن الجهاد والتخلي عن أداء دوره وتكليفه في المجتمع ، وإنما يبحث عن الفرص
التي تتهيأ له ليقوم بدوره ويؤدي تكليفه الشرعي في المجتمع لخدمة الدين والإنسانية
.
ثانيا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من
أهل بيتي ، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم ، وأمركم ، ورأيكم ، فإن كتب أنه قد اجتمع
رأي ملأكم ، وذوي الفضل والحجى منكم ، على مثل ما قدمت علي به رسلكم ، وقرأت في
كتبكم ، أقدم إليكم وشيكا .. إن شاء الله ” .
يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :
النقطة الأولى : إرسال مبعوثه الخاص إلى أهل الكوفة ، وهو ابن عمه ( مسلم
بن عقيل ) .
النقطة الثانية : تحديد المهمة التي سوف يقوم بها مبعوثه الخاص في الكوفة
بدقة ، وهي استطلاع حالهم والتأكد من صدق موقفهم الذي كتبوا به إلى الإمام الحسين
( عليه السلام ) .
النقطة الثالثة : أن مبعوثه الخاص إلى أهل الكوفة وهو ( مسلم بن عقيل ) هو
ثقته ويمتلك الكفاءة المطلوبة لأداء المهمة .. وعليه : يمكنهم الانفتاح عليه بصورة
كاملة ، ويصارحوه بكل ما لديهم .
النقطة الرابعة : إذا جاء تقرير مبعوثه الخاص إليهم مطابقا لما جاء في
كتبهم ، فإنهم سوف يقدم عليهم سريعا بدون تأخير .
وتدل خطوة الإمام الحسين ( عليه السلام ) بإرسال مبعوثه الخاص إلى أهل الكوفة
على أمور عديدة .. منها :
الأمر الأول : أنها تثبت جدية الإمام الحسين ( عليه السلام ) وحذره
وواقعيته في الاستجابة لطلب أهل الكوفة . فهو لم يتخلف عن الاستجابة ، ولم يذهب
إليهم مباشرة ، وإنما بعث إليهم بوكيل خاص عنه ، ذو كفاءة عالية لأداء المهمة ،
وأمره بأن يستطلع أمرهم ويكتب إليه بأحوالهم .. لكي يحدد موقفه النهائي حول طلبهم
منه قدومه عليهم .
الأمر الثاني : أنها تدل على مدى إخلاص الإمام الحسين ( عليه السلام )
وصدقه وإيمانه بقضيته ، ومدى استعداده للتضحية من أجلها . فهو ( عليه السلام )
يعلم أن المقام ليس مقام مكاسب ، وإنما هو مقام مخاطر وتضحيات ، حيث لم يتضح
الواقع ( ظاهرا ) بعد ، ومع ذلك قدم واحدا من خيرة أهل بيته وأصحابه .. وهو ابن
عمه ( مسلم بن عقيل ) .
ومما قاله ( عليه السلام ) له : ” إني موجهك إلى أهل الكوفة ، وسيقضي الله من
أمرك ما يحب ويرضى ، وأنا ارجوا أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء ، فامضي ببركة
الله وعونه .. فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها ” .
لقد أثبتت لنا التجارب التاريخية والمعاصرة : أن القيادات المبدئية التي تمتلك
إخلاصا وإيمانا وصدقا في القضايا التي تتبناها وتدعوا إليها ، أنها تقدم نفسها
والأقرباء في مقام التضحيات ، وتتأخر ، وتؤخر الأقرباء في مقام المغانم والمكتسبات
. أما القيادات الوصولية والكاذبة والمنافقة ، فهي تؤخر نفسها والأقرباء في مقام
المخاطر والتضحيات ، وتقدم نفسها والأقرباء في مقام المغانم والمكتسبات المادية ..
واعتبر أن هذا وذاك : من معايير الحكم على التأهل المعنوي للقيادات .
ثالثا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب ،
والآخذ بالقسط ، والدائن بالحق ، والحابس نفسه على ذات الله ” .
