فلسفة الصمود والحياة

<لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا>

وأمام التهديد الفرعوني الظالم والبالغ القوة، لم يضطرب السحرة ولم يخافوا ولم يسعوا إلى الفرار من ساحة المواجهة، وإنما ثبتوا كالجبال الشاهقة، وواجهوا فرعون الطاغية بشجاعة منقطعة النظير، فقالوا: <لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا>[1] أي: أراد فرعون الطاغية من السحرة المؤمنين أن يتركوا الله رب العالمين وموسى الكليم (عليه السلام) ويتراجعوا عما أظهروا من الإيمان، وأن يبقوا على ما كانوا عليه من قبل ويخضعوا لنظامه وسلطته، بعد أن رأوا الآيات والبينات الواضحة الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد، واتضح لهم ضلال فرعون وطغيانه وبعده عن الخير والحق والعدل؛ لأن المهم عنده ليس المنطق السليم والحقائق في نفسها، وإنما الواقعية وحكم الأمر الواقع، وهددهم بأشد العقوبة إن هم أصروا على موقفهم ولم يتراجعوا عن الإيمان.

فردوا عليه: رغم تهديدك لنا بالعذاب الشديد والقتل الفجيع، ونحن على يقين بأنك سوف تنفذ تهديدك فينا إذا ثبتنا على خيار الإيمان والتوحيد؛ لأنك ترى في إيماننا تهديداً لنظامك وملكك، ومن مصلحتك ومصلحة نظامك كما تتوهم أن تنفذ فينا تهديدك لنكون عبرة لغيرنا فلا يقتدي أحد بنا ويسير بسيرتنا؛ لأنه لا يوجد ما يمنعك من تنفيذ تهديدك فينا من قيم أو ضمير، ولا توجد قوة خارجية تمنعك من ذلك أو تحول بينك وبينه، ولكنا مع ذلك: لن نختارك ونقدمك، ولن نختار ما تزعم بغير حق أنك تملكه من نعيم الدنيا وزخرفها، ومن السلطة وعزها، ومن المال والثروة واللذائذ الحية وبهجتها؛ لأنه لا يوجد أساس عقلاني ومنطق صحيح ولا حتى واقعي، لأن نؤثرك ونختارك ونقدمك ونختار ونؤثر دنياك العريقة على ما جاءنا به موسى الكليم (عليه السلام) وعرفناه من البينات الواضحة والمعجزات الباهرة الظاهرة الدلالة على التوحيد والنبوة والمعاد، فإننا نشاهد أنوار الإيمان في أعماق قلوبنا وصفحات أرواحنا، وأنت مخلوق عاجز لا تملك حياتك ولا تملك لنفسك نفعاً ولا ضراً، وأن هذه الدنيا العريضة ولذائذها وزخرفها كلها سراب باطل، وأنها إلى انقضاء وفناء وزوال وأنك تاركها وراحل عنها ونحن نعلم عن يقين واستناداً إلى الخبرة، بأن الذي جاء به موسى الكليم (عليه السلام) ليس من السحر، بل هو معجزة حقيقية تعجز أي قوة بشرية عن أن تأتي بمثلها، فوراءها قطعاً وبكل تأكيد قوة مطلقة فوق الطبيعة وفوق البشر، وتدل على أن الله سبحانه وتعالى الجامع لصفات الجمال والجلال كلها، هو الخالق المالك المدبر للعالم والناس، وهو وحده المستحق للعبادة والطاعة، والمعظّم وحده لا شريك له وما سواه باطل، فلن نؤثرك على الله الجامع لصفات الكمال المدبر للعالم والمستحق وحده للطاعة والعبادة، فهو الذي خلقنا وفطرنا من العدم، ولا نملك في وجودنا وصفاتنا وأفعالنا أي استقلال عنه، وهو وحده المستحق منا للطاعة والعبادة.

أي: إن الحقائق والبينات والمعجزات التي رأيناها وأدركنا دلالتها، ليست مجرد أمور نظرية تسبح في فراغ وليس لها علاقة بحياتنا ومصيرنا، وإنما هي حقائق وجودية تكشف عن ماهيتنا ولماذا وجدنا في هذه الحياة وإلى أين نحن سائرون وما يجب علينا عمله، فهي تدل على وجود قوة مطلقة فاعلية جامعة لصفات الكمال، وهو الله الحق المطلق الذي تعتبر جميع الحقائق من تجلياته، ولا توجد حقيقة واحدة لا واقع لها، فما لا واقع له لا حقيقة له، وهذه الحقائق مؤثرة في حياتنا وإن تفاوتت في أهميتها وقيمتها بالنسبة إلينا، ونحن نعلم بحسب الفطرة والطبع والمنطق أن كمالنا الإنساني وكرامتنا وسعادتنا الحقيقية، في أن نقرر مواقفنا في الحياة وفق مقتضى الحقائق، وليس بمسايرة حكم الأمر الواقع المفروض علينا بالقوة والغلبة والقهر، بل الواجب علينا أن نرفض الواقع الظالم الفاسد ونقاومه ونثور عليه، ونسعى لإيجاد واقع جديد صالح يقوم على العدل وينجسم مع الحقائق الكونية والمنطق السليم.

وعليه: لن نختارك ولن نختار دنياك الفانية وزخارفها ولن نختار ولايتك وعزتك، بل نختار الله ذا الجلال والإكرام ودينه ورسله وولايته وعزه وثوابه ونقدمه عليك ولا نخافك، فقد عرفنا الحق واهتدينا إلى الصواب، ولن نستبدل الحق بالباطل، والعدل بالظلم، والخير بالشر، والهدى بالضلال، والصواب بالخطأ، فنحن نتبع العقل والمنطق وما عرفناه من الحقائق، ولا نخاف تهديدك ووعيدك، فافعل ما أنت فاعل، واصنع ما أنت فاعل، ونفذ ما توعدتنا به من التعذيب والتنكيل والقتل الفجيع، فقد طشت وسفهت وغرك جهلك وسلطانك، وتوهمت بأنك المتصرف في النفوس، فلا نؤمن إلا بإذنك، فافعل بنا ما شئت ونفذ حكمك وامضِ فيه، فإنا لا نبالي بسيف الجلاد وبطشه، فلن تجد منا إلا الصمود والثبات؛ لأننا على الحق والصراط المستقيم وفي طريق الكمال والسعادة، وأن الغالب بالشر والباطل مغلوب في الحقيقة وإن انتصر في الظاهر وأعين البسطاء والحمقى.

واعلم بأنك لا تمتلك إلا أن تحكم وتتصرف في أجسادنا البالية في هذه الدنيا الفانية، أما العقول والقلوب والأرواح والإرادة التي تعبر عن جوهرنا وحقيقتنا، وفيها حريتنا الحقيقية وكرامتنا الإنسانية، فليس لك عليها سلطان ولا نفوذ، وليس لك علينا سلطة فيما بعد هذه الحياة الفانية، فلأذاك وعذابك إذاً حدود، وهي حدود هذا الجسد البالي وحدود هذه الدنيا الفانية التي سوف نرحل عنها جميعاً بحلوها ومرها نحن وأنت، وبأي سبب كان، فالأسباب عديدة لا حصر لها، وحقيقة الموت والرحيل عن هذه الحياة واحدة «تعددت الأسباب والموت واحد» وننتقل بعد تنفيذك حكم الإعدام فينا إلى الحياة الأخرى، حيث ينقطع منا أذاك وسلطانك، ونحمل معنا عزتنا وكرامتنا وإنسانيتنا كاملة غير منقوصة، ونتمتع بالنعيم الباقي والرضوان الإلهي العظيم وتنتقل أنت إلى الشقاء الأبدي في نار جهنم، فنكون نحن المنتصرين السعداء في الحقيقة، وتكون أنت الخاسر الشقي في الحقيقة كذلك.

وعليه: فنحن لا نخاف من أن نخسر هذه الحياة الفانية إذا كان ذلك في سبيل أن نربح الآخرة الباقية التي هي دار السعادة والشقاء الحقيقيين، ونقبل ما تلحقه بنا من الضرر القليل نسبياً، في مقابل ذلك الخير العظيم في الآخرة، وليس من المعقول والمنطقي أن نؤثرك وأنت الفقير العاجز والحقير الفاني على رب العالمين الذي خلقنا وأنعم علينا بالوجود والعقل ولا تمتلك في وجودنا وصفاتنا وأفعالنا أي استقلال عنه، أو نفضل دنياك الفانية وذل ولايتك على نعيم الآخرة الباقية وعز الإيمان والتوحيد.

وبهذا الكلام البليغ في منطوقه، العميق في مضمونه ومعناه، الرفيع في منزلته، كأنه يفور علماً وحكمة، وبهذا المنطق المحكم الذي يدل على أن موقفهم وتحولهم إلى الإيمان كان عن علم ويقين لا يقبل الشك، سقط وجود فرعون المعنوي وتهدم بنيانه، وخرجت دنياه وهيبته وسلطانه من النفوس السامية، ليعلو الحق والمنطق السليم والحقائق والحقوق والقيم العالية فوق المادة والأمر الواقع، وفيه دليل قوي على أنه جدير بالعاقل أن يوازن بين الله ذي الجلال والإكرام وبين سواه فلا يختار على الله سواه، وأن يوازن بين معطيات الحق وبين معطيات الباطل على جميع الأصعدة والآماد فلا يؤثر الباطل على الحق، وأن يوازن بين نعيم الدنيا ولذائذها وزخارفها وبين نعيم الآخرة الباقي ولذائذها الخالصة، وبين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة فلا يقدم الدنيا على الآخرة ويفضلها عليها، وأن لا تأخذه في الله والحق لومة لائم.


المصادر والمراجع

المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى