اصطفاء موسى (ع) للنبوة والرسالة والتكليم
<فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُم جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ 40 وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي>
أتى الله تبارك وتعالى بقصة موسى الكليم (عليه السلام) مع فرعون الطاغية وملئه المستكبرين وقومه الفاسقين في القرآن الكريم؛ لما فيها من العبر البليغة والدروس العظيمة القيمة؛ لتقوية قلب الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآل وسلم) وتسليته وتصبيره وتثبيته فيما يلاقيه من مقاساة المشاق والمصائب والمتاعب والمحن والشدائد في صراعه مع قومه المشركين، وتحمل أعباء النبوة والتبليغ بالرسالة؛ لينال عند الله تبارك وتعالى الفوز بالمقام المحمود عند الله تبارك وتعالى؛ وليقتدي به المؤمنون المجاهدون في الصبر على تكاليف الرسالة ومقاساة الشدائد والمصاعب في الصراع؛ وليعلموا أن كافة قوى الاستكبار العالمي والفراعنة المتجبرین والحكام المستبدین الظلمة والمترفین وما يملكون من سلطة وقوة وثروة وأنصار لا طاقة لهم بالوقوف أمام القدرة الإلهية المطلقة، وأن النصر حليف المؤمنين المجاهدين الصابرين المحتسبين في نهاية المطاف حتماً؛ وليعتبروا ويستمروا في طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ودينه الحق وفي طريق الجهاد ومقاومة فراعنة عصرهم وسحرتهم والمستكبرين والمارقين عن الدين الحق والظالمين والمترفين والانتهازيين.
وكانت سورة طه من أوائل ما أنزل من السور، يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «أن أكثر السور والآيات التي تحدثت عن موسى (عليه السلام) نزلت في مكة حيث كان المسلمون قلة مستضعفة يلاقون أشد الإيذاء وألوان التنكيل من المشركين أصحاب الحَوْل والسلطان. فتكرر قصة موسى وبني إسرائيل وإذلالهم بيد فرعون، ثم دارت عليه الدائرة وكانت العاقبة لبني إسرائيل علماً بأن فرعون أقوى وأطغى من صناديد المشركين، وأيضاً سينتصر المسلمون على المشركين لا محالة إذا صبروا واتقوا تماماً كما انتصر موسى وقومه على فرعون وملئه»[1].
وما حكاه القرآن الكريم من قصة موسى الكليم (عليه السلام) أنه لبث في أرض مدين، وهي الأرض التي تسكنها قبيلة نبي الله شعيب (عليه السلام)، وهم من نسل إبراهيم الخليل (عليه السلام)، لبث فيها عقداً من الزمان «عشر سنوات» تقريباً؛ بمقتضى العقد الذي بينه وبين نبي الله شعيب (عليه السلام) حين عرض عليه الزواج من إحدى بناته، وقد لجأ موسى الكليم (عليه السلام) إلى أرض مدين بعد أن خرج من أرض مصر مضطراً؛ خوفاً من القتل ظلماً وعدواناً على خلفية قتل رجل من الأقباط من قوم فرعون عن طريق الخطأ، وقد قضى موسى الكليم (عليه السلام) السنوات العشر في خدمة شيخ الأنبياء شعيب (عليه السلام)، وتزوج بإحدى بناته، وغرف من علومه، وعاش الأجواء الروحية المتلألئة بأنوار الملكوت في بيته، وواضح ما بينهما من صلة القرابة فهما أبناء عمومة، وكلاهما من نسل إبراهيم الخليل (عليه السلام).
وبعد أن قضى موسى الكليم (عليه السلام) الأجل المضروب في العقد بينه وبين نبي الله شعيب (عليه السلام) وهو عشر سنوات، استأذن شيخه وابو زوجته وجد عياله بالعودة إلى أهله ووطنه الأصلي مصر، فأذن له فخرج من أرض مدين متوجهاً إلى أرض مصر، وفي طريق عودته وفي ليلة شاتية مظلمة ممطرة شديدة البرد مثلجة ضل الطريق، وجاء زوجته مخاض الولادة، فنصب خيمته، وكان في حاجة ماسة وضرورية إلى النار من أجل الإضاءة والتدفئة، فحاول ولم ينقدح زنده فحار في أمره، وكانت الليلة ليلة جمعة، وبينما هو كذلك في حيرته لا يدري ماذا يصنع، إذ رأى عن بعد ناراً عن يسار الطريق من الجانب الأيمن من جبل الطور في صحراء سيناء، ولم ير النار غيره، فاستبشر وقال لأهله: <امْكُثُوا إِني آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النارِ هُدًى>[2]، أي: أتى الفرج من عند الرب الرؤوف الرحيم، فقد رأيت ناراً لا أشك في وجودها، فسأذهب إلى مكانها برجاءين <لَعَلِّي>[3] فلم يقطع؛ لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به، وهذا دليل كمال الحكمة والصدق والأمانة وقوة المنطق، وهما:
أ. أن آتيكم منها بشعلة من النار للاستضاءة والتدفئة بها.
ب. أن أجد في المكان من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها.
وقيل: إظهار النار لموسى الكليم (عليه السلام) فيه إغراء له؛ ليقصد المكان نظراً إلى حاجته الماسة والضرورية إلى النار من أجل الاستضاءة والتدفئة بها، ولأن المنطق يقول إن وجودها يدل على وجود أناس لعل فيهم من يدله على الطريق، وهي رمز رباني لطيف، إذ جعل اجتلابه لتلقي الوحي والاصطفاء للنبوة والرسالة باستدعائه بنور في ظلمة؛ إشارة إلى أنه سيتلقى ما به إنارة قلوب أناس وحياتهم وإرشادهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم ومصلحتهم وسعادتهم الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة بنور دين إلهي حنيف بعد ظلمة الجاهلية والضلال وسوء الاعتقاد.
قصد موسى الكليم (عليه السلام) يحدوه الأمل الكبير إلى مكان النار، فلما وصل إلى المكان رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها، تتوقد فيها نار بيضاء، وسمع تسبيح الملائكة في المكان، ورأى نوراً عظيماً يملأ الوادي، فوقف متعجباً من شدة خضرة تلك الشجرة وشدة ضوء تلك النار، وحيث رأى النار في الشجرة لم تضر خضرتها، وكثرة ماء الشجرة وخضرتها لم تطفئ النار ولم تضر بياضها، فعلم وتيقن أنه أمام أمر عظيم لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فبهت فألقيت عليه السكينة والوقار[4]، ثم سمع نداء من الله العلي الأعلى «يا موسى!!» وأخبره بأمور ووصايا عديدة، منها:
1. <إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ>[5] أي: إني أنا ربك الذي أكلمك وتسمع كلامي وأنت بمحضر مني، ففي الكلام تنبيه رباني لموسى الكليم (عليه السلام)، أن الموقف موقف الحضور، والمقام مقام المشافهة والتكليم، وقد خلى به ربه ذو الجلال والإكرام وخصه بنفسه لمزيد العناية واللطف به، وأمره بالتزام شرط الأدب بحضرة القدس الذي يقتضي منه خلع نعليه؛ ليكون حافي القدمين، فإن ذلك أبلغ في شرف التواضع أمام عز الربوبية، والخضوع عند سماع كلام الرب الجليل سبحانه وتعالى، وأقرب إلى حسن التأدب بحضرة القدس؛ واحتراماً للبقعة المباركة وتعظيماً لها وتشريفاً لقدسها، وليباشر الوادي المقدس بقدميه الحافيتين تبركاً به، وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «اخلع نعليك يعني ارفع خوفيك، يعني خوفه من ضياع أهله وقد خلفها تمخض، وخوفه من فرعون»[6].
وقيل: <فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ>[7] إشارة إلى الزوجة والولد بأن لا يبقى مشغول القلب بأمرهما، وفي الحديث الشريف عن الإمام المهدي القائم؟عج؟ أنه قال: «إن موسى (عليه السلام) ناجى ربه بالوادي المقدس فقال: يا ربّ إني قد أخلصت لك المحبة مني وغسلت قلبي عمن سواك، وكان شديد الحب لأهله، فقال الله تعالى: <فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ>[8] أي: انزع حب أهلك من قلبك إن كانت محبتك لي خالصة وقلبك من الميل إلى من سواي مغسول»[9].
وقيل: المراد بالوادي المقدس جلال الله سبحانه وتعالى، والأمر بخلع النعلين تطهير السر والقلب وترك النظر والالتفات إلى المخلوقات والمقدمات العلمية لكي لا يبقى محروماً من الاستغراق في الله ذي الجلال والإكرام والفناء فيه والبقاء به، فكأنه قيل له: لا تكن مشتغل القلب والخاطر بالنظر إلى المخلوقات والمقدمات العلمية فتكون محروماً من الاستغراق في الله ذي الجلال والإكرام وسبحات وجهه الكريم والفناء فيه والبقاء به، فإنك وصلت إلى الوادي المقدس الذي هو بحر معرفة الله ذي الجلال والإكرام ولجة ألوهيته وجلاله، يقول الإمام الحسين (عليه السلام): «إلهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك، كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً. إلهي أمرت بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليك بكسوة الأنوار وهداية الاستبصار حتى أرجع إليك منها كما دخلت إليك منها مصون السر عن النظر إليها ومرفوع الهمة عن الاعتماد عليها إنك على كل شيء قدير»[10]، فالمقام مقامان: مقام المحو والفناء عما سوى الله ذي الجلال والإكرام، ومقام الفناء فيه والبقاء به، والمقام الأول مقدم على المقام الثاني ولازم له فلا يكون إلا به، فكل من أراد أن يكتب شيئاً في لوح مشغول بكتابة أخرى، فلا بد له من إزالة الكتابة الأولى ليمكنه إثبات الكتابة الثانية محلها.
وقيل: بني فعل النداء للمجهول زيادة في التشويق، أي: إن موسى الكليم (عليه السلام) ناداه مناد غير معلوم له، فلما عَلِمَ عِلْمَ اليقين بأن المنادي هو ربه ذو الجلال والإكرام والكلام كلامه وأن الكلام وحيٌّ منه إليه، تمكن النداء من نفسه غاية التمكن وأكمله وهامت نفسه لذلك النداء المحيي للروح والمثير للأشواق، وملأت وجوده وأحاطت به لذة روحية غامرة لا يمكن وصفها.
2. <إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى>[11] أي: أن المكان الذي أنت تقف فيه هو الوادي المقدس طوى من أرض سيناء الذي تقدس وتبارك بهذا التجلي والظهور والحضور والتكلم، حيث يتجلى النور الإلهي فيه، ويسمع نداء الله رب العالمين سبحانه وتعالى في سمائه، وينال فيه شرف التكليم والنبوة والرسالة، أي: لكونه حظيرة القرب وموطن الحضور والتجلي والظهور ومكان المناجاة والوحي الإلهي والبعث بالدين الإلهي الحق والرسالة، يقول العلامة الطباطبائي: «أن تقديس الوادي إنما هو لكونه حظيرة القرب وموطن الحضور والمناجاة … وعلى هذا النحو يقدس ما يقدس من الأمكنة والأزمنة كالكعبة المشرفة والمسجد الحرام وسائر المساجد والمشاهد المحترمة في الإسلام والأعياد والأيام المتبركة فإنما ذلك قدس وشرف اكتسبه بالانتساب إلى واقعة شريفة وقعت فيها أو نسك وعبادة مقدسة شرعت فيها وإلا فلا تفاضل بين أجزاء المكان ولا بين أجزاء الزمان»[12]. وفي الحديث الشريف، سُئل النبي الكريم (صلى الله عليه وآل وسلم) عن الوادي المقدس، فقال: «لأنه قدست فيه الأرواح، واصطفيت فيه الملائكة، وكلم الله (عز وجل) موسى تكليماً»[13].
3. إن الله تبارك وتعالى قد اختاره – يعني موسى الكليم (عليه السلام) – للنبوة والرسالة، وهذه أكبر نعمة أنعم الله تبارك وتعالى وامتن بها عليه، وتمثل كمال اللطف والرحمة والعناية وغاية الرجاء للعبد في عالم الدنيا، وأن عليه أن يتهيأ للمناجاة ويهتم لذلك كثيراً ويستمع لما يوحى إليه بعناية تامة، سماع قبول واستعداد تام للوعي والفهم والعمل والتبليغ، قوله تعالى: <وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ>[14]، فكأنه قيل له: لقد جاءك أمر مهم عظيم الخطر فتأهب له وكن مستعداً تماماً واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إليه بالتمام والكمال.
4. أمره بأن يوحدّه ويعبده وحده لا شريك له عبادة خضوع للإله الحق الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد لم يولد ولم يكن له كفواً أحد، قوله تعالى: <إِننِي أَنَا اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصلَاةَ لِذِكْرِي>[15]، وذلك لاختصاص الألوهية به سبحانه وتعالى؛ لكونه مبدأ كل شيء وموضع كل شيء والمدبر لكل شيء، فلا ينبغي أن يخضع العبد خضوع الطاعة والعبادة إلا له وحده لا شريك له، فهو الإله المعبود الحق لا إله غيره ولا شريك له، فالاختصاص بالألوهية موجب للاختصاص بالعبادة، أي: إن عبادته إنما لزمت لألوهيته، قول الله تعالى: <ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبكُمْ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُل شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُل شَيْءٍ وَكِيلٌ>[16]، أي: لأنه خالق كل شيء ومتولي الأمور كلها ومدبرها وحده والألوهية منحصرة فيه، فهو يستحق العبادة وحده ولا يستحقها أحد غيره.
وخص الصلاة بالذكر لكونها أفضل عمل يتمثل به الخضوع العبودي لعز الربوبية وأشرف العبادات وأكثر الطرق تأثيراً لعدم الغفلة والاستغراق في المحبوب والفناء فيه والبقاء به، ولهذا أطلق عليها في الإسلام عمود الدين، وقد أمر موسى الكليم (عليه السلام) بأن يقيمها خالصة من غير شائبة من الرياء والسمعة وفي وقتها؛ لتكون وسيلة إلى ذكرى ربه ذي الجلال والإكرام والتقرب إليه والزلفى لديه والفناء فيه والبقاء به والتخلق بأخلاقه واكتساب صفات كماله، صفات الجمال وصفات الجلال؛ ولتكون سبباً لذكر ربه له ونيل رضوانه وحسن ثوابه، قول الله تعالى: <فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُون>[17].
وقيل: إن الآية موضوع البحث من سورة طه تدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع، وأن العمل بالفروع بدون العلم بالأصول جهل وحماقة وتخلف وعبث، والعلم بالأصول يعطي العمل بالفروع قيمته واعتباره العلمي الروحي والأخلاقي، ويحدد له وجهته وغايته، وتعتبر العبادة بنية خالصة ثمرة التوحيد والإيمان الصادق وبدونها لا حقيقة للتوحيد ولا مصداقية للإيمان.
5. ذكّر الله سبحانه وتعالى عبده ووليه ورسوله الكريم موسى الكليم (عليه السلام) بالآخرة وحتمية وقوعها وخفاء وقتها على الناس؛ ليكون وقوعها أشد في المباغتة والمفاجأة على قلوب الكافرين والمنافقين والعاصين الغافلين عنها، وحتى يتوقع المؤمنون الصالحون المتقون وقوعها في كل وقت وحين، فيخافوا منها ويعملوا لها، فيتميز المخلصون عن غيرهم ثم يستوفي الجميع جزاءهم بالعدل والإحسان بحسب عقائدهم وأعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، قول الله تعالى: <إِن الساعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُل نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ>[18]، ولا شك فإن في التذكير بالآخرة تعليل للطاعة والعبادة، لأنه إذا لم يكن حساب وثواب وعقاب على العقيدة والعمل وتمييز بين المطيع وبين العاصي، فالطاعة والعبادة لغو لا أثر لها أو توجيه لخاصة الخاصة من الحكماء الذين يعملون العمل الحسن لذاته ويتركون العمل القبيح لذاته، وحتى مع هذا التوجيه الذي لا يكون لو صح إلا لخاصة الخاصة، فإنه لا يتبين في العقل والمنطق هدفية الوجود وغاية الحياة، ويكون الأمر كله أقرب إلى العبثية والفوضى وخارج العقل والمنطق السليم.
وعليه: فمقتضى الإيمان بالآخرة والتذكير بها هو العمل من أجلها، والحذر الشديد من المعصية، والمسارعة إلى التوبة والاستغفار من كل ذنب ومعصية، ونحو ذلك.
ثم حذّر الله (جل جلاله) عبده ووليه ورسوله الكريم موسى الكليم (عليه السلام) من الكفرة والعصاة الذين لا يؤمنون بالآخرة ويسعون للتشكيك فيها أو الذين يؤمنون بها نظرياً ويكفرون بها عملياً بالانهماك في المعاصي والشهوات والملذات الحسية، والتورط في الجرائم الشنيعة والجنايات الفظيعة ضد الأبرياء والإنسانية، وترك التوبة والاستغفار، فإن عاقبتهم وعاقبة من يتبعهم ومن يتأثر بهم الهلاك والشقاء الحقيقي الأبدي الكامل في الدارين الدنيا والآخرة، قوله تعالى: <فَلَا يَصُدنكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ>[19]، أي: فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتهلك كما هلك وتشقى كما يشقى، وفي الآية الشريفة المباركة أمر بالثبات والتحمل وأن يكون شديد الشكيمة قوياً في ذات الله ذي الجلال والإكرام عن علم ويقين صحيح حتى لا يكون كمن يكفر بالبعث والحساب وأي مطمع في صده عن الإيمان والعمل بمقتضاه والصمود في وجوههم ومقاومة شبهاتهم ووساوسهم وعدم الخوف من كثرتهم وقوتهم وكيدهم ومؤامراتهم وخططهم الشيطانية الخبيثة، فإنهم غثاء كغثاء السيل، وبناء أمرهم على ضعف المنطق والحجج الباطلة واتباع الأهواء الشيطانية والشهوات الحيوانية والملذات الحسية والاستغراق في عالم الدنيا والمادة والمصالح والأغراض الفاسدة والمقاصد الباطلة، وفيها دليل على وجوب تحصيل العلم اليقيني بالدليل الصحيح على أصول الدين وعدم التقليد في العلم الإجمالي فيها، وزجر بليغ عن التقليد الأعمى لأهل الزعامة والمترفين ونحوهم، وعليه: فإن موسى الكليم (عليه السلام) أمر بعلم التوحيد، وعلم الطريق «النبوة والإمامة والطاعة والعبادة الجسمية كالصلاة والروحية كالتفكر والإخلاص» وعلم المعاد.
6. أيّد الله (عز وجل) عبده ووليه ورسوله الكريم موسى الكليم (عليه السلام) بآيات بينات نيرات ومعجزات عظيمات قاهرات، تدل على صدق نبوته ورسالته وعدالة قضيته وشرعية مطالبه الإصلاحية والثورية، وهما معجزتان:
أ. العصا التي تتحول إلى ثعبان حقيقي عظيم.
ب. اليد السمراء التي تتحول إلى بيضاء جميلة بدون علة أو مرض، وتشع نوراً عظيماً يملأ المكان أبهى من الشمس الطالعة يغشي البصر، قوله تعالى: <وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ 17 قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكأُ عَلَيْهَا وَأَهُش بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ 18 قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ 19 فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيةٌ تَسْعَىٰ 20 قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ 21 وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ 22 لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى>[20].
7. بعد أن أيّد الله (عز وجل) رسوله الكريم موسى الكليم (عليه السلام) بالمعجزات، أمره أن يذهب برسالته التي حمله إياها إلى فرعون الطاغية الذي كان أعظم ملوك الأرض حينئذ، وقد تجاوز الحد في التجبر والتكبر والاستعلاء والظلم والطغيان والقهر والاستضعاف للعباد، فادعى الألوهية والربوبية بغير حق ولا حجة ولا دليل ولا برهان، وذبح الأطفال بغير ذنب، وبطش بالأبرياء والصالحين والمصلحين والمطالبين بالحقوق، وإلى ملئه المستكبرين الفاسدين المعينين له على الظلم والطغيان والبغي والفساد، وأن يبلغهم الرسالة الإلهية كما أمر ويكاشفهم بفسادهم ويردعهم عن غيهم وبغيهم وظلمهم وطغيانهم واستكبارهم وتجبرهم وضلالهم وإضلالهم وإفسادهم في الأرض بغير حق، قوله تعالى: <اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنهُ طَغَىٰ>[21]، وفي الحديث القدسي قال الله تعالى لموسى (عليه السلام): «اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي، وإن معك يدي وبصري، وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار، ولكن هان علي وسقط من عيني فبلغه عني رسالتي وادعه إلى عبادتي وحَذَر نعمتي، وقل له قولاً ليناً لا يغترن بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي»[22].
وقد خص فرعون بالذكر في قوله: <اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنهُ طَغَىٰ>[23] مع أن الرسالة عامة لكل الناس، لأن فرعون رأس الفساد والطغيان، مما يدل على وجوب تقصد رؤوس الفساد والطغيان واستهدافهم بشكل مباشر في كل حركة اصلاحية جادة أو حركة ثورية شاملة، يقول آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: «فمن أجل إصلاح بيئة فاسدة وإيجاد ثورة شاملة يجب البدء برؤوس الفساد وأئمة الكفر… أولئك الذين لهم تأثير في جميع أركان المجتمع ولهم حضور في كل مكان بأنفسهم أو بأفكارهم أو أنصارهم… أولئك الذين تركزت كل الوسائل والمنظمات الإعلامية والاقتصادية والسياسية في قبضتهم، فإذا ما أصلح هؤلاء أو قلعت جذورهم عند عدم التمكن من إصلاحهم، فيمكن أن يؤمن خلاص ونجاة المجتمع، وإلا فإن أي إصلاح يحدث فإنه سطحي ومؤقت وزائل»[24] وفي الآية الشريفة المباركة دليل على أن من أهداف الأنبياء العظام (عليهم السلام) العملية الرئيسية مقارعة الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدين الظلمة والمترفين والمستكبرين والقضاء على الظلم والطغيان والفساد والاستكبار والاستبداد والدكتاتورية ونحوها من الأوبئة والأمراض.
8. لما علم موسى الكليم (عليه السلام) بأمر التكليف له بالذهاب إلى فرعون الطاغية ودعوته إلى التوحيد والطاعة والكف عن الفساد والطغيان والقهر لعباد الله وإخضاعهم لإرادته الطاغوتية بغير حق، ولعلمه بتجبر فرعون وقسوته وقوة شوكة قومه الأقباط وشدة بطشهم، ولعلمه بحال بني إسرائيل وما هم عليه من الضعف والوهن والإذلال وقلة الإمكانيات المادية والبشرية، لا سيما إذا قيست بإمكانيات الأقباط، ولعلمه بما ستجبره عليه الرسالة من الفظائع والفجائع والمصائب والصعوبات والشدائد، فإنه (عليه السلام) لم يسأل ربه (عز وجل) أن يعفيه من المهمة أو يخفف من ثقلها، فقد قبلها وكان لديه كامل الاستعداد لتحمل المشاق والمصاعب والتضحية بالنفس والنفيس من أجلها، ولكنه سأل ربه العظيم بأربعة أمور من أجل النجاح في تبليغها والوصول بها إلى غايتها وأهدافها، والأمور الأربعة، هي:
أ. أن يمنحه رباطة الجأش ليكون شجاعاً ليجرأ على مخاطبة فرعون الطاغية، بما ينبغي عليه أن يخاطبه به، وأن يشرح صدره ويجعله واسعاً كالمحيط؛ ليتحمل عبء الدعوة والرسالة ويصبر على المشاق والمصاعب والشدائد والأذى الذي يمكن أن يقع عليه من فرعون الطاغية وملئه المستكبرين وقومه الفاسقين رداً على رسالته ودعوته لهم إلى التوحيد وتحرير بني إسرائيل، ولا يضجر ولا يغتم ولا يحزن ولا يتكدر قلبه ويضيق صدره فلا يقدر على تحمل المسؤولية ولا يصلح لهداية الناس وإرشادهم ودعوتهم إلى الحق والعدل والخير والفضيلة والإصلاح، وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: «آلة الرياسة سعة الصدر»[25].
ب. أن يمده الله تبارك وتعالى بعونه ويوفقه ويؤيده ويسدد خطاه، وأن ييسر له سبل القيام بأمر الرسالة والنهوض بالمسؤولية على أكمل وجه، ويذلل له العقبات التي تعترض طريقه؛ لتكون المهمة الصعبة على ما فيها من العسر والصعوبات وما تتطلبه من الصبر والتحمل والتضحيات سهلة مؤنسة للروح والقلب ومريحة للضمير والوجدان لما تربط به من رؤية نيرة مشرقة للكون والإنسان والحياة ومن أشواق وغايات إنسانية نبيلة عالية الشأن رفيعة المكان.
ج. أن يزيل الثقل وكافة الموانع النفسية والاجتماعية التي تعيقه عن الكلام الفصيح البليغ وتمنع الإفهام، أي: أن يعينه على البيان الواضح الصريح البليغ في إيصال المراد، وذلك لكونه عاش في بيت فرعون فله عليه فضل الإيواء والرعاية والتربية والإنعام، وأيضاً: له عليه القصاص في شأن قتل الرجل القبطي، قول فرعون له: <قَالَ أَلَمْ نُرَبكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِين 18 وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ>[26]، مما من شأنه أن يقيد اللسان عن الانطلاق في الكلام والمحاجة ويضعف الحجة ويضع الحواجز النفسية التي تعيق الفهم والتفهم بين الطرفين.
د. أن يؤيده بأخيه هارون (عليه السلام) وهو الناصح الأمين الفاهم البليغ ونحو ذلك من الصفات، وأن يجعله شريكاً له في النبوة وأمر الرسالة والقيادة حتى يتعاونا على القيام بالأمر والنهوض بالمسؤولية وبلوغ المراد وتحقيق الأهداف والغايات المطلوبة؛ لأن أمر الرسالة والقيادة والتدبير كثير الجوانب متباعد الأطراف لا يقدر شخص واحد بمفرده على القيام به والنهوض بمسؤولياته، فيحتاج إلى وزير يشاركه في ذلك ويساعده ويحتاج إلى أعوان وأنصار، يقول العلامة الطباطبائي: «وأما الإشراك في النبوة خاصة بمعنى تلقي الوحي من الله سبحانه فلم يكن موسى يخاف على نفسه التفرد في ذلك حتى يسأل الشريك وإنما كان يخاف التفرد في التبليغ وإدارة الأمور في اتحاد بني إسرائيل ومن يلحق بذلك»[27].
وقد استجاب الله تبارك وتعالى لجميع طلباته، قول الله تعالى: <قَالَ رَب اشْرَحْ لِي صَدْرِي 25 وَيَسرْ لِي أَمْرِي 26 وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي 27 يَفْقَهُوا قَوْلِي 28 وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي 29 هَارُونَ أَخِي 30 اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي 31 وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي 32 كَيْ نُسَبحَكَ كَثِيرًا 33 وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا 34 إِنكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا 35 قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ>[28].
وما سأل موسى الكليم (عليه السلام) من ربه يدل على كمال إخلاصه ونزاهته عن الأنانية والاستئثار، وكمال حرصه على تبليغ الرسالة على أكمل وأحسن وجه والنجاح التام في تحقيق كامل أهدافها وغاياتها، يقول السعدي: «وهذا السؤال من موسى (عليه السلام) يدل على كمال معرفته بالله، وكمال فطنته ومعرفته للأمور، وكمال نصحه. وذلك أن الداعي إلى الله، المرشد للخلق، خصوصاً إذا كان المدعو من أهل العناد والتكبر والطغيان، يحتاج إلى سعة صدر، وحلم تام على ما يصيبه من الأذى، ولسان فصيح فيه يتمكن من التعبير به عن ما يريده ويقصده. بل الفصاحة والبلاغة لصاحب هذا المقام من ألزمه ما يكون؛ لكثرة المراجعات والمراوضات؛ ولحاجته لتحسين الحق وتزيينه بما يقدر عليه؛ ليحببه إلى النفوس، وإلى تقبيح الباطل وتهجيته ليتنفر عنه.
ويحتاج مع ذلك أيضاً، أن يتيسر له أمره، فيأتي البيوت من أبوابها، ويدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، يعامل الناس كلاً بحسب حاله. وتمام ذلك: أن يكون لمن هذه صفته أعوان ووزراء يساعدونه على مطلوبه؛ لأن الأصوات إذا كثرت لابد أن تؤثر، فلذلك سأله عليه الصلاة والسلام هذه الأمور فأعطيها»[29]، وقول الشيخ جواد مغنية: «ومهما يكن فلابد لصاحب الرسالة من التعاون مع من يخلص لها ويضحي في سبيلها، فإن النبوة في حقيقتها مجرد خبر ونبأ عن الله ينقله من يستحيل في حقه الكذب والخطأ، وما هي بقوة تنفيذية تقول للشيء كن فيكون، إن النبي بشر لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، ويستعمل لتنفيذ مقاصده نفس الوسائل التي يستعملها المؤمن والجاحد، ولا يمتاز إلا بهذا النبأ عن الله وأنه أخذ من الإنسانية أكرم ما فيها، واستصفى أجل صفاتها، ولكن الصفات الجلية لا تجعل صاحبها في المكان الذي يستغني معه عن الأسباب العادية والسنن الطبيعية… كلا، إن الأنبياء وغير الأنبياء سيان في الحاجة والافتقار إلى الأخذ بالعلل والأسباب»[30]، فالأنبياء يحتاجون إلى الأعوان والأنصار والمؤازرين والقوة الرادعة من الناس، قول الله تعالى: <يَا أَيهَا النبِي حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ>[31] وتدل المطالب كذلك على ضرورة التحلي بالوعي والفهم والبصيرة، والاعتماد على التخطيط بدل التخبط، والأخذ بالأسباب الطبيعية والمعنوية لتحقيق النصر والظفر بالمطلوب.
وفي الآية الشريفة المباركة تحذير شديد من الأنانية والاستئثار والإقصاء، وهي خصال تتنافى مع الصدق والإخلاص، وفيها تحذير كذلك من الدكتاتورية والاستبداد في الحكم والإدارة والتدبير، فإنهما الطريق إلى الفشل والضعف والخسران والتخلف والانحطاط والهلاك.
الجدير بالذكر: أن الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآل وسلم) سأل الله (عز وجل) نفس ما سأله موسى بن عمران (عليه السلام)، قال السيوطي في الدر المنثور: إن الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآل وسلم) قال: «اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى، أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري، وأن تحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أخي، اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً إنك كنت بنا بصيراً»[32].
وفي الحديث الشريف، أن الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآل وسلم) قال لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»[33]، وإذا علمنا نفي الإشراك في النبوة، وأن الدعوة إلى الإيمان والتوحيد والدين الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على الخير والبر والتقوى، واجب على كل مسلم، وأن عبارة <وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي>[34] تفيد الاختصاص وليس عموم ما يشترك فيه جميع المسلمين، أي: إن المطلوب هو تمام خاص غير النبوة، وليس ذلك إلا الخلافة والإمامة قطعاً، التي يدخل في واجباتها: حفظ الدين الحق من التحريف والتغيير والتبديل، وصيانة الأمة من الانحراف عن الصراط المستقيم والنهج القويم والطريقة الوسطى، وبيان أحكام الدين وتفسير كل إبهام ورد كل إشكال وشبهة، وقيادة الأمة وتدبير شؤونها، وإعطاء القدوة للأمة من نفسه في دينه وأخلاقه وسلوكه لكي تتبعه الأمة وتقتدي به في دينها وحياتها، ونحو ذلك.
9. ذكّر الله تبارك وتعالى عبده ووليه الناصح ورسوله الصادق الأمين موسى بن عمران الكليم (عليه السلام) ببعض ما أنعم عليه به من النعم الإلهية العظيمة، منها:
أ. سلامته من القتل على يد فرعون الطاغية حين كان طفلاً رضيعاً وكان فرعون يقتل كل مولود ذكر يولد لبني إسرائيل؛ لأن كاهناً أخبره بأن نهايته ونهاية ملكه تكون على يد مولود يولد في بني إسرائيل.
ب. تربيته تحت عينه وبرعاية وعناية خاصة منه وحفظه من كل سوء وشر، وقد كان في بيت فرعون وفي متناول يده ومع ذلك لم تمتد له يده بشر أو سوء أو ضرر.
ج. أن الله تبارك وتعالى ألقى عليه محبة خاصة عجيبة وخارقة للعادة، أدخلها في قلوب العباد بحيث يحبه كل من يراه ويتعلق قلبه به، ومن الذين أحبوه وعلقت قلوبهم به: فرعون وامرأته آسية بنت مزاحم، وفي ذلك دليل على حب الله سبحانه وتعالى له، فإذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده.
د. أن الله (جل جلاله) امتحنه بامتحانات صعبة عديدة، مثل: العيش في بيت فرعون الطاغية، الخوف والهرب من القصاص، الغربة ومفارقة الأهل والأحبة والوطن، الخدمة الصعبة في رعاية الغنم بعد أن كان يعيش الترف والنعيم المادي في قصر فرعون أعظم ملوك الأرض حينذاك وأكثرهم ثروة وترفاً، حتى أصبح بهذه الامتحانات خالصاً لله سبحانه وتعالى لا يشاركه فيه غيره، وكانت النتيجة أو الثمرة هي: الاصطفاء للتكليم والنبوة والرسالة؛ لأنه وجده أهلاً لذلك على غرار ما صنعه الله تبارك وتعالى مع خليله إبراهيم، قول الله تعالى: <وَإِذِ ابْتَلَىٰ إبراهيم رَبهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمهُن قَالَ إِني جَاعِلُكَ لِلناسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُريتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالِمِينَ>[35] أي: أن الله (عز وجل) امتحن إبراهيم الخليل (عليه السلام) بامتحانات صعبة عديدة، فنجح فيها جميعاً بامتياز مع درجة الشرف الأولى، فاصطفاه الله تبارك وتعالى إماماً للناس وقدوة حسنة لهم في الأمور كلها الدينية والدنيوية، الظاهرية والباطنية، وهي مرتبة فوق النبوة والرسالة؛ لأن إبراهيم الخليل (عليه السلام) نالها بعد أن امتحن وهو نبي ورسول.
هـ. سلامته من القتل ومن الحزن والغم بعد أن قتل الرجل القبطي عن طريق الخطأ، وهجرته راجلاً خائفاً من القتل وكان بلا زاد ولا دليل، وتخليصه مرة بعد أخرى من المحن والشدائد والمصائب التي حلت به طوال حياته منذ أن كان طفلاً رضيعاً وحتى ساعة الاصطفاء والوحي والتكليم؛ لطفاً منه وحناناً ورحمة.
و. العيش في بيت شيخ الأنبياء شعيب (عليه السلام) والتزويج من إحدى بناته، والاغتراف من علومه ومعارفه الإلهية الثمينة والاقتباس من الأنوار الملكوتية، والعيش في الأجواء الروحية العالية التي تملأ البيت كله، والحصول على معاملة إنسانية راقية تنضح بالقيم السماوية والمبادئ السامية والأخلاق الرفيعة.
ز. أخيراً: عودته من أرض مدين متوجهاً إلى أرض مصر، والظروف التي أحاطت به، مثل: ضل الطريق في ليلة شتوية مظلمة مثلجة، ولم ينقدح زنده، فاجأ المخض زوجته، رؤية النار من بعد، الأمور التي أوصلته إلى الوادي المقدس في الوقت المحدد حيث سبق في قضاء الله (عز وجل) وقدره أن يكلمه ويستنبئه ويبعثه بالرسالة في وقت بعينه قد وقته لذلك، وهو الوقت الذي وصل فيه إلى الشجرة المباركة في الوادي المقدس في صحراء سيناء بجانب جبل الطور الأيمن.
أي: وصل على ذلك القدر غير مستقدم ولا مستأخر، بعد أن أصبح على قدر كبير من الصفاء والنقاء الروحي والعلم والمعرفة والخبرة والصلاح وفعلية الكمال.
أي: أصبح مهيئاً ومؤهلاً للتكليم والنبوة والرسالة والإمامة وجعله وسيلة لإظهار دينه وتبليغ رسالته وإقامة حجته على عباده، وتخليص بني إسرائيل من عبودية فرعون الطاغية وقومه الفاسقين، ودعوتهم إلى التوحيد والعمل الصالح وتربيتهم عليه، يقول آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير قوله تعالى: <وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي>[36]، «فمن أجل مهمة تلقي الوحي الصعبة، ومن أجل قبول الرسالة، ومن أجل هداية العباد وإرشادهم، ربيتك واخترتك في الحوادث الصعبة ومشاقها، ومنحتك القوة والقدرة، والآن حيث ألقيت هذه المهمة الكبرى على عاتقك، فإنك مؤهل من جميع الجوانب»[37]، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): «كن لما لا ترجو أرضى منك لما ترجو، فإن موسى بن عمران خرج ليقبس لأهله ناراً فرجع إليهم وهو رسول نبي»[38]، فالإنسان كثيراً ما يأمل أن يصل إلى شيء لكنه يفشل في الوصول إليه، إلا أن أشياء أهم لا أمل له في نيلها تتهيأ له ويصل إليها بفضل الله تبارك وتعالى ومنه ورحمته عليه، مما يجعل الإنسان المؤمن يعيش الأمل دائماً ولا ييأس أبداً، ويفوض أموره كلها إلى الله (عز وجل) في الشدة والرخاء.
المصادر والمراجع
- [1]. التفسير المبين، محمد جواد مغنية، صفحة 406
- [2]. طه: 10
- [3]. نفس المصدر
- [4]. تفسير السمرقندي، جزء 2، صفحة 337
- [5]. طه: 12
- [6]. علل الشرائع، صفحة 66
- [7]. طه: 12
- [8]. نفس المصدر
- [9]. كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، صفحة 460
- [10]. دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام)
- [11]. طه: 12
- [12]. تفسير الميزان، العلامة محمد حسين الطباطبائي، جزء 14، صفحة 124-125
- [13]. علل الشرائع، الشيخ الصدوق، صفحة 471-472
- [14]. طه: 13
- [15]. طه: 14
- [16]. الأنعام: 102
- [17]. البقرة: 152
- [18]. طه: 15
- [19]. طه: 16
- [20]. طه: 17-23
- [21]. طه: 24
- [22]. تفسير الفخر الرازي، جزء 8، صفحة 29
- [23]. طه: 24
- [24]. تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، جزء 9، صفحة 348
- [25]. نهج البلاغة، حكمة 176
- [26]. الشعراء: 18-19
- [27]. تفسير الميزان، العلامة محمد حسين الطباطبائي، جزء 14، صفحة 133
- [28]. طه: 25-36
- [29]. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبدالرحمن السعدي، صفحة 695 – 696
- [30]. تفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، جزء 5، صفحة 213 – 214
- [31]. الأنفال: 64
- [32]. تفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، جزء 5، صفحة 215
- [33]. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وغيرهم
- [34]. طه: 32
- [35]. البقرة: 124
- [36]. طه: 41
- [37]. تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، جزء 9، صفحة 358
- [38]. نور الثقلين، جزء 3، صفحة 374