طلب موسى (ع) أن يشد الله أزره بأخيه هارون (ع)

<قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ 12 وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إلىٰ هَارُون>

ولما كانت مهمة حمل الرسالة مهمة صعبة وشاقة وحمل ثقيل جداً ومسؤولية عظيمة في نفسها وتاريخية؛ ولأن مواجهة فرعون الطاغية تستدعي رباطة الجأش والشجاعة والاستعداد التام ووضوح الرؤية، لما يتمتع به فرعون من القوة والقسوة والدولة العميقة، فقد أظهر موسى الكليم (عليه السلام) لربه مخاوفه، وسأله أن يشرح صدره باليقين ووضوح الرؤية ليستطيع تحمل ما يمكن أن يواجهه من صعاب ويسهل عليه الأمر ويثبت في الموقف أمام التهديدات والصعوبات والتحديات؛ لأن الصبر والثبات والتحمل يدور مدار اليقين وقوة الأمل ووضوح الرؤية والإيمان الصادق بالقضية، فلا يضعها في موضع المساومة عليها، أو يتخلى عنها تحت ثقل الصعاب والتهديدات والتضحيات، أو ينخدع عنها بالتضليل والتمويه والخداع، فهناك ثلاثة مخاطر تواجه المناضلين: الضعف تحت تأثير الإغراءات، والضعف تحت تأثير الصعاب والتهديدات والتضحيات، والانخداع مما يطرحه الثعالبة المخادعون من النفعيين والانتهازيين والمنافقين أو التضليل السياسي والإعلامي الذي يقوم به الأعداء وحبائلهم ومكائدهم الشيطانية للإيقاع بالمناضلين والسيطرة عليهم أو إخراجهم من حلبة الصراع ونحو ذلك.

وفي ظل ذلك، سأل موسى الكليم (عليه السلام) ربه أن يحل عقدة لسانه التي لم تكن عقدة في الجارحة، وإنما كانت عقدة في قوتها: النطق والكلام بسبب ما تقدم وما يأتي بيانه، وأن يرسل لأخيه هارون (عليه السلام) بالوحي، ليكون نبياً مرسلاً يقوي به قلبه وجناحه، ويكون مساعداً ومؤازراً ومعاوناً له في أمره: مواجهة الظالمين المستكبرين القساة، وحمل الرسالة الإلهية الشاقة وتبليغها على أكمل وجه، وأن ينوب عنه ويقوم مقامه إذا اعتراه الحبس في اللسان، أو عاجله فرعون بالقتل أخذاً أو ثأراً لدم القبطي، مما يؤكد أهمية التشاور والتفكير والقيادة الجماعية في إدارة الدولة والشأن العام وحمل الرسالات والتبليغ بها، لا سيما مع العودة إلى الماضي القريب، حيث عاش موسى الكليم (عليه السلام) وليداً في بيت فرعون وتربى فيه في حجر فرعون وزوجته الصالحة آسية بنت مزاحم رضوان الله تعالى عليها ولأنه قتل بالخطأ واحداً من الأقباط، حيث استغاث به الإسرائيلي على قبطي كان يتشاجر معه، فوكز موسى الكليم (عليه السلام) القبطي ليخلص الإسرائيلي منه، إلا أن الوكزة قتلت القبطي وقضت عليه لما كان يتمتع به موسى الكليم (عليه السلام) في شبابه من الفتوة والقوة.

وبسبب هذين الأمرين الذين قد يتحجج بهما فرعون وينحرف بإثارتهم عن القضية الرئيسية ويتخذ منهما حجة للتكذيب بالنبوة والرسالة، مما قد يؤدي إلى ضيق صدر موسى الكليم (عليه السلام) همّاً وغمّاً، وانحباس لسانه نوعاً ما عن الانطلاق لتبليغ الرسالة على أكمل وجه، وعن محاجة فرعون وملئه بقوة في الحق والعدل والخير والفضيلة، وربما سعى لقتله بدم القبطي متى رآه قبل أن يسمع منه الرسالة التي يحملها من رب العالمين إليه، فيقوم في حال حدث شيء من ذلك هارون (عليه السلام) مقامه في تبليغ الرسالة ومواجهة فرعون وتخليص بني إسرائيل من فرعون وقومه.

وعليه: لم يكن خوف موسى الكليم (عليه السلام) خوفاً على نفسه، وإنما خوفاً من التقصير والفشل في حمل الرسالة وتبليغها والقيام بالمهمة على وجهها الكامل، فالمطالب التي تقدم بها موسى الكليم (عليه السلام) لرب العالمين، هي مطالب تجسد حرصه الكامل على الامتثال بتوفير جميع شروط النجاح وإبعاد جميع العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى الفشل، وليس للتعلل والتهرب من التكليف ومن تحمل أعباء الرسالة وأداء الأمانة والرغبة في الاستعفاء منها.

والحرص على توفير شروط النجاح لامتثال التكليف ، والتعلل للتهرب من التكليف، حالتان نفسيتان وروحيتان متباينتان كل التباين ومختلفتان كل الاختلاف في الحقيقة والجوهر، وإن تشابهت مظاهرهما في أعين البسطاء الذين يفتقرون إلى البصيرة والنفوذ في معرفة حقائق الأمور، وعلى المخلصين والمناضلين الشرفاء التمييز بينهما والحذر من الاشتباه في أهلهما، فمن يريد الامتثال ويحرص على تحقيق النجاح يهتم كثيراً بتوفير جميع الشروط اللازمة لذلك وهو محق ولا بأس عليه، ومن يريد التعلل والتهرب من التكليف يبحث عن المعاذير الباطلة ويختلق الصعوبات ليخرج عن عهدة التكليف، مما يدل على ضعف الإيمان واليقين، ويجب التمييز بين الطائفتين من خلال الأفعال وليس الأقوال، فالأقوال توقع الإنسان في الاشتباه والأفعال والأحوال تخرجه إلى نور الحقيقة والصواب.

فالمطالب التي تقدم بها موسى الكليم (عليه السلام) لرب العالمين هي مطالب تجسد حرصه الكامل على الامتثال بتوفير جميع الشروط والقوة اللازمة للنجاح، وإبعاد جميع العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى الفشل، وليس للتعلل والتهرب من التكليف ومن تحمل أعباء الرسالة وأداء الأمانة والرغبة في الاستعفاء منها.

وما سيق يدل على ضرورة الأخذ في التحرك الرسالي والثوري والإصلاحي بعين الاعتبار جميع الأبعاد والأحوال والظروف والعوامل المؤثرة سلبياً وإيجابياً في نجاح المهمات والحرص الكامل على توفير شروط وعوامل النجاح وتجنب الظروف وإبعاد العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى الفشل، ولا يصح الاكتفاء بمجرد عدالة القضية والتفكير المنطقي وقوة الحجة، وإنما يجب التحلي بالواقعية، والأخذ بعين الاعتبار الجوانب العرفية والاجتماعية والنفسية والعاطفية وكافة العناصر المادية والبشرية والمعنوية المؤثرة في حركة الواقع، ومقتضيات العمل السياسي والنضال والثورة والسعي لتغيير الواقع وتغيير موازين القوى على الأرض، تختلف عن مقتضيات التفكير النظري والإقناع فيه.

فأجاب الله تبارك وتعالى دعوة موسى الكليم (عليه السلام) الصادقة، وأعطاه جميع ما سأل، وبعثه ومعه أخاه ووزيره وشريكه في النبوة والرسالة هارون (عليه السلام) مؤيدين بالآيات البينات والمعجزات الإلهية الباهرة، إلى فرعون وملئه وسائر قومه، يدعوهم إلى الإيمان بالتوحيد والطاعة لله   (جل جلاله) وحده لا شريك له، وإلى رفع اليد عن بني إسرائيل وتخليصهم من الأسر والعذاب، أي: إن الله   (جل جلاله) قد حمّل موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) رسالة دينية وسياسية مركبة، لا ينفصل الديني أو العقائدي فيها عن السياسي والعملي، ولا ينفصل السياسي والعملي فيها عن الديني والعقائدي، حيث لا سياسة صحيحة ولا عدالة ولا إصلاح بدون العودة الفعلية الجادة إلى الدين الحق الذي يقوم على عقيدة التوحيد، ولا دين صحيح لا يمتد شعاعه لإصلاح أوضاع الناس العملية في الحياة، ورفع الظلم والجور والطغيان والفساد والتخلف عنهم، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه شعار: «ديننا سياسة، وسياستنا دين».

وقد خص فرعون الطاغية بالذكر؛ لأنه رأس النظام والكفر والطغيان والفساد في الدولة والمجتمع، ونهى الله   (جل جلاله) موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) عن الفتور والتقصير في ذكر الله ذي الجلال والإكرام وفي تبليغ الرسالة والقيام بواجباتها، وأوصاهما بأن يلينا إلى فرعون بالقول ويخصاه بعبارات لطيفة، لعل ذلك يلين من طبعه القاسي وخشونته، ويمكّن الرسالة الإلهية من الوصول إلى عقله وقلبه، فيعود إلى فطرته ويخشى ربه ويتخلى عن عناده وكفره وطغيانه وفساده ويسلم إلى الحق وإلى أولياء الله الصالحين (عليه السلام).

المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى