خطاب رب العالمين إلى فرعون رداً على توبته الباطلة
<الآنَ وَقَدْ عَصَیْتَ قَبْلُ وَکُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِینَ ٩١ فَالْیَوْمَ نُنَجِیکَ بِبَدَنِکَ لِتَکُونَ لِمَنْ خَلْفَکَ آیَةً وَإِن کَثِیرًا مِنَ الناسِ عَنْ آیَاتِنَا لَغَافِلُون>
لما أشرف فرعون على الغرق وتمكن منه وأيقن بالهلاك مع الهالكين من جنده وآيس من النجاة، أظهر الإسلام والإيمان بغية النجاة حاله في ذلك حال بني إسرائيل، أي: أظهر إيماناً كإيمانهم؛ لينجو من الغرق كما نجوا، لكن ذلك الإيمان الزائف لم يقبل منه؛ لأنه كان عبر إلجاء وليس عن اختبار، ولا يدل على الصدق في الاعتقاد والإخلاص في النية، فقيل له من رب العزة والجلال: <آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِين>[1]، وفي الرواية: إن القائل جبرائيل (عليه السلام)، أي: أتؤمن الآن في وقت الإلجاء والاضطرار بعد أن أدركك الغرق والعذاب ويئست من نفسك وعاينت ملك الموت، فقد فات الأوان، فلن ينفعك الآن إيمانك ولن تقبل توبتك؛ لأنهما جاءا حال الإلجاء بعد الاختيار، ولا يقبل إيمان ولا توبة حين غشيان العذاب ومجيء الموت، وفي ذلك تأييساً له من النجاة في الدارين الدنيا والآخرة، تلك النجاة التي كان يأملها ويطمح إليها حين قال: <آمَنت>[2]، مقراً بأن ما كان أصابه كان بسبب غضب الله (جل جلاله) وسخطه عليه، راجياً من اعترافه بالوحدانية أن يعفو الله تبارك وتعالى عنه وينجيه من الغرق والهلاك كما أنجى بني إسرائيل بإيمانهم، فلم يقبل منه إيمانه ولم تقبل منه توبته ولم تكتب له النجاة؛ لأنه أظهر الإيمان والتوبة في الوقت الضائع الذي لا يقبل فيه الإيمان ولا تقبل فيه التوبة.
والمعنى: لا إيمان يقبل منك الآن، ولا نجاة لك من الهلاك والعذاب والخزي والعار في الدارين الدنيا والآخرة، وقد عصيت بترك الإيمان والتوبة قبل هذا الوقت طول عمرك، حيث كان الاختيار والتكليف قائماً وباب التوبة والعودة إلى الحق مفتوحاً، ولكنك عاندت واستكبرت وبغيت وطغيت وأفنيت عمرك كله في الكفر والضلال والمعصية، وأدعيت ما ليس لك بحق من الألوهية والربوبية والمالكية، وزعمت أنك الرب الأعلى للناس المدبر لهم وبيدك مقادير أمورهم وعليك رزقهم ونحو ذلك من الأكاذيب، وأوغلت في الظلم والطغيان ونشر الفساد في الأرض والإضلال وصرف الناس عن الدين الحق، ولم تترك جريمة أو جناية ضد الإنسانية – مثل: قتل الأبرياء والتنكيل بالصالحين والمصلحين، والمطالبين بالحقوق المشروعة، واستضعاف الخلائق واستعبادهم وإذلالهم – إلا ارتكبتها، ولم تترك حرية لإنسان ولا مقدس ولا مبدأ ولا قيمة ولا حق إلا انتهكته، فلا ينفعك إيمانك وتوبتك في هذا الوقت حيث الإلجاء وانتهاء زمان الاختيار والتكليف وحضور زمان الجزاء، الثواب والعقاب على الأعمال، فذق جزاء كفرك وضلالك وعملك السيء.
وأخبره رب العزة والجلال بأنه سوف يغرقه في البحر ويهلكه مع جميع جنده، وأنه سينجي بدنه كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير، ولكن جثة هامدة بلا روح، قوله تعالى: <فَالْيَوْمَ نُنَجيكَ بِبَدَنِكَ>[3]، إذ يلقي بك على مرتفع من الأرض على الساحل؛ ليشاهدك كل من كان يعظم شأنك بغير حق، وأما روحك الخبيثة التي تمثل حقيقتك وراء بدنك فلا نجاة لها، فسوف نقبضها ومصيرها إلى العذاب المؤلم الشديد في نار البرزخ، ثم في نار جهنم في الآخرة.
وقيل: إن فرعون حينما قال: <آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِين>[4] في وقت الإلجاء والاضطرار، كان بحكم الميت، فصارت روحه إلى العذاب وبدنه إلى النجاة.
وقيل: لم يعدم فرعون فائدة من إظهار إيمانه ذلك الباهت في تلك اللحظة اليائسة في ساعة الاحتضار، فإيمانه في ذلك الوقت والحال، كان كالجسد بلا روح، وعليه: قدر الله (عز وجل) بحكمته له الخروج ببدنه من غمرات ماء البحر، فلم يبق في الماء أكلة للأسماك والقروش والحيتان، وتلك حالة أقل خزياً من حالات سائر جيشه بما يظهر نفع ما حصل في نفسه من الإيمان في آخر أحواله، إلا أن هذا القول لا دليل عليه، ويقتضي أن يفعل الله (عز وجل) مثل ذلك بكل من قال مثل قوله من جنده، وما حصل من آية فلق البحر أولاً، ثم اِلتطامه ثانياً، يقتضي أن يقول الكثير من جنود فرعون مثل قوله؛ لأن هذا ما يحكم به طبيعة الحال وإصرارهم على الكفر والضلال والمعصية ليس بأكثر منه.
وقول الله تعالى: <لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً>[5] يدل على أن نجاته ببدنه مقصور في الحكمة الإلهية والتدبير الرباني، فقد أراد الله (جل جلاله) أن تكون نجاة بدن فرعون آية من آيات الله سبحانه وتعالى لكل من سيأتي بعده من الأمم والأقوام والفراعنة والحكام المستبدين الظلمة وكل من تحدثه نفسه بالسير على طريق الباطل والظلم والعدوان والفساد، تدل على تفاهته وعبوديته وبطلان كل ما كان يدعيه من الألوهية والربوبية والمالكية بغير حق، ويعلموا بأن الله (عز وجل) على كل شيء قدير، وهو أعظم من أن يغلب أو يقهر من أحد أو من شيء.
ويكون موعظة يعتبرون منها إذا سمعوا بها ويتفكرون فيها، فتوقظهم من غفلتهم وتعيدهم إلى رشدهم، فيحذروا من التكبر على الحق وأهله والتجبر على العباد والتمرد على رب العزة والجلال رب العالمين سبحانه وتعالى، ولا يجترئون على ما اجترأ عليه فرعون من أعمال قبيحة وجرائم شنيعة، والسير على طريقته وسنته الباطلة في الحياة، وذلك بعد أن يشاهدوا بدنه جثة بلا روح مرمياً في العراء، ويتيقنوا من هلاكه مع جميع جنوده وأنصاره الذين كانوا معه يلاحقون موسى الكليم (عليه السلام) وبني إسرائيل؛ لقتلهم جميعاً والقضاء عليهم وإنهائهم من الوجود والخلاص من شرهم وما يسببونه لهم من أوجاع وآلام نفسية شديدة، أو يعلموا بذلك فيكون لهم عبرة حيث يعلمون العاقبة السيئة المذمومة التي تقشعر منها الأبدان وترجف منها القلوب للمجرمين من أمثاله، فلا يجترئون على مبارزة رب العالمين ومعصيته وتكذيب رسله وتعطيل أحكامه وسننه، والتجبر على الناس واستضعافهم واضطهادهم وإذلالهم وظلمهم والاعتداء على حقوقهم وحرماتهم ومقدساتهم.
ويعلمون عن يقين كذب كل مدعي للألوهية والربوبية والمالكية من الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين والمترفين المستغلين، وكل من يزعم أنه الرب الأعلى للناس بيده التشريع والتدبير والتقدير لأمورهم ونحو ذلك، ويعلمون عن يقين وبالدليل الحسي والمشاهدة الوجدانية، أن أولئك بشر كسائر الناس عبيد مقهورين ومغلوب على أمرهم، لهم ما لسائر الناس من الحقوق وعليهم ما على سائر الناس من الواجبات، ولا يتميزون عليهم من حيث الأصل والمبدأ بشيء، ولا يحق لهم أن يستعبدوا الناس أو يفرضوا عليهم إرادتهم بغير رضاهم وعلى خلاف مصلحتهم ويخضعوهم لأنفسهم ولحكم الأمر الواقع بالقوة ووسائل العنف والإرهاب، وتجب مقاومتهم والثورة عليهم بحكم العقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم.
ويعلمون أن الله (عز وجل) هو القاهر فوق عباده وأنه الغالب على أمره وهو على كل شيء قدير، وأن لا قوة في الوجود كله تستطيع أن تقهره أو تغير شيئاً قليلاً أو كثيراً من مشيئته، فالجيوش الجرارة والأساطيل الحربية الضخمة والطائرات القاذفة والصواريخ العابرة للقارات والقنابل الذرية والهيدروجينية وغيرها والأموال الطائلة والتحالفات الدولية والإقليمية ونحوها، كلها لا يمكن أن تغير شيئاً ولو بمقدار ذرة أو أقل أو أكثر من مشيئة الله (عز وجل) النافذة القاهرة، وفي ذلك بشرى للمؤمنين المجاهدين والمناضلين الشرفاء والمستضعفين في الأرض، فلا ييأسوا من النجاة والخلاص من الطواغيت والفراعنة والمستكبرين والحكام المستبدين والظفر بهم والتمكن منهم والانتصار عليهم والحصول على كامل حقوقهم المشروعة في الحياة، بما في ذلك حقهم في الاستقلال والحرية وتقرير المصير واختيار نظام دولتهم وحكومتهم بأنفسهم وبالوسائل الديمقراطية والشرعية التي يرتضونها لأنفسهم ويتوافقون عليها بينهم.
روي أن موسى الكليم (عليه السلام) أخبر بني إسرائيل أن الله (عز وجل) قد أغرق فرعون فلم يصدقوه، فأمر الله (عز وجل) البحر فلفظ به على ساحل البحر حتى رأوه ميتاً[6]، وذلك لما دخل في نفوسهم من عظيم شأنه ومكانته حتى خُيّلَ إليهم أنه أجل شأناً من أن يغرق أو يهلك.
إذ عملت جميع وسائل الإعلام الفرعوني على تضليل الرأي العام وترسيخ أكذوبة أن فرعون إله وابن آلهة في العقل الجمعي الجماهيري في مصر، وأنه الرب الأعلى للناس الذي بيده تقدير أمور أرزاقهم ومعايشهم وآجالهم ونحو ذلك من الأكاذيب والأوهام والخيالات الباطلة التي لا أساس لها في العقل والمنطق السليم، حتى قبلوا به إلهاً وعبدوه وخضعوا لإرادته وأطاعوه طوعاً تحت تأثير الخداع والتضليل أو كرهاً تحت تأثير الخوف والترهيب المستمر، وتوهموا أنه عزيز كريم لا يصح عليه الغرق والهلاك.
وأيضاً لما دخل في قلوبهم من الخوف والرعب بسبب العقود المديدة التي مارس فيها ضدهم صنوف الإذلال والاضطهاد والعنف والتعذيب والتنكيل، فحصل لهم والحال هذه الشك في غرقه وهلاكه مع جنوده بسبب الوهن والضعف النفسي لديهم، فأمر الله (عز وجل) البحر أن يلقي ببدنه بلا روح على نجوة «المرتفع من الأرض» فشاهدوه وعرفوه.
وقيل: كان فرعون يرتدي درعاً من الذهب يعرف بها، وشوهد بدنه على النجوة وعليه ذلك الدرع فعرفوه.
وقيل: كان فرعون من قرنه إلى قدمه في الحديد، وقد لبسه على بدنه، وكان ضخم الجثة طويل القامة، فشاهده الناس وعرفوه بعلاماته، وفي ذلك آية إلهية أخرى؛ لأن من شأن وجود الحديد على كامل بدنه أن يغوص في أعماق الماء وأن يلقي به البحر على الساحل مخالف للطبيعة، فهو آية أو معجزة إلهية.
فأيقن الناس أنه بشر يجري عليه ما يجري على سائر الناس، وأنه ليس بإله وابن آلهة، وأنه ضعيف وعاجز وذليل وحقير، وأن نهايته المأساوية تدل على ذلك وعلى خسته وخيانته، فقد غرق مع الغارقين وهلك مع الهالكين، فثبت بذلك بطلان دعوى الألوهية والربوبية له ولأمثاله من الفراعنة والطواغيت المجرمين الدجالين، وثبتت خيانته للحقيقة والأمانة والمسؤولية والرعاية وخسة طبعه وحقارته وعجزه وضعفه وعدم أهليته واستحقاقه للحكم وتولي المناصب والمسؤولية العامة.
ومن ناحية الآثار، توجد في الزمن المعاصر في المتحف المصري جثة من جثث الفراعنة عثر عليها في العام «1900م» في الحفريات في الأقصر في قبر امنحتب الثاني، وهي جثة منفتاح بن رعمسيس الثاني المعروف عند اليونان باسم «سيزوستريس» من ملوك العائلة التاسعة عشر من الأسر الفرعونية في حدود العام «1491» قبل الميلاد، وقد ظهر أن القبر لم يكن مهيأً كما يجب لدفن ملك مثله، مما يفيد التوقع بأن موته كان فجأة ولم يكن منتظراً، فلم يهيأ له قبر خاص به.
وعليه: لم يستبعد بعض المفسرين أن تكون الجثة لفرعون موسى الكليم (عليه السلام) الذي غرق في البحر، وألقى البحر ببدنه على الساحل؛ اعتماداً على قول الله تعالى: <فَالْيَوْمَ نُنَجيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً>[7]، أي: إن الله (عز وجل) أخبر بأن جسم فرعون سيبقى محفوظاً ليراه الناس، ويكون عبرة لكل الأجيال القادمة في المستقبل، وليس للجيل المعاصر له فحسب، وقد توافقت الآيات القرآنية مع نتائج الآثار والبحوث التاريخية في المضمون وتحديد مسرح الأحداث وزمانها تقريباً.
ويحسن بنا الوقت هنا مع حقيقة إلهية تربوية عظيمة، وهي موافقة الجزاء الإلهي دائماً وأبداً لنوع العمل، قول الله تعالى: <جَزَاءً وِفَاقًا>[8]، أي: يجزون جزاءً موافقاً لأعمالهم.
وعليه: فإن الله (عز وجل) يجازي الفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة المستكبرين على الحق وأهله والمستعلين على العباد بعذاب الذل والهون في الدارين الدنيا والآخرة، قول الله تعالى: <فَأَما عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَقَالُوا مَنْ أَشَد مِنا قُوةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَن اللهَ الذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ 15 فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ>[9]، وشبه الله تعالى جثامين قوم عاد بعد هلاكهم بجدوع النخل؛ استهزاءً بهم وتهكماً، قول الله تعالى: <فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنهُّمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة>[10]، وقال الله تعالى عن عذاب الهون في الآخرة: <فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ>[11]، أي: أخذت صاعقة العذاب المهين قوم عاد وثمود، وهو العذاب الذي يفضحهم ويخزيهم في الدنيا جزاءً لهم على استكبارهم على الحق وأهله وعلى أعمالهم السيئة المذمومة، ويجزون في الآخرة بعذاب الذل والهون بشكل أخزى وأمرّ لذات السبب.
وعلى نفس الأساس ولذات السبب أغرق الله (عز وجل) الطاغية وأهلكه مع جميع جنوده، ثم رمى ببدنه جثة هامدة بلا روح إلى الساحل في العراء المكشوف، فشاهده الناس جميعاً جيفة ملقاة بالساحل، وأيقنوا بأنه بشر وليس بإله وابن آلهة، وأنه خسيس وذليل وخائن وضعيف وعاجز وحقير؛ ليكون عبرة لكل فرعون ولكل حاكم مستبد ظالم مترف يأتي بعده، فلا يفعلوا مثل فعله ويسيروا على نهجه وسيرته وطريقته في الحياة والحكم؛ فيصيبهم عذاب الذل والهون والخزي والعار ويفتضح أمرهم في الدنيا ويكونون لعنة ومسبة التاريخ، ثم ينادى بهم في الآخرة من رب العزة والجلال لملائكة العذاب: <خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيِم. ثُم صُبوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِن هَٰذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ>[12]، أي: يقال له تهكماً واستهزاءً به وتقريعاً وتوبيخاً له: يا صاحب الجلالة أو العظمة أو الفخامة أو السمو أو السعادة أو المعالي أو الوجيه أو نحو ذلك من الألقاب الفارغة التي كنتم تتنافسون عليها وتتقاتلون وترتكبون من أجلها صنوف الذنوب والمعاصي والجرائم والجنايات وتبنونها على الخيانة والخسة والرذيلة، ويا صاحب القصور والمباني الفخمة المزخرفة والقلاع والحرس والخدم والمواكب والأبهة ونحوها، و يا من تتبعه الجيوش الجرارة والأجهزة الأمنية والمؤسسات المختلفة ونحو ذلك، ذق عذاب الذل والهون في نار جهنم خالداً فيها؛ لأنك كنت تزعم أنك العزيز الذي لا يوصل إليك ولا يمتنع عنك شيء تريده أو تقصده، والكريم الذي لا يمكن أن يهان أو يعذب أو تخالف وتعصى كلمته وإرادته، فاستكبرت على الحق وأهله، وارتكبت الجرائم الشنيعة والجنايات الفظيعة ضد الإنسانية، وتجرأت على الدين والقيم والمبادئ والحقوق والحرمات والمقدسات، ولم تعرف لأحد غيرك فضيلة أو كرامة، وقد تبين لك بواقع الحال أنك أنت الخسيس الحقير الذليل المجرم المهان في الحقيقة والذي تستحق بأعمالك القبيحة السيئة المذمومة وجرائمك أشد العذاب وأخزاه في نار جهنم على يد زبانية ربانيون لا يرحمون المجرمين من أمثالك، فإن نجوت من حساب وعذاب الدنيا، فلن تنجوا من حساب وعذاب وخزي الآخرة.
ويقال لهؤلاء المجرمين الجناة في يوم القيامة يوم يعرضون على نار جهنم: <أَذْهَبْتُمْ طَيبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُون>[13]، مما يدل أن على الجلالة والعظمة والفخامة والسمو الحقيقي، وهي ضد الحقارة والخساسة والدناءة، تكمن حقيقةً وواقعاً في الكمال المعرفي والروحي ومحاسن الأخلاق والخيرية وصالح الأعمال والنفع إلى الناس، وليس في الجهل والتعصب وخيانة الأمانة والاستغراق في الشهوات الحيوانية والملذات الحسية والأهواء الشيطانية والرذائل والظلم والاستبداد وارتكاب الجرائم والجنايات ضد الإنسانية ونحوها، والملك والسلطة والقوة والثروة والجاه والمناصب ونحوها، وسكن القصور والمباني الفخمة المزخرفة والقلاع والمواكب الضخمة والأبهة والاستعراضات وتبعية الجيوش والأجهزة الأمنية والمؤسسات ونحو ذلك، مما يؤكد عليه ويتمسك به الشواذ الذين ابتلاهم الله (جل جلاله) بجنون العظمة.
ويتوهمون لأنفسهم المراتب العليا، وينسبون لأنفسهم الألقاب البراقة اللامعة بغير حق ولا حقيقة، وأن صاحب الجلالة والعظمة حقيقةً وواقعاً هو العظيم في صفاته وخصاله وأعماله، ولا يعمل الأعمال القبيحة والحقيرة، ولا يتصرف التصرفات الدنيئة، وما يتحلى به من يطلقون على أنفسهم ألقاب، مثل: صاحب الجلالة وصاحب العظمة وصاحب الفخامة وصاحب السمو وصاحب السعادة وصاحب المعالي ونحو ذلك من الرذائل والخصال المذمومة، مثل: الظلم والاستبداد والاستغراق في الشهوات والملذات الحسية والمصالح الأنانية الخاصة والأعمال السيئة والجرائم والجنايات، هي دليل على تفاهتهم وحقارتهم وخستهم ودناءتهم السيئة وبعدهم كل البعد عن صفة وحقيقة الجلالة والعظمة والسمو والفخامة والسعادة والمعالي ونحوها.
وهذه حقائق وجودية في غاية الوضوح والظهور والتجلي وقد قام عليها الدليل بالعقل والدين والمشاهدة عند ذوي البصائر، ومن شأنها أن توجب التأمل والتفكر والاعتبار، وتوقظ القلوب الساهية الغافلة من سهوها وغفلتها، ولكن كثيراً من الناس لجهلهم المطبق ولقلة حيائهم ووعيهم وبعدهم عن مصادر النور الإلهي والهداية ولاستغراقهم في عالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية العاجلة الفانية الزائلة والأوهام والخيالات وانفصالهم عن الواقع، وابتعادهم عن الله ذي الجلال والإكرام والقيم والمبادئ السامية، فإنهم ساهون عن هذه الحقائق والآيات وناسون لها وجاهلون بدلائلها وأبعادها، فلا يدركونها ولا يعرفون عنها شيئاً أو يتجاهلونها تماماً، وكأنها لم تكن، فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها ولا ينتفعون منها رغم ظهورها في العقل والحس؛ بغياً منهم واستكباراً على الحق وأهله، على خلاف أصحاب البصائر والقلوب الحية الحاضرة المنفتحة على الحق من المؤمنين، الذين يرون فيها دليلاً على صحة ما جاءت به الرسل الكرام (عليهم السلام) وأخبرت عنه، قول الله تعالى: <وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ>[14].
وكان العلاج الوحيد المناسب لهؤلاء المجرمين الفاسقين هو عذاب الهلاك والاستئصال، لما يتصفون به من صفات قبيحة وخصال مذمومة، مثل: العناد والاستكبار والإصرار على الكفر والضلال والمعصية، ولما يقومون به من أعمال سيئة مذمومة وجرائم شنيعة وجنايات فظيعة، مثل: قتل الأبرياء والصالحين والمطالبين بالحقوق العادلة المشروعة وسجنهم وتعذيبهم والتضييق عليهم ونفيهم ونحو ذلك، ولما يشكلونه من خطر على الإنسانية وإعاقة تقدم مسيرتها التكاملية التاريخية، كما فعل الله (عز وجل) بقوم نوح وعاد وثمود ولوط وشعيب وغيرهم، أي: كان مصيرهم إلى الخزي والعار والشقاء والخسران المبين في الدارين الدنيا والآخرة.
وهو المصير الذي ينتظر أمثالهم في العالم المعاصر، والآية الشريفة المباركة تبين لنا بأن عدم استفادة المعاندين من آيات الله تبارك وتعالى والحجة والأدلة المنطقية وعدم اهتدائهم بها لا ينقص من شأنها وقيمتها، فهي ذات قيمة ودلالة بالغة في نفسها، والعيب والنقص فيهم لعدم استفادتهم منها واهتدائهم بها وليس فيها.