فوائد و عبر

إن فرعون الطاغية المجرم كان يعلم من نفسه علماً وجدانياً يقينياً بأنه بشر وليس بإله أو ابن إله، ويعلم أن الناس يعلمون ذلك، ولكنه وجد حوله أناساً جهلة فاقدين للوعي والإرادة والكرامة ولا يقدرون الإنسانية في أنفسهم وفي غيرهم من البشر، فرض عليهم أكذوبة أنه إله ابن آلهة، واستعبدهم لنفسه بغير حق، وسخرهم لنزواته وأغراضه الخبيثة وأهوائه الشيطانية وغرائزه الحيوانية الهابطة، وقبلوا منه وهم يعلمون ببطلان ما دعاهم إليه.

وهذا ما يفعله أمثاله من الفراعنة المجرمين والحكام المستبدين الخونة في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، حين يجدون حولهم أُناساً بلهاء جهلاء سفهاء فاقدين للوعي والإرادة والكرامة، يقبلون باطلهم ويتابعونهم فيما يدعوهم إليه من الباطل والظلم والرذيلة بغير حجة أو برهان، ويخضعون لإرادتهم الاستكبارية الشيطانية على خلاف العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم والمبادئ الإنسانية السامية والقيم العليا والكرامة والحقوق، ويقفون في صفوفهم ضد الأولياء الصالحين وقادة الإصلاح والمطالبين بالحرية والحقوق، ويساهمون معهم في قتلهم وأسرهم وتشريدهم والتنكيل بهم ومحاربتهم في أرزاقهم ومعايشهم والتضييق عليهم بشتى الوسائل والسبل وما هنالك من أصناف وفنون الظلم والعدوان والاستضعاف والإذلال والأفعال والتصرفات القبيحة التي يرفضها العقل والدين، ويساهمون في تعزيز وفرض حكم الأمر الواقع المنحرف والمتخلف ويمنعون الإصلاح والتطوير والاستقلال والازدهار ونحو ذلك.

ثم إن فرعون الطاغية وحزبه وجنوده المجرمين وقومه الفاسقين، قد وصلتهم الآيات البينات الواضحة، ورأوا المعجزات النيرات الباهرات القاهرات الدالة على صدق نبوة موسى الكليم (عليه السلام) ورسالته وعدالة قضيته وشريعة مطالبه الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية، قول الله تعالى: <وَلَقَدْ وَصّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلهُمْ يَتَذَكرُون>[1]، ولكنهم تجاهلوها تماماً كأنها لم تكن بغياً بينهم وعدواناً واستكباراً على الحق وأهله وعناداً واِصراراً على الباطل والظلم والعدوان والرذيلة، وكان آخرها آية انفلاق البحر إلى فلقين كل فلق كالطود «الجبل» العظيم، فلم يعودوا إلى عقولهم ورشدهم، ولم يتعظوا ولم يتراجعوا عن كفرهم وضلالهم وغيهم وبغيهم وعدوانهم على الأبرياء والصالحين والمصلحين والمطالبين بالحقوق، وأصرُّوا على الاستمرار فيما كانوا عليه من الباطل والظلم والعدوان، والمضي قدماً في سعيهم لارتكاب جريمة التصفية الجسدية التامة لموسى الكليم (عليه السلام) وقومه المؤمنين من بني إسرائيل، وذلك تحت تأثير شهوة الملك والحكم والتسلط وغرور السلطة والقوة والثروة والجاه، ولفرط حالة الأنانية والعدوانية لديهم، وهذه هي الحالة المأساوية واللاإنسانية التي تطابقت عليها عقول وقلوب الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة والمترفين المستغلين والانتهازيين الموالين لهم من الكُتّاب والصحفيين وحملة الشهادات العليا ونحوهم، الذين تعمي شهوة السلطة والثروة والجاه والمناصب وغرور القوة والاستغراق في عالم الدنيا والمادة والمصالح والمقاصد الفاسدة بصيرتهم وقلوبهم، فلا يفقهون دليلاً بالغ ما بلغ من التمام والوضوح، ولا يرون حقيقة بالغ ما بلغت من الوضوح والنور والضياء ولو كانت كالشمس في رابعة النهار، ولا يسمعون موعظة بالغ ما بلغت من التأثير، ولا نصيحة بالغ ما بلغت من الصدق والصواب، ولا يرون منزلة ولا كرامة لإنسان بالغ ما بلغ من العلم والفضيلة والصلاح والعطاء، فهم لا يرون إلا أنفسهم ومصالحهم وحزبهم وقوتهم، ولا يرون شيئاً غير ذلك، ولا يقيمون وزناً لدين أو حقيقة أو منطق أو حجة أو برهان أو مبدأ أو قيمة أخلاقية أو نحو ذلك، وهم غافلون تماماً عن حقيقة أن كمالهم الإنساني وخيرهم وصلاحيتهم ومصلحتهم الحقيقية في دورة الحياة الكاملة، طولاً على مستوى التاريخ، وعرضاً على المستوى العام للمجتمع أو الأمة وسعادتهم الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، ليست في السلطة والثروة والمصالح الخاصة، وإنما في معرفة الحقيقة والتمسك بها والعمل بمقتضاها، وأن الدنيا زائلة فانية والآخرة باقية خالدة، وأن نعيم الدنيا ولذاتها مشوبة بالألم والعذاب ونعيم الآخرة ولذاتها صاخبة خالصة نقية من جميع الشوائب والنواقص والألم والمعكرات، وأن ملك الدنيا كلها ولذاتها وما فيها حتى لو اجتمعت لشخص لا تساوي القليل من ملك الآخرة ولذاتها ونعيمها، ولكن من أين لهؤلاء السفهاء الحمقى السفلة المجرمين الوعي وإدراك هذه الحقائق الوجودية العظيمة رغم وضوحها غاية الوضوح، وهم غارقون تماماً في شرك الأهواء والوساوس الشيطانية ووحل ومستنقع الشهوات الحيوانية واللذات الحسية، وتعطيل عقولهم وضمائرهم كل التعطيل عن العمل.وعلى ما سبق، ينبغي أن نفهم مواقف الفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين من المعارضين لهم، وأن لا ننخدع بإعلامهم وتبريراتهم والموالين لهم، فلكل ساقط لاقط، ويجب أن نحكم عقولنا ونتعلم من التجارب التاريخية والآيات والبينات القرآنية ونحوها.

أن المجرمين السفهاء السفلة من الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة والمترفين المستغلين والانتهازيين الأنانيين والموالين لهم من النخبة، يعرفون الحق ولا يجهلونه ولكنهم يتجاهلونه عمداً عن قصد وعلم، وذلك لخبث أنفسهم وسوء طباعهم وانحرافهم عن الفطرة وضعف منطقهم ولمقاصدهم الفاسدة وملكات أنفسهم الرذيلة وما غلب عليهم من السفاهة والنحاسة والخسران والشقاء، وما كان الله  (جل جلاله) ليعذبهم ويهلكهم وينتهي بهم إلى العاقبة السيئة المذمومة في الدارين الدنيا الآخرة، لولا عنادهم واستكبارهم على الحق وأهله وإصرارهم على الكفر والضلال والمعصية عن علم وبعد قيام الحجة عليهم، وما يشكلونه من خطر حقيقي على المجتمع وعلى المسيرة الإنسانية التاريخية التكاملية.

وأن هؤلاء المجرمين الخونة يودون لو أنهم كانوا مسلمين ومطيعين لله  (جل جلاله)، قول الله تعالى: <رُبَمَا يَوَدّ الذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِين>[2]، وأنهم يضطرون إلى إظهار هذه الحقيقة، ويعترفون بفسقهم وضلالهم في يوم القيامة، ولكن بسبب ضعف نفوسهم وإرادتهم وتمكن الأمراض الروحية والأهواء والشهوات منهم، فتعطل عقولهم عن العمل وتعمى قلوبهم تماماً عن رؤية الحقائق، فلا يؤمنوا في عالم الدنيا، وفي ذلك يتجلى جهل الإنسان وشقاؤه، وبعده عن العقل والمنطق والنظرة والطبع السليم، وتَنَكُرِه للكرامة وقيمة الإنسانية وفضيلتها، فقد ميز الله سبحانه وتعالى الإنسان بالعقل والاختبار وفرض عليه التكليف، وبذلك كانت كرامته وفضله على الخلائق، قول الله تعالى: <وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَر وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا>[3]، فلا كرامة للإنسان حين يعمل على خلاف عقله وطبعه السليم، ويتبع أهواءه الشيطانية ويستغرق في ملذاته الحسية وشهواته الحيوانية، فكرامة الإنسان هي بمقدار ما يخضع لعقله ويوافق طبعه الإنساني السليم، ويخالف أهواءه الشيطانية ورغباته وشهواته الحيوانية فلا ينقاد لها، ويفقد من كرامته وإنسانيته بمقدار ما يخالف عقله وفطرته وطبعه السليم ويتبع أهواءه وملذاته وشهواته وينقاد لها.

وعليه: يجب على الإنسان المؤمن أن يكون قوياً في دينه، ولا ينخدع بأحوال وشهوات المبطلين، ولا يضعف أمام إغراءات وترهيب الظالمين والمستكبرين.


المصادر والمراجع

  • [1]. القصص: 51
  • [2]. الحجر: 2
  • [3]. الإسراء: 70
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى