مخاوف موسى وهارون (ع) و برنامج الرسالة الإلهية الى فرعون

<وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُون>

فقال موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) لربهما: إننا نخاف أن فرعون الطاغية إذا عرف بغايتنا ومقصدنا فإنه يغضب علينا ويحمله غضبه على البطش بنا والتعجيل بمعاقبتنا قبل أن نبلغه بتمام الرسالة، وذلك لما عرف عن النظام الملكي الفرعوني من الدكتاتورية والاستبداد، وما عرف عن فرعون الذي هو رأس النظام من الطيش والقسوة والحمق والتجبر، بحيث لا يتمكن أي أحد من المواطنين المعارضين من التعبير الحر عن رأيه المخالف للنظام والمعارض لسياسته ومواقفه، فكل من يشعرون منه المخالفة في الرأي والمعارضة في المواقف، فإنهم يعاجلونه بالعقوبة ويبادرونه بالانتقام قبل أن يظهر رأيه وينتشر ويفسد عليهم الأمر.

<قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ>

فقال لهما ربهما تقوية لقلبيهما، وتأميناً لهما وتثبيتاً وتطبيباً لنفسيهما: لا تخافا أن يصيبكم شيء مما ذكرتما، فإني الخالق المدبر للعالم، ولا يخلو مني مكان، ولا يخرج شيء عن حولي وقوتي، فإني معكما حاضر في مجلس الدعوة وميدان المواجهة، وشاهد ومتابع لكل ما يجري بينكم ولا يغيب عني شيء منه، واسمع لما تقولان ولما يقال لكما، ولي كامل التوجيه وتمام العناية بأمركما وشأنكما والمتولي لحفظكما ونصركما على عدوي وعدوكما، ومثبت لكما في المواقف الصعبة، ولن أترككما أبداً، وعليه: فلن يضيق صدركما، ولن يحتبس لسانكما أمام العتاة والمردة المتجبرين والمخالفين الماكرين وغيرهم، وسوف تتمكنان من تبليغ الرسالة تامة وفي غاية البلاغة والوضوح، وسأحفظكما من بطش فرعون وملئه وقومه وسطوتهم، فلن يصلوا إليكما بسوء، ولن يصيبكما منهم أذى، وسأجعل لكما عليهم سلطاناً، وستكونان ومن اتبعكما الغالبين، فاذهبا مطمئنين، وامضيا في هذا السبيل النوراني الحق بعين وأقدام ثابتة وعزيمة راسخة لا تتزلزل، فأنتما تحت رعايتي وحمايتي.

<فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 16 أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ>

وامتثل موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) الأمر الإلهي وحملا الرسالة، وذهبا إلى فرعون في قصره وبلغاه مع ملئه الرسالة الإلهية، والتي كانت تتضمن النقاط الرئيسية التالية:

إنهما رسولان من عند الله رب العالمين ذي الجلال والإكرام وأنهما لا يقولان على الله سبحانه وتعالى إلا الحق، وأنهما مؤيدان من الله (عز وجل)، بما يثبت صدق نبوتهما ورسالتهما من البينات الواضحات والمعجزات الباهرات.

إن فرعون عبد من عباد الله خالق العالم ومدبره، وخالق فرعون ومالك أمره، وليس فرعون إلهاً أو رباً كما يزعم، وإن الله   (جل جلاله) يوبخهم لفرط ظلمهم وقلة خوفهم منه وتجاهلهم التام وجوده المقدس وعقابه، فلم يمتثلوا أوامره ولم يجتنبوا نواهيه، وهذا أمر مخالف للعقل والفطرة والطبع السليم، ويدعوهم إلى توحيده لأنه خالقهم ومدبرهم مع العالم بأسره، وأن إليه معادهم ومرجعهم في يوم القيامة للحساب والجزاء، فعليهم أن يتقوه ويتركوا ما هم عليه من العناد والكفر والظلم والمعصية، وأن يكف فرعون عن ادعاء الألوهية والربوبية وعن كل إدعاء باطل لا يستند إلى دليل صحيح وأن ينقادوا لطاعته وعبادته؛ لأن ذلك هو السبيل الوحيد إلى كمالهم الإنساني المقدر لهم بحسب خلقتهم، وإلى النجاة من الهلاك والعذاب الأخروي العظيم، والفوز بالرضوان الإلهي وبالسعادة الحقيقية والنعيم الأبدي الخالد في الجنة، فقد آن الأوان أن يعرفوا الحق ويعرفوا العاقبة السيئة للعناد والاستكبار والإصرار على الكفر والباطل والظلم والطغيان والفساد في الدارين الدنيا والآخرة، فقد حان وقت جرد الحساب في عالم الدنيا قبل عالم الآخرة.

ليس لفرعون وملئه وقومه الحق في أسر بني إسرائيل واستعبادهم وتعذيبهم باستخدامهم في الأعمال الشاقة وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم للخدمة والمعاشرة الجنسية فجوراً، وإن عليهم أن يرفعوا اليد عنهم ليعبدوا ربهم الذي خلقهم ويدبر أمرهم وإليه معادهم وعليه حسابهم وجزاؤهم في الآخرة، ويقيموا أمر دينهم بحرية وإخلاص، وأن يطلق سراحهم ويجعل لهم حرية الإقامة والهجرة والخروج معه إلى الأرض المقدسة فلسطين التي كتبها الله (عز وجل) لهم إذا شاؤوا.

ومع هذه الرسالة البليغة وما تضمنتها من منابذة شديدة شاملة: دينية وسياسية، وما فيها من غاية التسفيه للنظام الملكي الفرعوني، فإن فرعون رغم كل تجبره وطغيانه لم يتمكن من قتل موسى الكليم (عليه السلام) أو إلحاق الأذى والضرر به وبأخيه ووزيره وشريكه في النبوة والرسالة هارون (عليه السلام) مما يدل على شمول الرعاية الإلهية لهما وكمال العناية بهما وبأمرهما.

المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى