من حياة الإمام السجاد
نبذة عن الإمام السجاد (ع)
الإمام السجاد (ع): هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو الإمام الرابع في سلسلة أئمة أهل البيت الاثني عشر (ع)، وهو أول إمام لم يكن موجودا على عهد الرسول الأعظم الكرم (ص)، فقد سبقه في الإمامة: جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعمه الحسن بن علي بن أبي طالب، وأبوه الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، وقد ولد الإمام السجاد (ع) في المدينة المنورة في زمن خلافة جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بتاريخ: (5/شعبان/38هـ)، أي أنه عاش مع جده أمير المؤمنين (سنتين فقط) حيث كانت شهادة أمير المؤمنين (ع) بتاريخ: (21/رمضان/40هـ) وتولى الإمام السجاد (ع) زمام الإمامة بعد شهادة والده الإمام الحسين (ع) بتاريخ: (10/محرم/61هـ) وله من العمر (23 سنة)، وكان (ع) حاضرا في كربلاء، إلا أنه لم يُستشهد لأنه لم يقاتل بسبب المرض، وقد حفظه الله (جل جلاله) من الأعداء رغم محاولاتهم المتكررة لقتله، وهنا ينبغي أن تعلموا: بأن الدنيا لو اجتمعت كلها لقتل الإمام السجاد (ع) في كربلاء فلن تستطيع؛ لأن بقاء الدين الحنيف واستمراره يتوقف على وجوده، وهكذا كان الحال بالنسبة إلى جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) على عهد الرسول الأعظم الأكرم (ص) ونفس الحال بالنسبة إلى ولده الإمام الحجة بن الحسن العسكري (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، فلو اجتمعت مخابرات الدنيا كلها لكشفه والقضاء عليه لفشلت؛ لأن بقاء الدين وتحقيق الوعد الإلهي متوقف على وجوده وسلامته. فإذا عجزت الأسباب الطبيعية عن حفظه، فإن الله (جل جلاله) يتدخل عن طريق الإعجاز لحفظه وسلامته، كما يدل على ذلك العقل والنصوص القرآنية. وقد استشهد الإمام السجاد (ع) بتاريخ (25/محرم/95 هـ) بعد أن دسّ له الوليد بن عبد الملك السم في طعامه بواسطة أخيه سليمان وله من العمر (57 سنة)، ودفن في البقيع إلى جانب قبر عمّه الإمام الحسن بن علي (ع)، فكانت مدة إمامته (34 سنة).
وقد واجهت الإمام السجاد (ع) في إمامته ثلاثة تحديات أساسية، وهي:
التحدي الأول ـ إثبات مكانته كإمام: حيث كان أول إمام لم يكن موجودا على عهد الرسول الأعظم الأكرم (ص)، وبالتالي لم تعرف له تلك الكارزمية التي عرفت للأئمة الثلاثة الذين سبقوه، وهم: جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعمه الحسن بن علي بن أبي طالب، وأبوه الحسين بن علي بن أبي طالب، حيث قال الرسول الأعظم الأكرم (ص) فيهم الكثير من الأحاديث الشريفة التي تبين فضلهم ومنزلتهم، وكان يتصرف معهم بصورة متميزة تدل على مكانتهم ومنزلتهم عند الله (جل جلاله) ورسوله الكريم (ص)، فكانوا معروفين بفضلهم ومنزلتهم لدى الصحابة، وانتقل ذلك التراث من السنة النبوية: القولية والفعلية إلى التابعين، وبقي خالدا لدى المسلمين إلى وقتنا الحاضر. وقد تطلب ذلك من الإمام السجاد (ع) أن يثبت مكانته التي تضعه في مصاف من سبقه من الأئمة (ع).
أضف إلى ذلك: أن الإمام السجاد (ع) واجه تحديا خطيرا، فقد جاء بعد ثورة الإمام الحسين (ع)، وكان مطالبا بالمحافظة على وهجها بين المسلمين، وفي الوقت ذاته كان مطالبا، بحسب إستراتيجية عمل الأئمة (ع)، بالانتقال إلى مرحلة جديدة تقوم على أساس النشاط العلمي والتربوي والاجتماعي والعمل السياسي السلمي، بعيدا عن العمل الثوري والمواجهة العسكرية، والتوفيق بين الأمرين يحتاج إلى براعة سياسية وحركية وإدارية فائقة لا تتأتى لكل أحد.
وقد نجح الإمام السجاد (ع) فعلا في إثبات جدارته واستحقاقه لمنصب الإمامة، وفرض وجوده العلمي والمعنوي والاجتماعي والسياسي على كافة الأصعدة: على النخبة من الصحابة والفقهاء والمفكرين، وعلى الجماهير الإسلامية، وعلى النخبة السياسية من الرسميين والمعارضين، فقد رأوا فيه من الناحية المعنوية: التجسيد الحي لقيم الإسلام، وبحسب الكفاءة: الامتداد القيادي والرسالي المشرق لجده الرسول الأعظم الأكرم (ص) فقد امتاز (ع) بقوة الشخصية وبُعد النظر وحسن القيادة والإدارة والتصرف، ولم يعرف في زمانه من يضارعه أو يجاريه في علمه وحكمته وحسن تدبيره وورعه وتقواه وشدة إنابته إلى الله (ذي الجلال والإكرام)، وقد حكت سيرته سيرة الأنبياء والمرسلين (ع)، فقد شابه المسيح (ع) في زهده وإنابته إلى الله (ذي الجلال والإكرام)، وشابه النبي أيوب (ع) في بلواه وصبره، وشابه الرسول الأعظم الأكرم (ص) في علمه وسمو أخلاقه وقوة شكيمته.
وكان له الدور الكبير في إنارة الفكر الإسلامي بشتى العلوم والمعارف الإسلامية. فقد بدأ بعد واقعة كربلاء العظيمة وعودته إلى المدينة المنورة في إقامة حلقات الدرس بشكل يومي في مسجد الرسول العظم الأكرم (ص)، وأقبل الناس بلهفة على طلب العلم ودراسته، وكان الجمهور الأعظم من تلامذته من القرّاء (أي حملة القرآن والحديث) الذين أخذ يحدثهم بصنوف المعرفة الإسلامية، ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين (ع) في الحديث والفقه والتفسير وعلم الكلام والفلسفة والعرفان والتربية والاجتماع والسياسة والأخلاق.
وقد تخرّج على يديه عدد كبير من القيادات العلمية من الفقهاء والعلماء والمفكرين والمربين الذين تحرروا من قيود السلطة الغاشمة وهيمنتها الفكرية والروحية والسياسية، وعملوا باستقلالية أو من خلال الارتباط الفكري والروحي والقيادي بالإمام السجاد (ع)، وقد حملوا العلم والمعرفة والإرشاد إلى كافة البلاد الإسلامية، منهم: سعيد بن المسيّب الذي وصفه الإمام نفسه: بأنه أعلم النّاس وأفهمهم في زمانه، وأبو حمزة الثمالي الذي وصفه الإمام علي بن موسى الرضا (ع): بأنه سلمان زمانه، وسعيد بن جبير الذي قيل عنه لكثرة علمه: «ليس على وجه الأرض من هو مستغنٍ عن علم ابن جبير». وقد أحصى الشيخ الطوسي في رجاله وغيره من المؤلفين في الرجال أكثر من مئة وستين من الصحابة والتابعين كانوا ينهلون من معينه ويروون عنه في مختلف العلوم. وهكذا نمت ببركة الإمام السجاد (ع) الشجرة العلمية الزيتونية المباركة التي غرسها الرسول الأعظم الأكرم (ص)، حيث كانت تلك الحلقات العلمية المباركة الأساس للحركة الفكرية الناشطة في العالم الإسلامي، والمنطلق لنشأة مدارس الفقه الإسلامي المستقلة عن السلطة السياسية، وبداية عهد جديد انفصلت فيه الحركة العلمية عن السلطة السياسية، وهو واحد من أهم الأهداف المباركة لعمل الأئمة (ع) التي ترمي إلى تطويق عوامل التحريف للفكر الإسلامي ومحاصرتها.
فكان الإمام السجاد (ع) بحق من ألمع المؤسسين للكيان العلمي والحضاري في دنيا الإسلام الحنيف. ويكتسي الدور العلمي للإمام السجاد (ع) أهمية خاصة لكونه جاء في وقت انفتاح الأمة الإسلامية على الحضارات الأخرى والثقافات المتنوعة، مما يهدد أصالتها ويعرّضها إلى التميّع والذوبان وفقدان الهوية، ما لم تشهد الساحة الإسلامية عملا علميا أصيلا يؤكّد للمسلمين أصالتهم الفكرية والروحية، ويحفظ هويتهم الإسلامية المتميّزة المستمدة من الكتاب والسنّة.
وقد اهتم الإمام السجاد (ع) اهتماماً بالغاً بالتربية الروحية والأخلاقية؛ وذلك لأنه رأى انهيارا في الحالة الإسلامية: الروحية والأخلاقية، وابتعادا من الناس عن دينهم الحنيف، بفعل الحكم الأموي الذي حمل معول الهدم على جميع القيم الأخلاقية والروحية الإسلامية، وظهور موجات الرخاء المادي والانسياق وراء زخارف الحياة الدنيا وملذاتها والإسراف في زينتها، مما أدى بطبيعة الحال إلى ضمور الشعور بالقيم الروحية والأخلاقية الإسلامية.
وقد اتّخذ الإمام زين العابدين (ع) من الدعاء وسيلة لمواجهة ذلك الخطر الكبير الذي يهدد الشخصية الإسلامية ويهزّها من الداخل، ويحول بينها وبين الاستمرار في حمل الرسالة الربانية والسعي إلى العمل بها وتطبيقها كمنهج شامل في الحياة. وهكذا كانت (الصحيفة السجادية) تعبيراً صادقاً عن عمل فكري وروحي واجتماعي هادف تطلبته المرحلة. إضافة إلى كونها تراثاً ربّانياً خالدا تحتاجه البشرية على مرّ الدهور، وتزداد الحاجة إليه كلّما ازدادت النزعة المادية في الحياة، وازداد التكالب على زخارف الحياة الدنيا الفانية والتنافس على حطامها الزائل، وازداد إغراء الشيطان للإنسان على وجه الأرض.
أيها الأحبة الأعزاء، لقد ملك الإمام السجاد (ع) القلوب والعواطف بعلمه وتقواه وأخلاقه الإسلامية الرفيعة وحسن تدبيره وإدارته وتصرفه، ونجح في إثبات وجوده كإمام معصوم يمثل الامتداد الفكري والروحي والأخلاقي والقيادي للرسول الأعظم الأكرم (ص) في الأمة الإسلامية العظيمة. فهتفت الجماهير باسمه، واعترفت النخبة بفضله وتميزه، وتوّجوه بتاج الإمامة والرئاسة، فكانوا لا يرون غيره أهلاً لقيادتهم الفكرية والروحية والسياسية، وأقرت السلطة أيضا بفضله، إلا أنها عمدت إلى اغتياله كما اغتالت غيره من أئمة المسلمين وأعلام الإسلام الذين كانوا يشكلون خطراً جديا على نظامها المستبد الظالم والمنحرف عن طريق الإسلام الحنيف.
مؤشرات نجاح الإمام السجاد (ع)
وفي سبيل توضيح مدى النجاح الذي حققه الإمام السجاد (ع) في إثبات وجوده، أذكر المؤشرات التالية:
هذا الذي تَعرِفُ
البطحاءُ وطأتَهُ هذا ابنُ خيرِ عِبَادِ اللهِ كلِّهِمُ هذا ابنُ فاطمةٍ إنْ كنتَ جاهلَهُ |
والبيتُ يَعرِفُهُ
والحِلُّ والحَرَمُ هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلمُ بجدِّهِ أنبياءُ اللهِ قد خُتموا |
المؤشر الأول ـ على الصعيد الشعبي: حجّ هشام بن عبد الملك وطاف حول البيت وحاول استلام الحجر الأسود فأخفق من شدّة الزحام، فجلس ينتظر، ووقف حوله أهل الشام. وفي هذه الأثناء أقبل الإمام السجاد (ع) وهو يفوح طيبا، فطاف بالبيت، فلمّا وصل إلى الحجر الأسود، انفرج له الناس، ووقفوا له إجلالا وتعظيما، حتى إذا استلم الحجر الأسود وقبّله وانصرف عاد الناس إلى طوافهم. وكان أهل الشام لا يعرفون الإمام السجاد (ع)، وعندما رأوا ذلك المشهد أثارهم فسألوا عن هويّته، فقال هشام باستياء: لا أعرفه. وكان الفرزدق (الشاعر المعروف) حاضرا، فارتجل قصيدة تعدّ من روائع الأدب العربي، قال فيها:
المؤشر الثاني ـ على الصعيد الرسمي: روي أن الإمام السجاد (ع) كان جالسا في مجلس عمر بن عبد العزيز، فلما خرج سأل عمر من في المجلس: من أشرف الناس؟ فقالوا تزلفا: أنتم يا أمير المؤمنين.
فقال عمر: كلا!! أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفا، من أحب الناس أن يكونوا منه، ولم يحب أن يكون من أحد.
المؤشر الثالث ـ على الصعيد النخبوي: سؤل محمد بن شهاب الزهري: هل لقيت علي بن الحسين؟
فقال: نعم!! لقيته وما لقيت أحدا أفضل منه، والله ما علمت له صديقا في السر ولا عدوا في العلانية.
فقال السائل: وكيف ذلك؟
فقال الزهري: لأني لم أر أحدا وإن كان يحبه إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحدا وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه.
التحدي الثاني ـ الحفاظ على وهج ثورة الإمام الحسين: وهو واحد من أهم الأهداف الرئيسية التي عمل أهل البيت (ع) عليها وفق إستراتيجية عملهم، وكان للإمام السجاد (ع) دور التأسيس لتحقيق هذا الهدف الرباني المقدس. فقد استطاع بمهارته السياسية والإدارية والحركية الفائقة، ومن خلال الرؤية الإستراتيجية الواضحة، أن ينهض بمهام الإمامة، ويحقق أهدافها المرحلية المطلوب منه تحقيقها على أكمل وجه، رغم القيود والرقابة الأمنية المشددة التي فرضها الأمويون عليه. واستطاع ببراعة سياسية وحركية وإدارية خارقة للعادة أن يوفق بين الانتقال إلى المرحلة الجديدة التي تقوم على العمل السياسي السلمي – وفق إستراتيجية عمل أهل البيت (ع) – وبين المحافظة على وهج ثورة الإمام الحسين (ع). وقد برز الإمام السجاد (ع) على مسرح الحياة الإسلامية كسياسي لامع ومتميز، لا يجاريه في براعته السياسية سوى آبائه (ع).
أيها الأحبة الأعزاء، سوف أتحدث الآن عن دوره (ع) في المحافظة على وهج الثورة، ثم أتحدث بعد ذلك عن الانتقال إلى المرحلة الجديدة.
لقد سعى الإمام السجاد (ع) لتكريس حياته كلها لتخليد ثورة أبيه المظلوم الإمام الحسين (ع)، وتحقيق أهدافها الرسالية العظيمة على المدى البعيد، ومواجهة المشروع الأموي الذي كان يشكل الخطر الأكبر على الإسلام على المدى القريب. وقد تجلّى دور الإمام السجاد (ع) في عدة مجالات برزت فيها الشجاعة والبطولة والحس القيادي وحسن التدبير والتصرف في أروع الصور وأبهاها، منها:
أولا ـ خطبته في الكوفة والشام: فقد دخل موكب سبايا الإمام الحسين (ع) إلى الكوفة وقد احتشد الناس لاستقبال الموكب، وأهل الكوفة يعلمون جيداً من هم هؤلاء السبايا، لذلك أراد الإمام السجاد أن يصوّر لهم حجم المأساة التي تسبّبوا بها بخذلانهم إمامهم الحسين (ع)، فخطب فيهم قائلا: أيها النّاس!! أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من انتُهكت حرمته، وسُلبت نعمته، ونُهب ماله، وسُبي عياله، أنا ابن من قُتلَ مظلوماً عند شط الفرات، بلا دم أراق، ولا حق أضاع.
أيها الناس!! بالله عليكم، أما كتبتم إلى أبي تدعونه ليجيء الكوفة فلما جاءكم قتلتموه؟
أيها النّاس!! كيف بكم إذا رأيتم رسول الله (ص) يوم القيامة يقول لكم: قتلتم أهل بيتي ولم ترقبوا حرمتي فلستم من أمتي؟
فاضطرب أهل الكوفة لسماعهم كلمات الإمام السجاد (ع) وهاجوا وماجوا، وأخذوا يبكون ويتلاومون: أن هلكتم وأنتم لا تعلمون.
وهكذا نجح الإمام السجاد (ع) في هز ضمائرهم، وتحريك وعيهم وعواطفهم إزاء المأساة المروعة، وتثويرهم ضد النظام الأموي الفاسد.
ثم انتقل الموكب إلى الشام حيث كان يزيد غارقا في نشوة النصر، وقد أقيمت الأفراح في كل مكان من أرض الشام، فلم يكن أهل الشام يعرفون الحقيقة، فانبرى سليل النبوة الإمام السجاد (ع) ليكشف لهم الحقيقة بحضرة يزيد، فقال: «أيها الناس!! أُعطينا ستا وفُضّلنا بسبع. أُعطينا: العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبة في قلوب المؤمنين . وفُضّلنا: بأن منا النبي المختار محمدا، ومنا الصديق، ومنا الطيار، ومنا أسد الله وأسد رسوله، ومنا سبطا هذه الأمة. من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.
أيها الناس!! أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الحجر بأطراف الرداء، أنا ابن خير من أحرم وطاف وحجّ وسعى، أنا ابن من أُسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من أوحى الله له ما أوحى، أنا ابن الحسين المقتول بكربلاء، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المضرج بالدماء». ولم يزل يقول: أنا.. أنا حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد من انقلاب الوضع عليه، فأمر المؤذن بالأذان ليقطع عليه الكلام.
فلما قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر.
قال (ع): لا شيء أكبر من الله.
فلما قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله.
قال (ع): شهد بها شعري، وبشري، ولحمي، ودمي.
فلما قال المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله.
التفت (ع) من فوق المنبر إلى يزيد، فقال: محمد هذا جدي أم جدك يا يزيد؟! فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي، فلم قتلت عترته؟!
وهكذا كشف الإمام السجاد (ع) حقيقة الأمر لأهل الشام، وفضح ببيانه الحكم الأموي الفاسد، وعرّاه تماما أمامهم، فغادر بعضهم المسجد ولم يحضر صلاة الجماعة بإمامة يزيد.
ثانيا ـ إقامة العزاء البكاء: فقد قرأ الإمام السجاد (ع) مصرع أبيه على الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري عند قبر الإمام الحسين (ع) عندما التقى به في يوم الأربعين، فقال: «يا جابر!! ها هنا والله قتلت رجالنا وذبحت أطفالنا وسبيت نساؤنا وحرقت خيامنا». ولما رجع إلى المدينة المنورة لم يدخلها وإنما نزل قريبا من حدودها، وطلب من بشر بن جذيم أن يدخلها وينعى الحسين (ع) ففعل، فخرج أهلها إليه وهم يبكون ويندبون، فخرج إليهم وفي يده خرقة يمسح بها دموعه، فتعالت أصواتهم بالبكاء من حوله يعزونه بأبيه، فأومأ إليهم بيده أن اسكتوا، وخطب فيهم وقال بعد الحمد والثناء على الله: «أيها القوم!! إن الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قتل أبو عبد الله وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.
أيها الناس!! فأي رجالات منكم يسرّون بعد قتله، أم أي فؤاد لا يحزن من أجله، أم أي عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها، وأي قلب لا يتصدع لقتله، وأي فؤاد لا يحن إليه، وأي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم.
أيها الناس!! أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأمصار، من غير جرم أجرمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إن هذا إلا اختلاق. والله لو أن النبي (ص) تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأكظها وأفظعها وأمرها وأفدحها، فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ منا إنه عزيز ذو انتقام».
وكان من مظاهر تخليده للثورة الحسينية كثرة بكائه على ما حل بأبيه وأهل بيته وأصحابه من أهوال يوم الطف الفجيعة، فقد بكى على أبيه طوال حياته (ع)، وكان كلما وُضع بين يديه طعام أو شراب بكى، ويقول: كيف آكل وقد قتل أبو عبد الله جائعا؟ وكيف أشرب وقد قتل أبو عبد الله عطشان؟ وكان كلما اجتمع إليه جماعة أو وفد عليه وفد من الخارج يردد عليهم أخبار فاجعة كربلاء. وكان يخرج إلى السوق أحيانا، فإذا رأى جزاراً يريد أن يذبح شاة أو غيرها يدنو منه ويسأله: هل سقيتها الماء؟ ويكون الجواب بحسب العادة: نعم يا بن رسول الله، إنا لا نذبح حيوانا حتى نسقيه ولو قليلا من الماء. فيبكي عند ذلك ويقول: لقد ذبح أبو عبد الله عطشان. وقال مخاطبا أحد ضيوفه بحضور جمع من الناس: أترى لو أصابك الموت وأنت غريب عن أهلك، هل تجد من يغسلك ويدفنك؟ فقال الجمع: يا بن رسول الله!! كلنا يقوم بهذا الواجب. فبكى وقال: لقد قتل أبو عبد الله غريبا، وبقي ثلاثة أيام تصهره الشمس بلا غسل ولا كفن. وكان لهذا الأسلوب الأثر الكبير في إدخال الثورة إلى الوجدان الإسلامي وعواطف المجتمع وأحاسيسه، ودفع المسلمين نحو التحرر من الظلم والعبودية والطغيان.
وهكذا شحنت حركة الإمام السجاد (ع) النفوس في الكوفة والشام والمدينة المنورة ضد النظام الأموي الظالم المستهتر بالدين والقيم وحقوق الإنسان، وفتحت الباب على مصراعيه لثورات متلاحقة ضده. فكانت ثورة المدينة بقيادة عبد الله بن حنظلة الأنصاري الذي طرد آل أمية من المدينة. ثم جاءت ثورة مكة بقيادة عبد الله بن الزبير التي لم تنتهِ إلاّ بعد محاصرة مكة ورميها بالمنجنيق، ثم جاءت ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي تحت شعار: وجوب التكفير عن ذنبهم لعدم نصرتهم الحسين (ع)، ثم جاءت ثورة المختار الثقفي الذي تتبَّع قتلة الحسين (ع) فقتل منهم مائتين وثمانين رجلاً منهم عبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، والشمر بن ذي الجوشن. وتوالت الثورات ضد النظام الأموي الغاشم حتى تحطمت دولته وسقطت في مزبلة التاريخ بدون رجعة. واستمرت الثورات التي تقودها روح كربلاء العظيمة تطحن الظالمين والمستكبرين والمفسدين في الأرض طول التاريخ، وكان آخرها ثورة الإمام الخميني العظيم في إيران، والمقاومة الإسلامية في لبنان، وإني لأرجو أن تثمر الروح الكربلائية، لدى أبناء شعب البحرين المسلم الغيور، حركةً مطلبيةً إصلاحيةً مستميتةً تمنحهم الحرية وحق تقرير المصير، وتقيم العدل والمساواة بينهم، وتضعهم على طريق الرقي والتقدم بين شعوب العالم.
وقد أدرك عبد الملك بن مروان خطورة تحركات الإمام السجاد (ع) التي أثمرت في توسيع القاعدة الشعبية المتعاطفة معه، فاعتقله وأحضره إلى دمشق مقيدا، لكن قوّة شخصية الإمام (ع) أثارت الاحترام في نفسه فأمر بإطلاق سراحه وإعادته سالماً إلى المدينة، ثم قرّر الوليد بن عبد الملك تصفيته، فأوعز إلى أخيه سليمان فدسّ له السم وقضى على حياته المباركة.
التحدي الثالث ـ الانتقال إلى مرحلة جديدة في عمل الأئمة: يعمل أهل البيت (ع) وفق إستراتيجية واضحة الأهداف والمراحل، وقد اقتضت الإستراتيجية أن يلجأ الإمام السجاد (ع) إلى النشاط العلمي والتربوي والاجتماعي والعمل السياسي السلمي، في الوقت الذي يحافظ فيه على وهج ثورة أبيه الإمام الحسين، ومواجهة المشروع الأموي التخريبي سياسيا. فقد عمل الإمام علي بن أبي طالب (ع) والإمامان الحسن والحسين (ع) على سحب بساط الشرعية الدينية من تحت الخلفاء، وغلب لتحقيق ذلك الهدف الجانب العلمي والوجداني على دور الإمام علي بن أبي طالب، والجانب السياسي على دور الإمام الحسن، والجانب الثوري الاستشهادي على دور الإمام الحسين؛ ليثبت بصورة نهائية قاطعة: بأن الخليفة فاقد للشرعية، ولا يمثل المرجعية الدينية والروحية للأمة. وقد وضح فيما سبق من البحث مدى النجاح السياسي الذي حققه الإمام السجاد (ع) في المحافظة على وهج الثورة ومواجهة المشروع الأموي، وفي الوقت نفسه انطلق ببراعة متميزة وفق إستراتيجية عمل الأئمة (ع) إلى المرحلة الجديد في نشاطه العلمي والتربوي والاجتماعي، بهدف توسيع بناء الكيان الإسلامي الشيعي الموالي لأهل البيت (ع)، والتبليغ بأطروحتهم الفكرية الشاملة على كافة المستويات والأصعدة: عقائديا، وفقهيا، وفي التفسير، والأخلاق، والسيرة، وغيرها من مجالات الفكر والثقافة. كما نجح في خلق انطلاقة فكرية نشيطة على مستوى الأمة، مستقلة عن الحكام الفاسقين والظالمين، قادها الفقهاء وأئمة الحديث وقادة الفكر من الفلاسفة والمفكرين، وكانت ترمي (بحسب خطة عمل الأئمة<) إلى تطوير حرية التفكير في البحث عن الحقيقة، والحد من تأثير السياسة المنحرفة على الفكر الإسلامي، وتطويق عوامل التحريف ومحاصرتها، مع التأكيد من ناحية المبدأ: على المرجعية الدينية الشاملة: الزمانية والروحية لأهل البيت (ع) في الأمة الإسلامية.
وقد استخدم الإمام السجاد (ع) أدوات عديدة لتحقيق أهدافه، منها: حلقات الدرس، والحوار، والكتابة، والمراسلة، والدعاء، والسعي في قضاء حوائج الناس لاسيما الفقراء والمحتاجين، وشراء العبيد وتحريرهم بعد تعليمهم وتربيتهم وفق مدرسة أهل البيت (ع). وحقق نجاحا باهرا في تحقيق أهدافه الرسالية في المجال محل البحث كغيره من المجالات التي خاض غمار العمل فيها. وقد ذكر ما يدل على نجاحه فيما سبق من البحث.
وفي ختام الحديث: أشير إلى أهم النتائج التي يمكننا التوصل إليها من خلال تحليل الدور الذي قام به الإمام السجاد (ع) في حياته المباركة، ومنها:
النتيجة الأولى: أهمية البصيرة، والإستراتيجية الواضحة، والشخصية القوية، والجرأة والبطولة والشجاعة والتقوى (ضمن شروط أخرى)، في تحقيق النجاح في العمل الرسالي والسياسي، وأن نسبة النجاح والفشل تتحدد بحسب نسبة وجودها أو غيابها.
النتيجة الثانية: أن الإمام السجاد (ع) كان يتمتع بشجاعة وبطولة فائقة، وأنه لم يكن مسايرا للنظام الأموي الغاشم، مع التنبيه: بأن الإمام (بحسب العقل والنص) لا يمكن أن يفترق ولو قليلا مع القرآن الكريم (بما هو عليه من الكمال) في فكرة أو سلوك أو موقف، فهو في ذروة الكمال والعصمة من جميع الوجوه وعلى كافة المستويات، ومع القرآن الكريم دائما في فكره وسلوكه ومواقفه، لا يتخلف عنه فيها بأي حال من الأحوال، وأن إرادته لا يمكن أن تفترق أو تختلف مع إرادة الله (جل جلاله) في شيء كبير أو صغير، وأنه لا يقع حتى فيما وقع فيه الأنبياء السابقون (ع) من المآخذ التي ذكرها القرآن الكريم عنهم، وهي لا تخالف العصمة بالطبع؛ لأنه كالرسول الأعظم الأكرم (ص) فوقهم في درجة العصمة والكمال، وأن كماله وعصمته فوق كل كمال وعصمة لمخلوق بشري أو غير بشري سوى الرسول الأعظم الأكرم (ص).
النتيجة الثالثة: أن الدور العلمي والتربوي والاجتماعي والعمل السلمي لا يعني بالضرورة مسايرة النظام الحاكم الفاسد أو المنحرف.
النتيجة الرابعة: أهمية النشاط العلمي والتربوي والاجتماعي في الرسالة الإسلامية، ودوره في تحقيق أهدافها المقدسة العظيمة. وهذا مما يعطي القيمة الكبيرة للتكريم الذي نقوم به الليلة لطلبة الدروس الصيفية. وإني أطلب منهم بذل المزيد من الجهد والوقت والمال لطلب العلم وتحصيل الخبرة؛ لأنهم بالعلم والخبرة يستطيعون أن يخدموا دينهم ووطنهم أكثر. أسأل الله العلي القدير أن يجعلهم من الذين ينتصر بهم لدينه، ويعز بهم نصر وليه، وأن يوفقهم لخدمة وطنهم العزيز، وأبناء شعبهم المستضعف المظلوم.
النتيجة الخامسة: أن الحالة الإسلامية الفكرية والروحية والأخلاقية الصافية، تصب دائما في خدمة العدالة والعزة والكرامة والتحرر للشعوب، ولا يمكن أن تكون غير ذلك. ولهذا خدم البكاء على الإمام الحسين (ع) – كما خدم الدعاء (في أقصى حالات الإخلاص لله جل جلاله)، والسعي في قضاء حوائج الفقراء والمحتاجين، وتحرير العبيد قربة لله تعالى – ثورة الأمة ضد الظلم والظالمين والمفسدين في الأرض؛ لأنها تلتقي معها في الجوهر والطريق. وعليه فإن كل طرح بخلاف ذلك: هو طرح ملوّث لا يلتقي مع حقيقة عقيدة التوحيد وروحيتها.
أيها الأحبة الأعزاء، أكتفي بهذا المقدار، وأستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم، وأستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.