القوة والضعف يدوران مدار العلم والإخلاص
الجدير بالذكر: أن الضعف والقوة في ذات الله (جل جلاله) والقيام بالواجبات الدينية، والنهوض بالمسؤوليات العامة، تدور مدار العلم والصدق والإخلاص، فكلما كان الإنسان أكثر يقيناً ومعرفة بالله ذي الجلال والإكرام، وأكثر صدقاً وإخلاصاً في إيمانه، والمعرفة اليقينية تولد بالطبع الصدق والإخلاص، وهي سابقة عليهما، كلما كان أكثر قوةً في ذات الله سبحانه وتعالى وثباتاً في مواقفه التي يتخذها على طريق الحق والعدل والخير والفضيلة والإصلاح والصلاح والمصلحة العامة، وأمام التحديات والعقبات والصعوبات والمشكلات والترغيب والترهيب ونحو ذلك، وأكثر استعداداً للتحمل والصبر والتضحية والبذل والفداء في سبيل ما يؤمن به ويدافع عنه ويطالب به، ولتحصيل النعيم الإلهي المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال والرضوان العظيم، والدخول إلى ساحة القدس الإلهي والنور والطهارة التي لا يدخلها إلا الطاهرون من أرجاس المعاصي والذنوب والآثام والشهوات الحيوانية والأهواء الشيطانية، المطيعون لله (جل جلاله) فيما يأمرهم به وينهاهم عنه في جميع شؤونهم العامة والخاصة وفي جميع الظروف والأحوال والأوضاع، والمطيعون كذلك لرسوله الكريم الناصح الأمين، ولأئمة الهدى الطاهرين المهديين (عليهم السلام) وللفقهاء المؤتمنين على الشريعة الإلهية، قول الله تعالى: <إِنا أَنْزَلْنَا التوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبِيونَ الذِينَ أَسْلَمُوا لِلذِينَ هَادُوا وَالربانِيونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا الناسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ>[1]، فالآية الشريفة المباركة تحدد ثلاث مرجعيات مؤتمنة على الدين والشريعة ومصالح الأمة، وتتحمل مسؤولية الدعوة إلى الدين الحق وتبليغه وبيانه للناس، وحمايته من التحريف والتبديل، والإشراف على تطبيقه بشكل صحيح في واقع الحياة، والمرجعيات هم: الأنبياء الكرام (عليهم السلام)، والربانيون وهم الأوصياء المحدثون الطاهرون المهديون (عليهم السلام)، والأحبار وهم الفقهاء العدول العاملون بالدين والشريعة عن طريق التعلّم والاكتساب، وهذا يدل على أن الدعوة والعمل يجب أن تستند إلى العلم الصحيح والحجة وليس إلى الظن والتخمين والخيالات الباطلة.
وفي المقابل، كلما كان الإنسان أكثر جهلاً، وأقل يقيناً ومعرفة بالله ذي الجلال والإكرام، وأكثر غفلة عنه ونسياناً له وبعداً عنه، وكلما كان أقل صدقاً في إيمانه وإخلاصاً لربه وتعلقاً به، – وقلة المعرفة وضعف اليقين، يترتب عليهما قلة الصدق والإخلاص بالطبع -، كلما كان أكثر ضعفاً في ذات الله ذي الجلال والإكرام وأقل ثباتاً في مواقفه التي يتخذها في الحياة على طريق الحق والعدل والخير والفضيلة والصلاح والإصلاح والمصلحة العامة، وأقل تحملاً وصموداً في مواجهة التحديات والصعوبات والمشاكل والمغريات والمرهبات، وأقل استعداداً للبذل والتضحية والفداء في سبيل ما يؤمن به ويدافع عنه ويطالب به، ويحركه في العادة المجاملة والتملق، والخوف والطمع والترهيب والترغيب، والتعصب والتقليد الأعمى، وذلك من الجاهلية الجهلاء، وبعيد عن الفضيلة ونور الإيمان وحقيقته وكماله.
والمعرفة اليقينية تدور مدار الكشف والرؤيا والمشاهدة، قول الله تعالى: <وَكَذَٰلِكَ نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السمَاوَاتِ وَالأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين>[2] أي: أدى الله تبارك وتعالى بنبيه الكريم وخليله إبراهيم (عليه السلام) وكشف لقلبه وبصيرته الحقائق العينية التي تدل على كمال الذات الإلهية المقدسة، وصفاتها صفات الجمال وصفات الجلال، وتنزهها عن العيوب والنقائص، وجهة انتساب السماوات والأرض وجميع الأشياء والموجودات في عالم الممكنات إلى الله ذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى.
أي: كشف لقلبه وبصيرته حقيقة كونها مخلوقة لله (عز وجل) وقائمة به وخاضعة لربوبيته وإرادته وتدبيره، وما فيها من عجائب الخلق والقدرة والدلالة الساطعة القاطعة على التوحيد؛ لمعرفة مقامي الألوهية والربوبية بالشهود والرؤيا القلبية، وهدايته لمعرفة طرق النظر والاستدلال الصحيح.
أي: جمع له العلم اللدني والشهود القلبي والعلم الكسبي البرهاني والتجريبي؛ ليكون في جميع الأحوال من الموقنين، كاملي اليقين في حقائق التوحيد، الراسخين في الإيمان البالغين أعلى مراتب الكمال، العاملين الصالحين، الناهضين بجميع التكاليف والمسؤوليات الدينية، الذين لا يخالط إيمانهم ويقينهم الشك والريب والتردد.
والآية الشريفة المباركة تدل على أن نور الله ذي الجلال والإكرام ظاهر على الدوام، قول الله تعالى: <اللهُ نُورُ السمَاوَاتِ وَالأرض>[3]، وأن الأرواح البشرية الشريفة الطاهرة النقية النظيفة مؤهلة لرؤية هذا النور ومشاهدته بطبيعتها، ولا تكون البشرية محرومة منه إلا لأجل حجاب منها يحجبها عنه، مثل: حجاب التعلق بعالم الدنيا والمادة والمصالح والمقاصد الفاسدة، والاستغراق في الشهوات الحيوانية والملذات الحسية والتأثر بالأهواء الشيطانية ونحو ذلك.
وعليه: فبقدر ما يزول من ذلك الحجاب تتأهل النفس ويحصل التجلي الإلهي ويستطيع ذلك النور الملكوتي الإلهي في قلب الإنسان، ويضيء روحه وكامل وجوده وكيانه، ويحصل له التوحيد العيني في الأشياء والإيمان الراسخ، وهذا يدل على أن حقيقة العلم اليقيني هي انكشاف ما وراء الحس من حقائق الكون العينية.
وأما الصدق والإخلاص فيدوران بعد المعرفة واليقين مدار حسن الطبع، ونقاء الفطرة وصفاء السريرة، والإدراك الواضح للعلاقة الوجودية الوثيقة والثابتة بين كمال الإنسان وخيره وصلاحه ومصلحته وسعادته الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، وبين معرفة الحقائق الإلهية والكونية والعمل بمقتضاها، فقد يكون الإنسان أو غيره على علم ويقين تام بالحقائق، ولكنه لخسته وسوء طبعه وفساد سريرته وتلوث فطرته يعمل على خلاف مقتضى الحقائق الوجودية الإلهية والكونية التي عرفها وتيقن منها، مثل: إبليس اللعين، وبلعم بن باعوراء الذي قال الله تعالى عنه: <وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ 175 وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرض وَاتبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الذِينَ كَذبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلهُمْ يَتَفَكرُون>[4].
روي أن بلعم بن باعوراء كان عالماً ربانياً بارزاً ومشهوراً من علماء بني إسرائيل المعاصرين لموسى الكليم (عليه السلام)، عُلِّم الاسم الأعظم، وعرف بكثرة الكرامات الخاصة الباطنية، وكان مستجاب الدعاء، فلما نزل موسى الكليم (عليه السلام) في المدينة التي يسكنها، جاء بنو عم بلعم بن باعوراء وقومه إليه، وكانوا لا يريدون التسليم والانقياد لموسى الكليم (عليه السلام)، فقالو لبلعم بن باعوراء: إن موسى رجل حديد ومعه جند كثير، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرده ومن معه عنا، وكان بلعم بن باعوراء يشاركهم الرغبة حسداً منه لولي الله الأعظم ورسوله الكريم (عليه السلام)، لكنه كان يخاف سوء العاقبة في الدارين الدنيا والآخرة، فقال لهم: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه، مضت أو خسرت دنياي وآخرتي.
فلم يتركه بنو عمه وقومه وحاولوا معه، ولم يزالوا يحاولون معه حتى دعا الله سبحانه وتعالى حسداً من نفسه على ولي الله الأعظم موسى الكليم (عليه السلام)، ونزولاً عند رغبات قومه الضالين عن جادة الحق والعدل والخير والفضيلة والصلاح والصواب، واتباعاً منه لأهواء النفس الشيطانية وشهواتها الحيوانية، وطمعاً في حطام الدنيا الفانية وزينتها وزخرفها، وحباً منه للرئاسة والزعامة والامتيازات المادية والمعنوية والصلاحيات الواسعة بدون حق، مخالفاً بذلك العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم والدين الحنيف وما كان يعلمه عن يقين من الحقائق والسنن الإلهية، فظهر بذلك الخبث الكامن من نفسه وسوء طبعه وفساد سريرته، وانسلخ بالكلية من إنسانيته وما كان عليه من العلم بآيات ربه الكريمة وبيناته الواضحة، كما تنسلخ الشاة أو الحية من جلدها، فطرد من ساحة القدس الإلهي كما طرد إبليس اللعين من قبله، قول الله تعالى: <قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنكَ مِنَ الصاغِرِين>[5]، فصار من الأشقياء التعساء، وقريناً للشيطان الرجيم، ومثله في الطباع والخصال والسلوك والمنهج، وأصبح من الغاوين المتمكنين من الغواية والكفر والضلال، والبعيدين عن الرشد والهدى والحكمة والصواب.
وعليه: ليس كل من يعلم يعمل بمقتضى علمه، والعلم وحده ليس بضمانة للنجاة وتحصيل السعادة، بل يجب أن يقترن العلم بالعمل.
وليس كل الضالين والظالمين جاهلين بحقيقة أعمالهم وسوء عاقبتهم في الدارين الدنيا والآخرة، فقد يضل البعض ويعمل على إضلال غيره عن علم ويقين بحقيقة ضلاله وسوء عمله، ولكنه يعاند ويكابر.
وهذان الفريقان من أكثر الناس سوءً وشقاء في الدارين، ويعانون من العذاب النفسي والروحي دائماً ولا يشعرون بالراحة أبداً، قول الله تعالى: <وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِن لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ>[6].
وهذه حقائق قيمة يجب أن يعيها المؤمنون؛ ليقفوا على حقيقة من يواجهون في الحياة، ويكونوا على يقين منهم، وفهماً لسلوكهم وتصرفاتهم ومقاصدهم الفاسدة في الحياة، وسوء عاقبتهم والذين يتبعونهم ويتأثرون بهم.
والخلاصة: لا تكفي المعرفة لتحصيل الانقياد والتسليم للحق والثبات والقوة في المواقف، وإنما يجب أن يقترن بالمعرفة الصدق والإخلاص، وهذا يحتاج إلى سلامة الطبع والفطرة ونقاء السريرة، وبهذا نستطيع أن نفهم حقيقة العصمة والتقوى، وتعني العصمة: توفر المعصوم على ملكة نفسانية قوية تمنعه من ارتكاب المعصية في جميع الظروف والأحوال، وهي تدور مدار العلم اليقيني التام الكامل وسلامة الطبع ونقاء السريرة والصدق في الإيمان والإخلاص الكامل في نية العمل، وهي لا تعني الجبر ولا تتنافى مع الاختيار.
وأما التقوى فهي الخشية والهيبة، وجعل النفس في وقاية مما يخاف منه ويحذر، وتنزيه القلوب من الذنوب، وهي تجمع الشروط الثلاث: العلم والإخلاص ونقاء السريرة.
ويمكن في هذا الصدد الإشارة الإجمالية وباختصار شديد إلى العوامل الرئيسية التي تحدد أنماط الشخصية وما تتمتع به من قوة وضعف وثبات وتراجع في المواقف، وهي:
- 1. الوراثة.
- 2. التربية الذاتية والأسرية والمجتمعية.
- 3. المعرفة والتجارب الروحية والعملية.
- 4. الملكات الأخلاقية والخصال التي يتمتع بها.
- 5. الظروف والتحديات والإغراءات.
- 6. الأرباح والخسائر المادية والمعنوية، الماثلة والمتوقعة.