يكشف هذا المقطع من البيان عن أهم المواصفات المطلوب توفرها ( إسلاميا ) في الحكام
، ويدخل هذا المقطع في دائرة التأسيس الفكري والفقهي لتصحيح الموقف السياسي لأهل
الكوفة في رفضهم لبيعة ( يزيد بن معاوية ) وتطلعهم لإمامة الإمام الحسين ( عليه
السلام ) حيث لا تتوفر المواصفات المطلوب توافرها في الحاكم في ( يزيد بن معاوية )
وإنما تتوفر في الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
الجدير بالذكر : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) بنى الموقف في رسالته إلى
أهل الكوفة ، على التسليم بأهليته ( الشخصية ) إلى الخلافة وشرعية إمامته ، وعدم
شرعية خلافة ( يزيد بن معاوية ) وجواز الخروج عليه وإقصائه عن الحكـم بالقوة ،
وأنه ( عليه السلام ) يسعى ( من خلال مبعوثه : مسلم بن عقيل ) إلى توفير الإرادة
الاجتماعية الغالبة ( البيعة ) بهدف السيطرة على الحكم ، وإقامة النظام السياسي
العدل في مجتمع .
وهذا المقطع من البيان يدل ( إسلاميا ) على أمور عديدة .. منها :
الأمر الأول : جواز الخروج على الحاكم الظالم المستبد الذي لا يعمل بكتاب
الله ( تبارك وتعالى ) وسنة الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا
يحكم بين الناس بالعدل .
يقول عبد القادر عودة : ” من المتفق عليه أن عمل أولي الأمر صحيح طالما كان
في حدود حقه . باطل فيما خرج على هذه الحدود . فإذا أتى أولوا الأمر بما يتفق مع
نصوص الشريعة ومبادئها العامة وروحها التشريعية ، فعملهم تحق له الطاعة ، وإذا
أتوا بما يخالف الشريعة فعملهم باطل وكل ما كان باطلا لا يصح العمل به ولا يجب له
الطاعة ” ( الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه . ص 24 ـ 25 ) .
ويقول الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس : ” والإسلام حين أوجب على الرعية أن
تطيع ولاة الأمر فيها ، لم يجعل هذه الطاعة مطلقة من كل قيد ، ذلك لأن الطاعة
المطلقة تؤدي إلى الحكم الفردي الديكتاتوري المستبد ، ومن ثم تمسخ شخصية الأمة
وتتلاشى ، وهذا ما يأباه الإسلام ويرفضه رفضا قاطعا . لهذا فقد أوجب الإسلام على
الرعية أن تطيع أولي الأمر فيها ضمن دائرة معينة ، وحدود معلومة ، وقيود وشروط لا
بد منها ” .
ومن الشروط التي ذكرها :
أولا : أن يكون ولي الأمر مطبقا للشريعة الإسلامية .
ثانيا : أن يحكم بالعدل بين الناس .
ثالثا : ألا يأمر الناس بمعصية .
( النظام السياسي في الإسلام . ص 71 ـ 75 ) .
الأمر الثاني : أن الموقف الأولى للمسلم الحقيقي هو الثورة على الظلم
والاستبداد ومواجهة الضغوط والتحديات التي تواجهه في حياته الإسلامية والاجتماعية
، وعدم الخضوع والاستسلام للأنظمة الظالمة والمستبدة والقبول بالأمر الواقع ،
وخلافه استثناء يحتاج إلى تبرير عقلي واقعي وإلى رخصة شرعية من القيادة الإسلامية
الشرعية العليا .
الأمر الثالث : أن الأمة الإسلامية ( كأمة وأفراد ) مكلفة بطاعة الحاكم
العادل ونصرة القيادة الإسلامية الشرعية في الثورة ضد الظلم والانحراف والاستبداد
والفساد .
والخلاصة : أن الأمة تتحمل مسؤولية الحاكم ، فإذا كان الحاكم عادلا ، فيجب عليها
طاعته ، وإذا كان الحاكم جائرا ، فيجب عليها الوقوف إلى صف القيادة الشرعية العليا
للثورة عليه والإطاحة به .. وعليه : فإن القيادة الإسلامية الشرعية العليا (
الأنبياء والأوصياء والفقهاء العدول ) تتحمل مسؤولية الحكم .. وأيضا : مسؤولية
الثورة .