مغالطة فرعون وحرفه مجرى الحوار
<قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ>
ولأن فرعون كان يدرك تماماً الأبعاد المعرفية والعملية الخطيرة جداً على مستقبل نظامه الفرعوني الملكي في كلام موسى الكليم (عليه السلام) ولسلامة المنطق الرصين الذي يقوم عليه بحيث لا يمكن نقضه بالدليل والبرهان، فحاد عن الطريق السوي في الحوار الذي يكشف عن الحقيقة للبحث عنها، ويوصله إليها، وعمد إلى المشاغبة التي يلجأ إليها السياسيون الدنيويون والمجادلون في الحق بالباطل، حرصاً منهم على مصالحهم الدنيوية العاجلة الفانية، وللبقاء في السلطة والاستمرار فيها والعلو في الأرض بغير الحق، فحاول أن يغير مجرى الحوار، فقد حاول أن يغير مجرى الحوار من حيث الموضوع والمنهج، فقال: <فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى>[1].
فمن حيث الموضوع: حاول نقل الحوار من موضوع الربوبية إلى موضوع مصير الأمم البائدة والأجيال الماضية، الآباء والأجداد الذين ماتوا وانتقلوا من هذه الحياة، ولم يقروا برب موسى وهارون (عليهما السلام) الذي يتحدثان باسمه ويزعمان أنهما يحملان رسالة منه إلى فرعون وملئه وقومه، ولم يكونوا يعرفون عنه شيئاً، وكانوا على نفس الدين والحال الذي عليه فرعون وملؤه وقومه؟ أي: ما هو مصيرهم و ما هو حالهم بالنسبة إلى السعادة والشقاء والنجاة والهلاك؟
ومن حيث المنهج: حاول نقل الحوار من الأسلوب العقلي الاستدلالي المنطقي الهادئ الرصين إلى الأسلوب العاطفي الانفعالي، والهدف هو: تهييج العاطفة لدى ملئه وقومه عن طريق إثارة التعصب الأعمى للتراب والآباء والأجداد، وإثارة الحمية الجاهلية لديهم؛ لتعطيل عملية التفكير والاستدلال المنطقي لديهم؛ لكي لا يقبلوا من موسى الكليم وهارون دعوتهما ورسالتهما؛ وليتمكن من استخفافهم وتحريضهم على موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) ورسالتهما وقومهما وكل من يتعاطف معهما ومع دعوتهما ورسالتهما.
وهذا يدل على ذكاء فرعون وحذاقته في الفهم والإدراك العلمي والعملي، وأنه محاور قوي وداهية في إدارة أطراف الحوار وتوجيهها بما يخدم أغراضه الخاصة، على خلاف ما عليه الكثير من ملوك وفراعنة العصر؛ لأنهم بقايا عصر مضى حيث سيطر أجدادهم على الملك بالقوة وفرضوا حكم الأمر الواقع على الناس، ثم ورثوه لأبنائهم جيلاً بعد جيل، بعد أن وطؤوا لهم الأمر، وليس بالضرورة أن يمتلك الأبناء كفاءة وقدرات ومواهب المؤسسين، وكان استمرار النظام الملكي وبقاء الأبناء في السلطة، في زمان يحمل ثقافة مغايرة، ويعتبر النظام الملكي نظاماً سخيفاً في نفسه وغريباً على ثقافة العصر، وبفضل عوامل قاومت التغيير، ولكنها إلى زوال حتماً، فلا يمكن أن تؤسس أنظمة ملكية جديدة، والباقي منها سيقاوم إلى حين، أي: حتى تتكامل العوامل التي قاومت التغيير، وبعضها سيتحول إلى وجود صوري قبل أن يزول، ثم يزول نهائياً.
كما يكشف أسلوب فرعون ومحاولته تغيير مجرى الحوار من حيث الموضوع والمنهج، عن خبث شديد في محاربة الحق وتكريس الأنانية والمصالح الخاصة على حساب العدل والمصالح العامة للناس، وتضليل الرأي وجعل الناس يقفون المواقف التي يظهرون فيها وكأنهم في الحقيقة أعداء لأنفسهم ومناهضون لمصالحهم الجوهرية والحقيقية، وأعداء شرسين للأولياء الصالحين والمصلحين الشرفاء الذين يسعون ويضحون من أجل الصلاح العام وراحة الناس وازدهارهم وسعادتهم، وهي من الأساليب التي يعمل بها الفراعنة الخبثاء المجرمون في طول التاريخ وعرض الجغرافيا؛ للحفاظ على مصالحهم الأنانية الخاصة؛ ولاستمرار بقائهم في السلطة وحصولهم على المزيد من المصالح والامتيازات، حيث إنهم يعملون كما يعمل الشيطان تماماً في إضلال الناس، فإنهم يأتون للتأثير على العالم عن طريق العلم والمنطق، وللعابد عن طريق الطاعة والعبادة، وللمتدين عن طريق الدين والبدع والأخلاق، وللطامع والانتهازي عن طريق الجاه والمنصب، وللتاجر عن طريق المال والثروة، وللمتعصب عن الطريق التراث، ونحو ذلك، ولا ينجو من إضلالهم إلا الواعي البصير الخبير بأساليبهم الخبيثة ومكرهم ودسائسهم، عصمنا الله (جل جلاله) منهم ومن مكرهم وحبائلهم وخدعهم.
المصادر والمراجع
- [1]. طه: 51