التوبة والرجوع إلى الله

<إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ>

أي: آمنا بالله ربنا الذي فطرنا من العدم والمالك المدبر لنا والذي إليه مرجعنا ومآبنا، واخترناه وقدسناه عليك، وقدمنا ولايته على ولايتك، وعزته الحقيقية الفاخرة على عزتك الوهمية الباطلة، وقدمنا رضاه على رضاك، وأجره وثوابه العظيم الباقي على أجرك وثوابك الهزيل الفاني، برجاء أن يغفر لنا خطايانا التي سبقت منا فيما مضى قبل الإيمان من الشرك والمعاصي والجرائم بحق أنفسنا والناس، وما يمكن أن يصدر منا من معاصٍ وتقصير بدون إصرار عليها فيما بقي من أعمارنا، فإن الإيمان يكفّر السيئات، والتوبة تحجب ما قبلها، ونحن نرغب في الطهارة من الذنوب والمعاصي، لندخل في ساحة القدس والنور، ونفوز بالسعادة الحقيقية الأبدية في الآخرة، وليغفر لنا كذلك ما أكرهتنا عليه من السحر، إذ ألزمتنا عن طريق ما تتمتع به من السلطة والقوة علينا، بأن نعارض بسحرنا الحق المبين الذي جاء به موسى الكليم (عليه السلام) من عند رب العالمين، وقمت بتوظيف سحرنا لإرهاب أبناء الشعب وتضليلهم لكي يخضعوا لسلطتك ونظامك، ويقبلوا ولايتك وظلمك وفسادك، وتكريس ما تزعم من الألوهية والربوبية لنفسك بغير حق ولا دليل، كما هي عادة الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة، التي دأبت على استخدام كافة أساليب الإرهاب والتضليل لتخويف أبناء الشعوب من أجل قهرهم وإجبارهم على الخضوع لإرادتهم والقبول بحكم الأمر الواقع الظالم والفاسد والمنحرف عن الطبع والفطرة، ولم نكن نقدر على عصيانك؛ لأننا لم نكن ندرك حقيقة وجودنا، ونجهل وجود حياة وراء حياتنا الدنيا والطريق إلى كمالنا والسعادة الحقيقية في الآخرة، وكنا نتوهم بأنك الإله المعبود والرب الأعلى الذي تجب علينا طاعته، وهذا يدل على أن المشاركة في دعم الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة الظالمة ظلم وذنب كبير يؤاخذ عليه الرب الجليل، وتجب التوبة والاستغفار منه، وهذه حقيقة يقررها العقل والمنطق السليم، وتنسجم مع الفطرة والطبع الإنساني، وقرها الشرع الحنيف.

ثم أشار السحرة في جوابهم فرعونَ ومواجهتهم له، إلى حقيقة وجودية، فقالوا: <وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ>[1]، الله تبارك وتعالى خير منك ثواباً وأبقى أمداً للمطيع، وعقابه أشد من عقابك وأبقى، فملاك الخيرية والجبروت والكمال والبقاء له وحده لا شريك له، وعليه: فإن ثواب الله تبارك وتعالى خير لنا ممّا وعدتنا به من الأجر والجاه والمنزلة عندك، وعقابه أجدر بأن يتوفى من عقابك؛ لأن كل شيء هالك إلا وجه الله سبحانه وتعالى، وكل عمل لغيره فإنه ينتهي بالخسران والحسرة والندم، ولا يبقى ولا ينفع إلا العمل الذي قصد به وجه الله سبحانه وتعالى الذي هو أبدي الوجود والقادر على كل شيء، وينتهي بصاحبه إلى السعادة الحقيقية الأبدية والنعيم المقيم الذي لا يزول في جنات عدن، وفي المقابل ينتهي الكفر والمعصية بصاحبهما إلى الشقاء الحقيقي الأبدي والعذاب العظيم المقيم، وعليه: فإن العمل من أجل الله تبارك وتعالى رب العالمين مقدم على العمل من أجلك، وإيثارك بالعمل على الله رب العالمين وتقديمك عليه فيه، مخالف للمنطق والحكمة والطبع، ولا يفعله إلا سفيه أحمق عدو لنفسه.

<إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ 74 وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ 75 جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّىٰ>

أي: إن الناس الذين يلقون الله سبحانه وتعالى ربهم في يوم القيامة، بحسب عقيدتهم وأعمالهم ينقسمون إلى قسمين: شقي وسعيد.

أ.   أما الشقي: فهو المجرم من كل وجه، الذي يشرك بالله سبحانه وتعالى، ويعمل السيئات وقبائح الأعمال، ويسعى في الأرض فساداً، ويموت على ذلك بدون توبة فيحرم من المغفرة والرحمة الإلهية، وينتهي به المطاف إلى الدخول في نار جهنم الشديد نكالها، ويعذب فيها عذاب الروح والجسد، عذاباً لا يقدره ولا يفتر عنه ساعة، عذاباً يحول بينه وبين الحياة الطيبة الممتعة، فلا يلتذ فيها بشيء، ولا ينال فيها شيئاً مما تطيب الحياة لأجله، ويستغيث فيها فلا يُغاث، ويدعو فلا يستجاب له، عذاباً لا ينتهي بالموت فيستريح المعذب منه كما هو الحال في عذاب الدنيا، وإنما يبقى فيه أبداً يألم كأشد ما يألم الحي ولا يبطل إحساسه بالألم أو يضعف، وهذا هو العذاب الحقيقي الذي يجب أن يُتقى إلا ما تتوعدنا به وينتهي بنا إلى السعادة الأبدية والنعيم الدائم في الآخرة، وفيما مضى دليل على أن الشرك والمعصية جريمة حقيقية يجرمها الإنسان بحق نفسه ويظلمها ظلماً أبدياً، وأن غفران الذنوب والخطايا غاية من غايات الإيمان، لأن كل من لم يغفر له، كان مجرماً يستحق العذاب في نار جهنم في الآخرة.

ب. وأما السعيد: فهو المؤمن الموحد الصادق في إيمانه ويقينه، المصدق بالرسالات السماوية، الداخل في ولاية الله   (جل جلاله) وأئمة الحق من الأنبياء والأوصياء (عليه السلام) العامل بالطاعات والباقيات الصالحات من الواجبات والمستحبات، والتائب من كل ذنب ومعصية ولا يصر على شيء من ذلك ولا يكابر، الذي يلقى ربه بقلب سليم، أي: الصالح في مقاصده وأعماله، فتناله الرحمة الإلهية وينتهي به المطاف إلى الدخول في الجنة والمقام في الدرجات العالية ومنازل القرب التي تجري الأنهار المطردة بأنواع الأشربة من تحت مساكنها وفي بساتينها، ويحظى ساكنها بالسرور العظيم الدائم، واللذات الخالصة الباقية المتواصلة بدون انقطاع، وبما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم، وتتفاوت الدرجات والمنازل بتفاوت درجات الصدق والإخلاص والعمل، وأن أعلاها ينال بالتضحية والفداء والشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى، ونحن سائرون بتوفيق الله (عز وجل) وتسديده في هذا الطريق ومنتهون إلى هذه الغاية إن شاء الله تعالى؛ لأن هذا الثواب العظيم أُعد جزاءً من الله تبارك وتعالى للذين عملوا على تزكية أنفسهم بالحب والصدق والإخلاص، وتطهيرها من أدناس الشرك والنفاق والخيانة والعصيان، وتنميتها وتكميلها بالاعتقاد الحق والخصال الحميدة والأعمال الصالحة الواجبة والمستحبة، وهذا هو الثواب الحقيقي الباقي الذي يطلبه العقلاء وأصحاب البصائر، لا ما تعدنا به من الأجر الهزيل، والجاه الوهمي في ظل نظامك الفاسد، والعبودية المذلة والطاعة العمياء في ظل ولايتك وحكومتك.

وهذه الإجابات الواضحة البالغة والعميقة جداً تدل على نفاذ بصيرتهم، وقوة منطقهم، وأنهم استفادوا كثيراً مما كانوا يتمتعون به من الخبرة والكفاءة العلمية، في تمحيص الأمور وتقليب الوجوه وإدراك الحقائق كما هي عليه، وأن لا يجعلوا للتضليل وقوة الدعاية وضغوط السلطة تأثيراً سلبياً على تفكيرهم وأحكامهم وقراراتهم الوجودية والمصيرية، كما تدل على عمق إخلاصهم للحقيقة وقيدهم في العمل بمقتضاها، مما أدى إلى ظفرهم بالرحمة والتوفيق والتسديد الإلهي لهم، الأمر الذي انتهى بهم إلى الإيمان والتوبة والثبات أمام التحديات ومقاومة الضغوطات، وأن ما كان منهم يدل على أن الإنسان إذا توفر على الصدق والإخلاص، فإنه قادر على طي مسافة الألف ميل في لحظة، ويطوي المسافة بين السماء والأرض وعالم المادة والملأ الأعلى في طرفة عين، فقد حدث للسحرة التحول العميق بشكل سريع ومفاجئ، وكأنهم تعلموا المعارف والحكم الإلهية في لحظة، فانتقلوا من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال والانحراف إلى الهدى والاستقامة، ومن الجهل إلى العلم والمعرفة، ومن ساحة الطاغوت والظلام إلى ساحة القدس والنور، وكأن ذلك قد نقش في صفحات قلوبهم وأضاء أرواحهم في لحظة، مما أثار دهشة الجميع.


المصادر والمراجع

  • [1]. نفس المصدر
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى