ظهور الإيمان بالله

<فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ>

لما ألقى موسى الكليم (عليه السلام) عصاه، وابتلعت كل ما جاء به السحرة، ورأى السحرة ما كان من شأن العصا، وهم أهل الفن والعالمون بأسراره، ولم يروا من قبل مثل هذا المشهد، تحقق الحق وعلموا يقيناً بأن ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) ليس من قبيل السحر، بل هو آيات ومعجزات تقف وراءها قوة مطلقة فوق الطبيعة وفوق الإنسان وطاقته وقدراته، وبعيدة كل البعد عن التمويه والخداع والتضليل الذي يقوم عليه السحر دائماً، وأن موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) نبيان إلهيان يتحليان بالصدق والنزاهة والأمانة، ويحملان رسالة صادقة من رب العالمين إلى الناس أجمعين.

ولم يتمالك السحرة أنفسهم، فقد غشيهم الحق بظهوره، وبهرت آياته عقولهم، وذللتهم القدرة الإلهية بتجليها، فأطاحت بكل ما كانوا يحملونه لفرعون من عزة وسلطان ومنزلة، وبكل ما عنده من زينة الحياة وزخرفها، واستولت على قلوبهم، فأزالت عنها الخوف والقلق والملق والأهواء، ومكنت فيها الحق والخير والصدق والشجاعة، فلا يريدون إلا ما أراد الله سبحانه وتعالى، ولا يرجون إلا ما عنده، ولا يخافون أحداً سواه، فخروا بشكل تلقائي على وجوههم سجداً لرب العالمين، كأنهم لا إرادة لهم تعظيماً لما رأوا، وتائبين عما صنعوا، وقيل: رأوا في سجودهم منازلهم في الجنة، فقالوا: <آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ>[1] أي: أظهروا الإيمان بتوحيد الربوبية، وبالنبوة والرسالة، وأعلنوا صراحة أمام الجميع، وبشكل واضح جلي، وبتعابير لا يشوبها الغموض أو الإبهام، وكانوا في كامل الاستعداد للتضحية من أجل ما عرفوه من الحق، وآمنوا به وتيقنوه عن علم ودليل صحيح؛ لأنهم كانوا يعلمون بأن إظهارهم للإيمان وإعلانه أمام الجماهير، لن يرضي فرعون وسيغضبه كثيراً عليهم، ويدفعه لإنزال أشد العقوبة بهم، لما يمثله ذلك من تحدٍ لدعاويه، وخطر على نظامه وسلطته، ولكنهم فعلوا ذلك، ولم يقنعوا أو يرضوا من أنفسهم بمجرد الإيمان القلبي، وذلك لكي يقتدي بهم الناس ويرجعوا عن ضلالهم الذي شاركوا هم في ترسيخه بسحرهم ويؤمنوا بالحق، فيخرجوا بذلك من الواجب: العقلي والشرعي عليهم، ولا تبقى على عاتقهم مسؤولية من هذه الجهة، وبذلك: وقع الحق وظهر وأضاء، وبطل السحر والمكر والكيد والتضليل والخداع وسلطان القهر والقوة، وهوى كبرياء فرعون وجبروته وسلطانه إلى الحضيض في ذلك المشهد العظيم، وفصلت النتيجة بالدليل القطعي بين المتخاصمين، فكانت حجة ورحمة للمؤمنين، وخزي وعار ونقمة على الكافرين والمعاندين.

ونسبة الرب إلى هارون وموسى (عليه السلام) وهو عينه رب العالمين، لئلا يحصل اللبس ويتوهم أن مرادهم فرعون أو أمثاله من الأرباب الوهميين المزعومين، وذكرهم هارون قبل موسى (عليه السلام): <آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ>[2] رغم علمهم بتقدم موسى (عليه السلام) وزعامته لهارون (عليه السلام) ربما يؤشر على قيام الدليل المستقل على نبوة هارون (عليه السلام) وللتأكيد على وجوب الإيمان بنبوتهما معاً وشراكتهما في الرسالة، بحيث يكون نكران نبوة أحدهما نكراناً لنبوة الآخر.


المصادر والمراجع

  • [1]. طه: 70
  • [2]. نفس المصدر
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى