بنود الرسالة الإلهية إلى فرعون

<فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنا رَسُولَا رَبكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسرائيل وَلَا تُعَذبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبكَ وَالسلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتبَعَ الْهُدَىٰ 47 إِنا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَن الْعَذَابَ عَلَىٰ مَنْ كَذبَ وَتَوَلىٰ>

بعد أن طمأن الله (عز وجل) موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) من مخاوفهما، أوضح لهما بدقة بالغة ووضوح تام، تمام مضمون الرسالة الإلهية التي يحملانها إلى فرعون الطاغية، وتتضمن النقاط الرئيسية التالية:

1. <إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ>[1]، أي: إنك عبد من عباد الله سبحانه وتعالى، هو الذي خلقك ويملك أمرك ويدبر شؤونك كلها، بيده حياتك وموتك، وأن يعطيك أو يمنعك، فرزقك ومعاشك بيده لا بيدك ولا بيد غيرك سواه، وأنت لست بإله أو ابن آلهة، ولست برب للناس، ولا يصح منك بحكم العقل ولا يجوز لك بحكم الشرع الإلهي ادعاء ذلك، وإنا نحمل إليك رسالة من ربك الذي هو رب العالمين، وأن عليك بحكم العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم أن تؤمن به وتسلم إليه وتخضع لإرادته فيما تفعل وفيما تترك؛ لأنه الخالق لك والمالك لأمرك والمدبر لك والمنعم وصاحب الحق والفضل عليك من جميع الوجوه وجميع الجوانب، وأن تكف عما تزعم من صفتي الألوهية والربوبية التي تنسبها لنفسك بغير حق ولا حجة ولا دليل ولا برهان.

وأن في طاعتك له والتسليم لأمره ونهيه كمالك الإنساني، وخيرك وصلاحك ومصلحتك وسعادتك الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة، وفي تكذيبك بالرسالة وإصرارك على العناد والاستكبار والبقاء على دعوى الألوهية والربوبية هلاكك وشقاؤك في الدارين الدنيا والآخرة، أي: دعوة إلى الإسلام الحنيف والتوحيد والفضيلة والأعمال الصالحة، بغية نجاته من الهلاك والشقاء وتحصيل الخير والسلامة والسعادة الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة، يقول آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: «والجميل هنا أنهما بدل أن يقولا (ربنا) فإنهما يقولان (ربك)؛ ليثير عواطف فرعون وإحساسه تجاه هذه النقطة، بأن له رباً، وأنهما رسولاه، ويكونان قد أفهماه بصورة ضمنية أن ادعاء الربوبية لا يصح من أي أحد فهي مختصة بالله»[2].

2. <فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ>[3]، أي: ليس لك الحق في استعبادهم وفرض سلطتك عليهم بغير رضاهم وعلى خلاف ما يأمرك به الله سبحانه وتعالى ربك وربهم وينهاك عنه، فأنت عبدالله مثلهم، وإن الحكومة والسلطة لا تفرض على الناس بالقوة والإكراه وبحكم الأمر الواقع، بل يجب أن تنبع من إرادتهم واختيارهم وتجري وفق أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه، وليس وفق أمر غيره ونهيه، فالشرعية للحكومة تستمد من مصدرين: الله سبحانه وتعالى، ورضا الناس وإرادتهم واختيارهم.

فالحكومة الشرعية لا تكون إلا حكومة إلهية إلا أنها لا تفرض على الناس بالحديد والنار، وإنما برضاهم واختيارهم، فإن قبلوا ما رضيه الله رضي عنهم وأثابهم، وإن لم يقبلوا ما رضيه الله لهم لم يرضَ عنهم وعاقبهم، وعليه: فإن فرض حكومتك وسلطتك عليهم يا فرعون بغير رضاهم وعلى خلاف إرادتهم ومصلحتهم، والحكم فيهم واستضعافهم وإذلالهم وتعذيبهم وذبح أبنائهم الذكور واستحياء نسائهم؛ للخدمة والمتعة الجنسية، وتسخيرهم واستخدامهم في الأعمال الشاقة، وتكليفهم ما لا يطيقون، والتمييز بينهم وبين المواطنين الأقباط في الحقوق والواجبات وأمام القضاء، وفرض الإقامة عليهم في مصر وحرمانهم من حق الهجرة والسفر، ونحو ذلك من صنوف الظلم والتعذيب والاستضعاف والإذلال وانتهاك حقوق الإنسان، ليس لك فيه أدنى حق، وليس من صلاحيات الحكم والسلطة، وليس في مصلحتك ولا في مصلحة الدولة، ويجر عليك أو على نظامك وحكومتك وملكك الدمار والهلاك والزوال، فيجب عليك أن تتوقف عنه فوراً وتماماً.

وعليك أن تحرر بني إسرائيل وتخلي سبيلهم وترفع يدك عنهم وترفع عنهم حظر السفر والهجرة، وتترك لهم أن يقرروا لأنفسهم بأنفسهم وبحسب اختيارهم مصيرهم، ويختاروا دينهم وعقيدتهم وحكومتهم بما يعكس قناعتهم الداخلية الحقيقية ويرون فيه كمالهم الإنساني، وخيرهم وصلاحهم ومصلحتهم وسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة.

وأن يكون لهم حق الإقامة في مصر والهجرة منها إلى الأرض المقدسة فلسطين، التي هي موطن جدهم إسرائيل «يعقوب» (عليه السلام) قبل هجرته إلى مصر في عهد حكومة ولده يوسف الصديق (عليه السلام) في القرن الثامن عشر «18» قبل الميلاد. أي: قبل أكثر من أربعمائة سنة تقريباً، والتي أمرهم الله   (جل جلاله) بالهجرة إليها من جديد والسكن فيها.

أي: طالبه بالحرية والعدالة والحياة الطيبة الكريمة وحق تقرير المصير لبني إسرائيل، وهذا يمثل البعد العملي في الرسالة الإلهية، كما أن الدعوة إلى التوحيد تمثل البعد النظري في الرسالة، وهو يدل على أهمية البعد الاجتماعي والعملي في الرسالات السماوية حيث يضفى عليها الواقعية ويربط الرسالات بواقع الحياة وإصلاحها وتنميتها وتطويرها، فلا يكفي أن يهتم الرسل الكرام (عليهم السلام) والدعاة بالجوانب الفكرية والروحية والأخلاقية، بل يجب عليهم أن يهتموا أيضاً بالجوانب العملية في الحياة، الإصلاح الشامل لجوانب الحياة، وتحقيق الرخاء والازدهار، والأمن والسلامة، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وضمان كافة حقوقه الطبيعية والمكتسبة، ورفع صنوف الظلم والاستضعاف والإذلال والطغيان والعدوانية عنه، وأن يكون له حق اختيار العقيدة والنظام السياسي والحكومة، وحق العبادة وإقامة الشعائر، وحق تقرير المصير، قول الله تعالى: <وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرجَالِ وَالنسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الذِينَ يَقُولُونَ رَبنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا>[4].

والطرح يدل أيضاً على سلمية المنهج الذي سلكه موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) وسارا عليه واتبعاه في الدعوة إلى التوحيد والمطالبة بالحقوق الواقعية المشروعة، مدعوماً بمنطق العقل والفطرة والوجدان الإنساني السليم، فلم يستخدما العنف والقوة، وإنما استخدما الحوار والدليل والحجة والبرهان على صحة الدعوة وواقعية المطالب وشرعيتها، مما يدل على كذب دعوى النظام بأن غاية موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) ومعهما بني إسرائيل هي إسقاط النظام الفرعوني بهدف الاستيلاء على السلطة وإقصاء أنصار فرعون عن المناصب والوظائف العامة الرئيسية في الدولة، وطرد الأقباط من أرضهم وديارهم ووطنهم بغية الاستئثار بالسلطة والثروة والمقدرات دونهم، وذلك لأنهم نظروا إلى موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) بعين طبعهم، وأسقطوا عليهم أخلاقهم وأسلوبهم في الحياة والحكم وغاياتهم وأهدافهم منهما «الحياة والحكم»، ولو كان موسى الكليم (عليه السلام) يريد إسقاط النظام الفرعوني والسيطرة على الحكم والاستئثار بالسلطة والثروة والمقدرات كما يزعمون، لما رغب في الهجرة مع قومه من مصر إلى أرض فلسطين، فقد أراد الهجرة مع قومه إلى أرض فلسطين، وأراد فرعون أن يمنعهم ويحول بينهم وبين الهجرة، وتبعهم بجيش ضخم بغية إرغامهم على العودة إلى مصر والاستمرار في إخضاعهم إلى سلطته، واستخدامهم في الأعمال الشاقة والوضيعة التي يستنكف عنها الأقباط ويرفضون القيام بها؛ لأنهم يعتقدون في أنفسهم بأنهم أشرف وأسمى من أن يعملوا فيها، فإن فشل في إجبارهم على العودة قام بتصفيتهم والقضاء المبرم عليهم ومحوهم من صفحة الوجود.

وزعم أن موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) وبني إسرائيل يريدون الهجرة إلى أرض فلسطين من أجل إعادة بناء صفوفهم وقومهم، وتشكيل تحالفات مع غيرهم يتقوون بها، ثم يهاجمون الأرض المصرية لإسقاط النظام الفرعوني والقضاء عليه ثأراً لأنفسهم مما سبق أن لحقهم من الظلم والاستضعاف والإذلال من فرعون ونظامه ودولته وحكومته وقومه الأقباط.

وهذا النمط من التفكير المريض يدل على تعجرف فرعون وحزبه المجرمين وغرورهم بما لديهم من السلطة والقوة والثروة والنفوذ، وما يتمتعون به من ظلم وطغيان وفساد يكشف عن روح عدوانية شريرة، ويكشف عن الهواجس والهوس والعقد النفسية التي تعيشها الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة والقائمون عليها ضد المعارضين لهم، ويكشف عن طبيعة التفكير والأخلاق والسياسة الفرعونية في التمييز والإقصاء وغيرها، وإسقاط ذلك كله على غيرهم والنظر إليهم بعين طبعهم.

3. <قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ>[5]، أي: إننا لا نتكلم اعتباطاً أو جزافاً أو من فراغ أو ندعي شيئاً لا حقيقة له ولا دليل عليه، بل جئناك بمعجزات نيرات باهرات قاهرات عظيمات، وحجة بالغة كافية، ودليل ساطع قاطع، تدل على أنها من رب العالمين الذي هو ربك الأعلى الذي خلقك، وبيده تدبير أمورك كلها، وتثبت صدق دعوانا النبوة وصدق الرسالة التي نحملها إليك من ربك الأعلى رب العالمين سبحانه وتعالى، فليست دعوانا النبوة كاذبة، وليست دعوانا بحملنا الرسالة إليك من رب العالمين كاذبة، وليست مطالبنا الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية باطلة أو غير واقعية أو غير مشروعة أو غير منطقية، بل هي صادقة ومشروعة ومنطقية وواقعية، ونملك الحجة والدليل القاطع على صدقها وحقانيتها، وأنه بحسب العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم يجب عليك أن تتأمل كثيراً فيما جئناك به وتمعن النظر فيه وتطيل التفكير ولا تتعجل بإنكاره ورفضه، وعدم قبولها قبل أن تتثبت وتتبين ما فيه من الحق أو الباطل، الصواب أو الخطأ، بدليل وحجة وبرهان، فهذا ما يفرضه عليك العقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم.

وهذا يدل على ضرورة امتلاك الدعاة والمصلحين الحجة البالغة والدليل الصحيح والبرهان الساطع على صحة رسالتهم وعدالة قضيتهم وشرعية مطالبهم وواقعيتها، ولا يعتمدون فيها على المناكفة والخصومة بدون واقعية ومشروعية وعدالة، فتكون الحجة لخصمهم عليهم بدل أن تكون الحجة لهم على خصمهم، فيخالفون بذلك العقل والمنطق والفطرة والضمير والوجدان والطبع السليم ويكونون من إخوان الشياطين الضالين الآثمين، ويكون موقفهم ضعيفاً أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، ويتحملون المسؤولية الدينية والإنسانية عن الخسائر المادية والبشرية والمعنوية، ويتحملون أوزارها في الدارين الدنيا والآخرة.

علماً بأن ضعف الحجة والبيان الناتج عن قلة الكفاءة والإهمال والتقصير في الواجبات يترتب عليه إضعاف القضية العادلة والفشل في الوصول إلى تحقيق المطالب المشروعة الواقعية، ويؤدي إلى ضياع الجهود والتضحيات، ويتحمل القائمون عليها المسؤولية الكاملة عن ذلك.

فلا ينبغي لمن لا يتوفر على الكفاءة والكسول أن يتصدى وينافس أصحاب الكفاءة والناشطين ويشوش عليهم تحت تأثير حب البروز والزعامة، مستفيداً من بعض العوامل الغريبة لصالحه، مثل: التعصب القبلي أو المذهبي أو التقليد الأعمى أو الجاه أو المكانة الاجتماعية الموروثة لطائفة من الناس أو لأفراد ونحو ذلك على حساب القضية والمصلحة العامة، فإن ذلك مخالف للعقل والمنطق وهو من الرذائل المخالفة للأخلاق الحميدة والأمانة والصدق والإخلاص والوفاء والفطرة والطبع السليم وفيه متاع قليل ثم يتبعه ألم شديد.

والخلاصة: إن أهمية الحجة والبيان لا تقل عن أهمية الحركة على الأرض والتضحيات، وإن الحركة والتضحيات بدون حجة قوية وبيان واضح بليغ يجعل الحركة والتضحيات العظيمة عرضة للفشل والضياع.

4. <وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ>[6]، أي: إنك إن آمنت بالله سبحانه وتعالى ووحدته وسلمت إليه، واتبعت الدين الإلهي الحق، وسلكت الصراط المستقيم والنهج القويم والطريقة الوسطى وعملت بالشرع المبين، واستجبت لمطالب بني إسرائيل العادلة المشروعة الواقعية المدعومة بالعقل والمنطق وأعطيتهم كافة حقوقهم المشروعة الطبيعية والمكتسبة، فأنت سالم وآمن على نفسك من الهلاك والعذاب الأليم والشقاء الكامل في الدارين الدنيا والآخرة، ومحفوظ لك ملكك وسلطانك، أي: لا ترى مكروهاً في الدارين الدنيا والآخرة؛ لأن الأمن والسلامة الحقيقية والواقعية بحسب العقل والمنطق والحقائق الإلهية والسنن الكونية والتاريخية تدور مدار الهداية، أي: تدور مدار معرفة الحق والعمل بمقتضاه.

وفي هذا القول تأكيد على الحياة في العالم الآخر، وترغيب واستمالة فرعون للإيمان بالحق والعمل به.

أما إذا عاندت وكابرت وأصريت على الكفر والضلال وعلى ما تزعم من صفتي الألوهية والربوبية والتجبر والبغي والطغيان والعدوان والإضلال بغير الحق والإفساد في الأرض، ولم تؤمن بالحق ولم تذعن له ولم تسلم به، فإنك سوف تخسر الدارين الدنيا والآخرة، وتصير إلى الهلاك والشقاء فيهما؛ لأنك خالفت العقل والمنطق والفطرة والوجدان والطبع السليم والحقائق الإلهية والسنن الكونية والتاريخية، ولأن الشعب الإسرائيلي قد سرى فيه الوعي، وعزم على الرفض والمقاومة والتحرر، وهو مستعد إلى البذل وتقديم التضحيات اللازمة من أجل تحرره وتحصيل حقوقه وامتلاك حق تقرير مصيره بنفسه وبإرادته التامة واختياره، وأن الله (عز وجل) قد وعدهم بالتأييد والنصر عليك، وهلاكك واستخلافهم في البلاد بدلاً عنك وعن قومك الذين يقفون إلى صفك ويساندونك في بغيك وطغيانك وعدوانك وظلمك لبني إسرائيل واستعبادهم واستضعافهم وإذلالهم وتسخيرهم واستخدامهم في الأعمال الشاقة والوضيعة، والله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده، وهو قادر على كل شيء، فما وعد الله (عز وجل) به بني إسرائيل كائن لا محالة، وفي ذلك تحذير واضح وترهيب وإنذار واقعي ومنطقي من مغبة العناد والمكابرة والاستهانة بشأن موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) وما جاءا به من الحجة والمعجزات والبراهين من عند رب العالمين والاستهانة بقضيتهم العادلة ومطالبهم الواقعية المشروعة.

5. <إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى>[7] أي: إن جميع ما جئناك به ليس من عند أنفسنا، بل هو وحي مقدس من عند الله رب العالمين سبحانه وتعالى أوحى إلينا به، وفي ذلك تأكيد على عقيدة الوحي والنبوة بالإضافة إلى عقيدة التوحيد والبعث والحساب، وفيه أيضاً: أن سنة الله (عز وجل) في الخلق والتدبير للمسيرة التكاملية للإنسان، بأن عذاب الهلاك والاستئصال في الحياة الدنيا واقع لا محالة على القوم الذين يعاندون ويستكبرون على الحق وأهله ويكذّبون بآيات الله   (جل جلاله) ومعجزاته النيرة الباهرة ويعرضون عنها وكأنها لم تكن بعد أن تأتيهم وتقام بها الحجة البالغة عليهم، وذلك لتطهير الأرض من المجرمين وضمان حق المؤمنين في الهداية رحمةً بهم، فقد ثبت بالدليل حقيقة كونهم مجرمين، وأنهم يشكلون خطراً حقيقياً وجدياً على الإنسانية والمسيرة التاريخية التكاملية للإنسان، واستحقاقهم العذاب.

وفي المقابل: حق الصالحين في الهداية والرحمة، فوجب على الله إهلاكهم وتطهير الأرض من رجسهم، لكي تتحقق غاية الخلق، وهي: وصول الإنسان إلى كماله الإنساني المقدر له، المعرفي والروحي والتربوي والحضاري، أي: إيجاد الفرد الكامل والمجتمع الكامل، قول الله تعالى: <وَمَا خَلَقْتُ الْجِن وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ>[8] أي: إن الغاية من خلق الإنسان هي العبادة، والمراد العبادة الكاملة، عبادة الفرد الكامل والمجتمع الكامل، وفي ذلك دليل على أن النعيم والسعادة الحقيقية في الحياة الدنيا ليست في الملك والسلطة والنفوذ والقوة والثروة وزخارف الحياة الدنيا وزينتها، بدليل أن الذين يتمتعون بهذه الأشياء كثيراً ما يعيشون الضيق، وقد يلجأون إلى الانتحار، قول الله تعالى: <وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِن لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا>[9]، وأن النعيم الحقيقي والفرح الروحي الغامر والسعادة الحقيقة إنما تحصل بالإيمان واليقين حتى مع ضيق المعيشة وسوء الأوضاع، فالإنسان يشعر بالقلق والضيق مع وجود السلطة والثروة، وقد يقوده الشعور بالضيق إلى الانتحار والتخلص من الحياة؛ لأنه فاقد للإيمان واليقين.

بينما يشعر الإنسان بالأمن والطمأنينة والسكينة وهو في أشد أوقات المحنة والنكبة ويواجه الصعوبات والعقبات والمشاكل الجمة، ويعيش الأمل ويتوقع الفرج في كل ساعة؛ لأنه يمتلك الإيمان واليقين.

وبالإضافة إلى عذاب الهلاك والاستئصال في عالم الدنيا، فإن المعاندين الذين يستكبرون على الحق وأهله، ويكذبون بآيات الله ويعرضون عنها، فإنهم يدخلون إلى أشد العذاب في الدرك الأسفل في نار جهنم خالدين فيها أبداً.

وفي ذلك تأكيد على البعث والنشور والحياة الخالدة بعد الموت، وأن السعادة والشقاء والنعيم والعذاب في العالم الآخر، يقومان على ما يعتقده الإنسان، وعلى أخلاقه وخصاله، وعلى أعماله التي يعملها في الحياة الدنيا، وأن الأمن والسلامة والنعيم والسعادة هي من نصيب المؤمنين بالتوحيد والنبوة واليوم الآخر، السالكين لطريق الهداية والصراط المستقيم والنهج القويم والطريقة الوسطى، الذين يتبعون أئمة الحق والهدى، ويتبرؤون من الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدين وأئمة الضلال، ويتحلون بالأخلاق والخصال الحميدة، ويعملون الخيرات والصالحات.

وأن الخوف والهلاك والعذاب والشقاء، هي من نصيب الكافرين بالتوحيد والنبوة واليوم الآخر، السالكين طريق الضلال المنحرفين عن الصراط المستقيم والنهج القويم والطريقة الوسطى إلى التطرف والجريمة والإرهاب، والذين يتبعون الطواغيت وأئمة الجور والضلال، ويتحلون بالأخلاق السيئة والخصال المذمومة، ويعملون الأعمال الشريرة ويرتكبون الجرائم والجنايات بحق الأبرياء؛ بسبب التعصب أو من أجل المصالح الدنيوية العاجلة ونحو ذلك، وعليه: فالأمن والسلامة والنعيم والسعادة هي لأهل الإيمان واليقين، وليست لأصحاب السلطة والثروة والجاه والمناصب ونحو ذلك كما توهّم الطواغيت والفراعنة المتجبرون والحكام المستبدون والمترفون المستغلون والانتهازيون الأنانيون والنفعيون المتسلقون ونحوهم، قول الله تعالى: <وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا 32 كِلْتَا الْجَنتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا 33 وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَز نَفَرًا 34 وَدَخَلَ جَنتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُن أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا 35 وَمَا أَظُن الساعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبي لَأَجِدَن خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا>[10]، فهذا الجاهل المغرور الطائش، لم يشكر نعمة الله تبارك وتعالى السابغة عليه، بل كفر بالله سبحانه وتعالى وباليوم الآخر، وزعم أنه لو كانت هناك حياة ثانية وعاد فيها إلى الله (عز وجل)، فإنه سوف يكون في حال أفضل ويحصل فيها على الكثير من النعم، مستنداً في ذلك ليس على إيمانه وعمله الصالح، بل على مكانته وما في يديه من الثروة والسلطة والقوة والنفوذ، قوله: <أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا>[11]، متجاهلاً حقيقة كون الدنيا دار ابتلاء وامتحان يمتحن فيها بما يُعطى في يده من الأموال والثروة والسلطة والجاه والمكانة الاجتماعية، والآخرة دار الجزاء على عمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

فما عليه هؤلاء الضالون هو الجهل والغرور بعينه، وهو بعيد كل البعد عن العقل والمنطق والحقائق والسنن الإلهية في الخلق، وتقوم على الأوهام والتخيلات الباطلة والخرافات البعيدة عن الواقع بعد المشرقين والمغربين.

وعليه: فإن موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) قد أوصلا إلى فرعون الطاغية ما يلي:

–   أصول العقيدة كاملة: التوحيد النبوة والمعاد، وأن السلامة والسعادة الحقيقية تدوران مدار الإيمان بالدين الإلهي والأعمال الصالحة في الدارين الدنيا والآخرة، وليس مدار السلطة والثروة والجاه والمناصب ونحوها.

–   اشتمل كلامهما إليه وإلى قومه على التبشير والإنذار، التبشير بالأمن والسلامة في الدارين لكل من آمن وأطاع، والإنذار بالهلاك والشقاء في الدارين لكل من عاند واستكبر وأصر على الكفر والأعمال السيئة ومخالفة الحق.

–   الاستهانة بالمظاهر المادية والزخارف الاستعراضية الجوفاء الفارغة، والعزة الكاذبة بالسلطة والثروة والقوة والجند وكثرة الأتباع والأنصار ونحو ذلك، والهيبة الموهومة للنظام الفرعوني والبساط الملكي وما فيه من الزخارف والبهرجة والزينة ونحو ذلك، في مقابل نعيم الآخرة وجلال وجمال وزينة عالم الروح والقيم والأخلاق.

–   التقليل من خطر وقيمة ما يمتلكه فرعون الطاغية وحزبه المجرمون من القوة المالية، والعسكرية، والبشرية، والخطط الجهنمية والتكتيكات المتقنة، العسكرية والأمنية والسياسية وغيرها، في مقابل قدرة الله (عز وجل) المطلقة وكيده الخفي ولطفه في مكره وجنوده في الأرض والسماء، مثل: الملائكة، والطوفان، والعواصف، والزلازل والبراكين، وجميع الكائنات الحية، وجميع الموجودات الكبيرة والصغيرة، القريبة والبعيدة، ما ترى وما لا ترى، وغير ذلك.

الجدير بالذكر: أن ما صدر عن موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) من التبشير والترغيب، والإنذار والترهيب، لا ينافي ما أمرهما الله   (جل جلاله) به من مراعاة مقام فرعون الملكي، ومخاطبته برفق ولين، ومراعاة أدب الخطاب معه؛ لأن مراعاة المقام ومراعاة أدب الخطاب لا تعني المداهنة وإخفاء الحقائق وإعماءها بما يوقع في الوهم واللبس، فهذا من الخيانة لأمانة الكلمة والصدق والإخلاص، وهو مخالف للحكمة ولمقتضى الهداية للحق التي تقوم على بيان الحقائق وتمييزها عن كل باطل.

والهداية هي الوظيفة التي يقوم عليها الأنبياء الكرام والأوصياء الطاهرون الراشدون والأولياء الصالحون (عليهم السلام)، والتي بعث لأجلها موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) وأُرسلا إلى فرعون وملئه، ومقتضاها بيان الحقائق كما هي بكل وضوح وصراحة، وبعيداً عن كل لبس أو غموض، يقول آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: «من الممكن أن يتوهم متوهم عدم تناسب هذه العبارة، يعني <إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ>[12] والحوار الملائم اللذين كانا قد أمرا بهما، إلا أن هذا خطأ محض، فأي مانع من أن يقول طبيب حريص بأسلوب مناسب لمريضه: كل من يستعمل هذا الدواء سيشفى وينجو وكل من يتركه فسينزل به الموت. إن هذا بيان لنتيجة التعامل غير المناسب مع واقع ما، ولا يوجد فيه تهديد خاص، ولا شدة في التعامل، وبتعبير آخر: فإن هذه حقيقة يجب أن تقال لفرعون بدون لف ودوران، وبدون أي تغطية وتورية»[13].

وعليه: فإن مراعاة المقام ومراعاة أدب الخطاب والحوار فضيلة، وبيان الحقائق كما هي عليه بدون لبس أو غموض فضيلة أخرى، ويجب إيجاد التوازن بينهما في الخطاب والحوار، أي: بدون الإخلال بأي منهما.

ومن المؤسف: فإن مثل هذا الوعظ والتنبيه والتذكير الصادق، إنما ينفع العقلاء الكرام، وليس الحمقى والجهلة والمغرورين اللئام، المستغرقين في حب الذات المتضخمة العفنة والأنانية النكراء، والمفصولين عن الواقع والحقائق، المعطلين للعقل والمنطق، المنحرفين عن الفطرة والطبع الإنساني السليم، الذين لا تنفع معهم آية أو معجزة أو بيان أو حجة أو دليل أو برهان، ولا يسمعون موعظة بالغة مؤثرة أو تذكير أو نصيحة صادقة من أحد، الذين قال الله تعالى عنهم: <وَإِن يَرَوْا كُل آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا>[14]، وقال الله تعالى عنهم: <وَقَالُوا لَوْ كُنا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنا فِي أَصْحَابِ السعِيرِ ١٠ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السعِيرِ>[15].


المصادر والمراجع

  • [1]. طه: 47
  • [2]. تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، جزء 10، صفحة 6
  • [3]. طه: 47
  • [4]. النساء: 75
  • [5]. طه: 47
  • [6]. نفس المصدر
  • [7]. طه: 48
  • [8]. الذاريات: 56
  • [9]. طه: 124
  • [10]. الكهف: 32-36
  • [11]. الكهف: 34
  • [12]. طه: 48
  • [13]. تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، جزء 10، صفحة 7
  • [14]. الأنعام: 25
  • [15]. الملك: 10-11
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى