هلاك فرعون وجنوده وحزبه المجرمين أجمعين

<وَجَاوَزْنَا بِبَنِی إِسْرَائِیلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْیًا وَعَدْوًا حَتى إِذَا أَدْرَکَهُ الْغَرَقُ>

أجاب الله تبارك وتعالى دعاء موسى الكليم وهارون  (عليهما السلام)، وعلى ضوء ذلك أمرهما بالخروج مع جميع بني إسرائيل من أرض مصر والتوجه إلى أرض الميعاد الأرض المقدسة أرض فلسطين، ويسر لهم أسباب وظروف الخروج، وعيّن لهم الوقت الذي ينبغي أن يخرجوا فيه، وأن يكون خروجهم سراً على فرعون وحزبه المجرمين وقومه الموالين إليه والمساندين إلى نظامه والداعمين إلى سياسته الظالمة الجائرة بحق بني إسرائيل.

فلما علموا بخروجهم وأنهم عازمون على مفارقة مملكتهم لم يتركوهم لحال سبيلهم، بل خرجوا على عقبهم يحثون الخطى للحوق بهم؛ بهدف القضاء عليهم بغياً وظلماً وعدواناً وطلباً للاستعلاء في الأرض بغير الحق، ولا شك فإن اتباع فرعون وجنوده المجرمين لبني إسرائيل بهدف منعهم من السفر وردهم الوطن كرهاً، يعد ظلماً وعدواناً؛ لأن الهجرة من الوطن حق طبيعي مكفول للإنسان، فليس لأحد منعه من ذلك ما لم يكن لأحد عليه حق في البقاء بغية استيفاء حقه، كما ليس لأحد الحق في نفيه من وطنه وتجريده من جنسيته، ويعد ذلك أيضاً جريمةً وظلماً وعدواناً وانتهاكاً لحقوق الإنسان.

وكان الدافع لفرعون وحزبه المجرمين وراء منع بني إسرائيل من الهجرة، ما كان يعيش فيه فرعون وحزبه من الهواجس والوساوس الشيطانية والأوهام الأمنية والسياسية، فرضتها عليهم أنفسهم الخبيثة وطباعهم السيئة وانحرافهم عن الفطرة والمنطق السليم، وخياناتهم للحق والعدالة وأمانة الرعاية والحكومة والمسؤولية، والإفراط في الأنانية وغير ذلك، مما حملهم على العدوانية ضد الغير، والانتهاك المفرط في حقوق الإنسان.

كما أنهم خافوا كثيراً؛ بسبب جرائمهم من أن يقوم بنو إسرائيل بتنظيم صفوفهم وإعادة بناء قوتهم تحت قيادة موسى الكليم وهارون  (عليهما السلام)، وعقد التحالفات مع آخرين يناصرونهم، ثم يقومون بمهاجمة مصر ويقضون على النظام الفرعوني، وينتقمون لأنفسهم عن ما لحق بهم فيما سبق من ظلم وعدوان واضطهاد واستضعاف وإذلال وأذى من فرعون الطاغية وحزبه المجرمين وقومه الفاسقين.

كما أرادوا بمنع بني إسرائيل من الهجرة؛ للاستمرار في إخضاعهم لإرادتهم وتسخيرهم بغير حق في الأعمال الشاقة والوضيعة، أي: يترتب على خروجهم أضرار على الاقتصاد المصري، وخلق بعض المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على الفراغ الذي يتركونه في شغل هذه الأعمال، حيث لا يوجد من الأقباط من يشغل هذا الفراغ ويقوم بهذه الأعمال.

وهذا هو حال الفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا في التعامل مع الشعوب المستضعفة والمعارضين لهم.

فأعلن فرعون وحزبه المجرمون النفير العام، قول الله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنكُم متبَعُونَ ٥٢ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ٥٣ إِن هَـؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ٥٤ وَإِنهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ٥٥ وَإِنا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ>[1]، وقرروا تشكيل قوة عسكرية ضاربة وملاحقة بني إسرائيل حتى يظفروا بهم؛ لردهم كرهاً إلى أرض مصر، وإخضاعهم لإرادة النظام الفرعوني وسلطته أو القضاء عليهم تماماً، ووضع حد لتمردهم وخطرهم والخلاص من شرهم، قبل أن يتمكنوا من تجاوز الحدود المصرية والخروج من سلطة النظام الفرعوني والدخول إلى الأرض المقدسة فلسطين.

فتبعوهم وكادوا يدركونهم لولا رحمة الله تبارك وتعالى ببني إسرائيل وعظيم تدبيره. فقد اقترب فرعون وجنوده كثيراً من ركب بني إسرائيل، وتراءى الجمعان، فخاف بنو إسرائيل خوفاً شديداً من أن يدركهم فرعون وجنوده، فيقضوا عليهم جميعاً ويمحوهم من صفحة الوجود، حيث ليس لهم بقية، إذ خرجوا بأجمعهم وفيهم النساء والأطفال، وقد صاروا بين بحر مغرق أمامهم وجيش مهلك من خلفهم، ولا حول لهم ولا قوة.

إلا أن موسى الكليم (عليه السلام) طمأنهم بوحي من الله تبارك وتعالى، وأخبرهم بأن الله (عز وجل) سيجعل لهم مخرجاً، وينجيهم من فرعون وجنوده المجرمين، ويهلك عدوهم ويحقق لهم ما وعدهم من النصر والاستخلاف، وأوصاهم بأن يثقوا بقدرة الله (عز وجل) ووعده الصادق، ويستعينوا به ويتوكلوا عليه ويفوضوا إليه أمرهم فهو ربهم ووليهم في الدنيا والآخرة، ولن يسلمهم إلى عدوهم.

 فإن بلغ موسى الكليم (عليه السلام) مع بني إسرائيل البحر الأحمر «بحر السويس/ سوف» الذي يحجز بين مصر وسيناء. وقيل: نهر النيل وهو الصحيح، وقد اُطلق عليه اسم البحر لعظمته، أمر الله  (جل جلاله) عبده ووليه ورسوله الكريم موسى الكليم (عليه السلام) أن يضرب البحر بعصاه، ففعل ما أمره الله  (جل جلاله) به، فانفلق البحر إلى فلقين كلُ فلقٍ كالطود «الجبل» العظيم، وظهرت بين الطودين اثنا عشر طريقاً يبساً ليمشوا على أرضها بسهولة ويسر وبدون عراقيل أو صعوبات أو مشاكل، وأمرهم الله  (جل جلاله) بالمرور أو العبور فيها بين الطودين العظيمين، ففعلوا ما أمرهم الله  (جل جلاله) به، ووصل فرعون الطاغية وجنوده الضالون المجرمون إلى المكان، ورأوا المشهد؛ ولفرط جهلهم وضلالهم وغرورهم لم يتعظوا بما رأوا، وإنما أصروا على كفرهم وضلالهم وإرادة الظلم والعدوان والاستكبار في الأرض بغير الحق، فسلكوا الطرق اليابسة في البحر بين الطودين العظيمين، وجدُّوا في المسير من أجل إدراك موسى الكليم (عليه السلام) وبني إسرائيل لتصفيتهم والقضاء عليهم؛ بالقتل الجماعي لهم ظلماً وعدواناً.

وفي الحديث الشريف عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: «لما صار موسى في البحر اتبعه فرعون وجنوده، قال: فبهت فرس فرعون أن يدخل البحر، فتمثل له جبرئيل (عليه السلام) على رمكة (يعني الفرس التي تتخذ للنسل)، فلما رأى فرس فرعون الرمكة اتبعها، فدخل البحر هو وأصحابه فغرقوا»[2].

قول الله تعالى: <وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسرائيل الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا>[3]، وهكذا يفعل الجهل وغرور السلطة والقوة والثروة والجاه بأهله من الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة والمترفين المستغلين والانتهازيين والأنانيين الفاسدين ونحوهم من عبدة المادة والدنيا والدرهم، حيث تعمى بصيرتهم بسبب استغراقهم في عالم الدنيا والمادة والمصالح، عند إدراك الحقائق والوقائع كما هي عليه، فيكونوا بمعزل تام عنها وينفصلوا عن الواقع، ويعيشوا الأوهام والخيالات المريضة التي يصنعها جنون العظمة ووساوس الشيطان الرجيم تحت تأثير غرور السلطة والقوة والثروة والجاه.

فلما استكمل موسى الكليم (عليه السلام) مع بني إسرائيل خروجهم جميعاً من البحر في الطرق الاثني عشر بين الطودين العظيمين، وتجاوزوا الماء إلى البر على الضفة الأخرى من البحر، واستكمل فرعون وجنوده وحزبه المجرمين دخولهم جميعاً إلى البحر، أمر الله (عز وجل) البحر فالتطم الطودان العظيمان عليهم فأغرقهم أجمعين، وبنو إسرائيل ينظرون إليهم وهم يغرقون جميعاً، ولم ينجوا منهم أحداً وبني إسرائيل سالمين أجمعين.

وتعتبر مثل هذه النتيجة من الضروريات أو حتميات السنن الإلهية العظيمة في تدبير المسيرة التاريخية التكاملية للإنسان؛ لأن الله (عز وجل) تكفل بإرسال الأنبياء الكرام (عليهم السلام) لهداية البشرية وإرشادهم إلى الدين الإلهي الحق والصراط المستقيم وما فيه كمالهم وخيرهم وصلاحهم ومصلحتهم وسعادتهم الحقيقة في الدارين الدنيا والآخرة، وتكفل بتزويدهم بما يدل على صدق نبوتهم ورسالتهم وعدالة قضيتهم وشرعية مطالبهم بشكل يقيني لا يقبل الشك والريب والتردد، من المعجزات الباهرات القاهرات والآيات البينات النيرات الواضحات والأدلة القاطعة والبراهين المتينة المحكمة الدلالة.

كما تكفل ببقاء الرسالة وديمومتها واستمرارها، وجعلها في متناول الذين يطلبونها في دورتها الرسالية والمدى الزمني المقرر لها، ضمن ما يسمى في البحوث القرآنية بسنة الاستبدال، وهنا أشير إلى بعض الأمور المهمة التي تقضيها هذه السنة في موضوع البحث، وهي:-

أ.   ضمان حفظ الكتاب الذي فيه الرسالة السماوية، وعليه يتوقف العمل بها ويمتنع التحريف والتغيير والتبديل للرسالة في دورتها الرسالية والمدى الزمني المقرر لها، وحفظ الكتاب من التحريف والتغيير والتبديل إلى الأبد، خاص بالرسالة الخاتمة؛ لأن الرسالات السابقة يتكفل الأنبياء الكرام اللاحقون (عليهم السلام) بتصحيح ما سلف من التحريف والتغيير والتبديل في الكتاب، الصورة والمضمون، وهذا غير متوفر في الرسالة المحمدية الخاتمة؛ لأنه لا يكون إلا بالوحي، ومحمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو خاتم الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) وآخرهم، وعليه: فقد تكفل الله (عز وجل) بالوسائل الطبيعية، مثل: التوجيه إلى حفظ الكتاب «القرآن الكريم» وتدوينه وتحفيظه بدقة بالغة في الضبط، وبالوسائل الغيبية التي لا يعلم حقيقتها ولا كيف هي إلا هو بحفظ الكتاب من التحريف والتغيير والتبديل إلى أبد الآبدين، قول الله تعالى: <إِنا نَحْنُ نَزلْنَا الذكْرَ وَإِنا لَهُ لَحَافِظُون>[4]، وأصبح ذلك حقيقة واضحة ثابتة علمياً ومنطقياً لا يجادل فيها إلا مختل أو مجنون، وأسند إلى أوصياء محمد الطيبين الطاهرين (عليهم السلام) قضية بيانه وشرحه وإزالة التحريف والتغيير والتبديل في فهمه وتطبيقه، وأمر عباده بالرجوع إليهم، وجعلهم حجة عليهم إلى يوم الدين.

ب. ضمان وجود الحَمَلة للرسالة الصحيحة والمبلغين بها من الأنبياء الكرام والأوصياء المطهرين (عليهم السلام) في دورتها الرسالية والمدى الزمني المقرر لها، ولأن الإسلام المحمدي الحنيف هو خاتم الأديان والرسالات السماوية، فقد تكفل الله (عز وجل) بوجود الحَمَلة من الأوصياء الهادين المهديين (عليهم السلام) إلى نهاية التاريخ أو ما بقيت حياة الإنسان على وجه الأرض.

فإن عجزت الوسائل الطبيعية عن المحافظة عليهم، تدخلت العناية الربانية بالوسائل الغيبية لضمان بقائهم وحفظهم، وعليه: فقد كان بقاء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى ما بعد وفاة الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم مشاركته في الحروب وتقدمه فيها، ضرورة وحتمية تاريخية لمقتضى سنة الاستبدال وغيرها من السنن الإلهية؛ لأن على بقائه إلى ما بعد وفاة الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوقف بقاء الإسلام الصحيح، وفي الدعاء الشريف: «و لولا أنت يا علي لم يعرف المؤمنون بعدي، وكان بعده هدى من الضلال ونوراً من العمى وحبل الله المتين وصراطه المستقيم»[5]، وكذلك الحال بالنسبة إلى بقاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) وسلالته من القتل في كربلاء، رغم الظروف الحرجة جداً التي صاحبت قتل والده وأهل بيته وأصحابه، ولم يبق من الرجال غيره، وكانت نجاته بالأسباب الطبيعية ضرب من المستحيل؛ وذلك لأن على بقائه وسلامته يتوقف بقاء الإسلام الصحيح بعد استشهاد أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام)، وكذلك بقاء الإمام الحجة المهدي (عجل الله فرجه الشريف) وسلامته في زمن الغيبة حتى الظهور الشريف المبارك؛ لأن على بقائه وسلامته يتوقف بقاء الإسلام الصحيح وتحقيق الوعد الإلهي بإقامة دولة العدل الإلهي العالمية على يديه، وإظهار الدين الإلهي الحق على كل دين، ونفض كل ما علق به من أتربة الزمان وتحريف في العقيدة وتبديل في الأحكام الشرعية، والأخذ بيد البشرية جمعاء إلى أوج رشدها وكمالها المعرفي والتربوي والحضاري، وتحقق بذلك الإرادة الربانية العليا في تحقيق غاية خلق الإنسان، قول الله تعالى: <وَمَا خَلَقْتُ الْجِن وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ>[6]، أي: عبادة الفرد الكامل «الكمال التربوي» وعبادة المجتمع الكامل «الكمال الحضاري» الذي لا ينفصل عن الكمال العلمي والمعرفي، وتحقيق ذلك كله بعد الظهور الشريف للإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف).

وقد أكد حديث الثقلين المتواتر عند جميع المسلمين الحقيقتين المتعلقتين بالكتاب والحَمَلة، قول الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»[7]، قال ابن حجر الهيتمي في كتابه الصواعق المحرقة: «وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة كما أن الكتاب العزيز كذلك»[8]، والمعنى واضح لكل ذي لب في مدلول ألفاظ الحديث. كما يدخل في الحَمَلة استناداً إلى التحليل العلمي المنطقي العلماء المجددون الذين يتوقف على وجودهم رد الشبهات وهداية المؤمنين وتأهيلهم ما دامت الحاجة الضرورية إلى وجودهم قائمة في عصر الغيبة.

ج. ضمان وجود الجماعة المؤمنة الصالحة المؤهلة السالكة لمنهج الهداية والصلاح والصراط المستقيم، بحيث لا ينقطع وجودهم، ويكون وجودهم ضمانة إلى وجود الرسالة السماوية الصحيحة ووصولها وانتقالها بشكل متسلسل وبدون انقطاع من جيل إلى جيل إلى قيام الساعة، مع قيام الدليل الشرعي والمنطقي الصحيح الناهض عليها جملةً وتفصيلاً. وهذا يدخل ضمن قيام الحجة البالغة لله (عز وجل) على الناس، قول الله تعالى: <قُلْ فَلِلهِ الْحُجةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين>[9].

ويعتبر وجود الجماعة الصالحة المؤمنة بالرسالة في الرسالات السماوية السابقة في الدورة الرسالية أو المدى الزمني المقرر لها ضمانة؛ لأن الأنبياء الكرام اللاحقون (عليهم السلام) يتكلفون بتصحيح ما يحدث في الرسالة من تحريف أو تغيير أو تبديل، ويقومون بتربية الجماعة المؤمنة الصالحة، كل نبي في عهده، ثم يخلفه النبي الذي بعده، فيقوم بنفس المهمة حتى تنقضي الدورة أو الزمن المقرر للرسالة، فيأتي نبي برسالة جديدة وبعهد جديد، حتى جاء محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة الخاتمة.

وبالنسبة إلى الجماعة المؤمنة الصالحة في الرسالة المحمدية الخاتمة، فوجودها باقي ومستمر وبدون انقطاع ما بقي الدهر وبقيت حياة الإنسان على وجه الأرض، قول الله تعالى: <فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ>[10]، وقول الله تعالى: <وَإِنْ تَتَوَلوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُم لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ>[11]، وقول الله تعالى: <يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَد مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبهُمْ وَيُحِبونَهُ أَذِلةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[12]، وغيرها من الآيات الشريفة المباركة.

ويكون هؤلاء دائماً وأبداً تابعون لأئمة الهدى في كل عصر ضرورةً وبحكم الدين والمنطق، قول الله تعالى: <يَوْمَ نَدْعُو كُل أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. وَمَنْ كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَل سَبِيلًا>[13] أي: يوم القيامة، نحضر كل قوم بإمامهم الذي يأمنون به ويتبعونه ويقتدون به في حياتهم، سواء أكان إمام حق وهدى أو إمام باطل وضلال. فيفترقون حينئذٍ إلى فريقين، المؤمنون الصالحون المهتدون أصحاب البصائر، الذين يعرفون أئمة الحق والهدى ويتبعونهم، وهؤلاء يؤتون كتاب أعمالهم بأيمانهم، وذلك لصلاح عقيدتهم وأعمالهم، فيقرؤون كتابهم فرحين مبشرين بما فيه، ولا ينقص من ثواب أعمالهم شيئاً، بل يُوفون أجورهم تامة كاملة ويزيدهم الله تبارك وتعالى من فضله، والضالون فاقدوا البصيرة عميان القلوب الذين يبتغون أئمة الباطل والضلال، ولا يعرفون أئمة الحق ولا يسلكون سبيلهم في الحياة، فهؤلاء الضالون لا يقدرون على قراءة كتاب أعمالهم؛ لما يغشاهم من شدة الغم والحزن، ويكونون عمياناً عن سلوك طريق الخير والنجاة، ولا يجدون السعادة والفلاح، ولا يهتدون إلى المغفرة والرحمة وجنة النعيم، وقول الله تعالى: <فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُل أُمةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا 41 يَوْمَئِذٍ يَوَد الذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرسُولَ لَوْ تُسَوّىٰ بِهِمُ الأرض وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا>[14].

وعليه: فإن هذه الجماعة المؤمنة الصالحة إذا تعرضت إلى خطر وجودي يهدد وجودها، بما يمثل تهديداً لوجود الرسالة واستمرارها، فإن الله (عز وجل) يتدخل لإنقاذها، فإن عجزت الأسباب الطبيعية عن ذلك، فإن الله (عز وجل) يتدخل بالأسباب الغيبية.

كما حدث للمسلمين في معركة بدر الكبرى في العام الهجري الثاني، حيث يقول الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً»[15]، فنصر الله (عز وجل) المسلمين بالأسباب الغيبية على عدوهم رغم قلة المسلمين الشديدة، وكثرة عدوهم الكبيرة بالنسبة إليهم، قول الله تعالى: <وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلةٌ فَاتقُوا اللهَ لَعَلكُمْ تَشْكُرُونَ 123 إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ 124 بَلَىٰ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوّمِينَ 125 وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِن قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ 126 لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِين>[16]، وقول الله تعالى: <فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِن اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِن اللهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِن اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 17 ذَٰلِكُمْ وَأَن اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِين>[17].

وكان نصر المسلمين على الكافرين في معركة بدر الكبرى في العام الهجري الثاني، ضرورة وحتمية تاريخية وفق سُنة الاستبدال ونحوها من السنن التاريخية؛ لأن عليها يتوقف بقاء الرسالة واستمرارها ووصولها إلى الناس الذين يطلبونها.

وهذا عينه ينطبق على نجاة بني إسرائيل حين سعى فرعون الطاغية وحزبه المجرمون للقضاء عليهم، وعجزت الأسباب الطبيعية عن إنقاذهم بسبب حصارهم بين البحر المغرق والجيش المهلك، وكان ميزان القوى المادية والبشرية يميل بشدة إلى صالح فرعون وحزبه، فتدخل الله (عز وجل) بالأسباب الغيبية «المعجزة القاهرة» لنجاتهم وهلاك عدوهم فرعون الطاغية وحزبه وجنوده أجمعين.

 وكما امتن الله تبارك وتعالى على المسلمين بنصرهم على عدوهم في معركة بدر الكبرى، امتن الله تبارك وتعالى على بني إسرائيل بنجاتهم وهلاك عدوهم، وقول الله تعالى: <يَا بَنِي إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ التِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ 47 وَاتقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ 48 وَإِذْ نَجيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبكُمْ عَظِيمٌ 49 وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ>[18].

وبناءً على ما سبق: ينبغي على المؤمنين الأعزاء حفظهم الله تعالى، أن يستوعبوا هذا الدرس الرباني البليغ ويتذكرونه في أوقات الشدة والمحن خاصة، ويعلموا بأنهم بعين الله سبحانه وتعالى وتحت سلطانه ورعايته وفي تدبيره، وأنه قادر على تخليصهم من عدوهم ونصرهم عليه والظفر به، ولا يمكن أن يصيبهم سوء إلا بإذنه، وإن النصر النهائي حتماً لأصحاب الحق مهما طال الزمن وتعسرت الظروف واشتدت الأوضاع وملك الأعداء، قول الله تعالى: <قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِني عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدارِ إِنهُ لَا يُفْلِحُ الظالِمُونَ>[19]، أي: قل يا محمد للمشركين والظالمين أجمعين في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، اعملوا على الحالة التي يستقر عليها أمركم ورضيتموها لأنفسكم من الكفر والضلال والظلم والجور والطغيان والفساد في الأرض بغير حق، والصد عن سبيل الله (عز وجل) ودينه الحق، وعن الخير والفضيلة والصلاح، وأقيموا على عداوتكم لنا، وكيدوا وامكروا ما وسعكم المكر والكيد، وارسموا الاستراتيجيات وضعوا الخطط والبرامج للكيد بنا، ووظفوا جميع إمكانياتكم المادية والبشرية والعلمية والتكنولوجية والتقنية، واعملوا بأقصى طاقتكم وجهدكم وأنتم في غاية قوتكم وتمكنكم من أمركم، بهدف القضاء علينا وعلى رسالتنا وقضيتنا العادلة والحيلولة دون وصولنا إلى مطالبنا وأهدافنا وغاياتنا في الحياة، فأنا ومن اتبعني من المؤمنين المجاهدين والمناضلين الشرفاء، غير مبالين بكم ولا مكترثين بقوتكم وجمعكم ومكركم ودهائكم، فإنا دائبون في القيام بواجباتنا بأمر الله سبحانه وتعالى، ومتبعون مرضاته في التبليغ بالرسالة والدين الحق وبيان عدالة القضية وشرعية المطالب وواقعيتها، والنصح والإرشاد إليكم وإقامة الحجة عليكم ومصابرتكم والثبات كما أمرنا رب العالمين أمام كيدكم ومكركم وحبائلكم ودسائسكم والعقبات والصعوبات التي تضعونها في طريقنا، والمشاكل والنكبات التي توجدونها في أوضاعنا، غير منصرفين عن تكليفنا وعما أمرنا الله سبحانه وتعالى به، ولا متراجعين عما نحن فيه من الهدى وما نحن عليه من الحق والعدل والخير والفضيلة والصلاح والإصلاح والجهاد في سبيل الله (عز وجل)، وسوف تعلمون إن كان عاجلاً أو آجلاً من منا على الحق ومن على الباطل، ومن الرابح في عمله وسعيه ومن الخاسر الفاشل، ولمن تكون العاقبة الحسنة الممدوحة في الدارين الدنيا والآخرة ولمن تكون العاقبة السيئة المذمومة، ويقيني أنا ومن اتبعني من المؤمنين المجاهدين والمناضلين الشرفاء نحن الناجحون الفائزون؛ لأننا على الهدى والحق والعدل، وأنتم الخاسرون الفاشلون؛ لأنكم على الضلال والباطل والظلم، ولا يمكن أن يفلح من كان على الضلال والباطل والظلم ويصل إلى مقصوده وإن طال بهم الأمد.

 بل يعصف بهم الضلال والباطل والظلم حتى يقضوا عليهم، ويكون طول بقائهم لسوء حظهم؛ ليستكملوا الشقاء والخزي والعار، ويستوجبوا العذاب العظيم، أي: إن عمل المؤمنين وتضحياتهم محفوظة ومباركة عند الله تبارك وتعالى، وسيجزيهم عليها الجزاء الأوفى، فعليهم أن يتحلوا بالإيمان والتقوى والوعي والإخلاص والصبر والتحمل والصمود والثبات، والاستمرار في المقاومة والجهاد، وأداء ما عليهم من التكليف، ولا يضعفوا أمام عدوهم مهما كانت قوته وقساوته وبطشه، ولا يخضعوا لإرادته الاستكبارية الشيطانية، قول الله تعالى: <وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين 139 إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا وَيَتخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِب الظالِمِين 140 وَلِيُمَحصَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرين 141 أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنةَ وَلَما يَعْلَمِ اللهُ الذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصابِرِين>[20]، وهذا من حقائق الإيمان الصادق ومقتضيات كماله كما هو واضح.


المصادر والمراجع

  • [1]. الشعراء: 52-56
  • [2]. الاختصاص، المفيد، صفحة 266
  • [3]. يونس: 90
  • [4]. الحجر: 9
  • [5]. دعاء الندبة
  • [6]. الذاريات: 56
  • [7]. صحيح الترمذي، جزء 2، صفحة 308
  • [8]. الصواعق المحرقة، ابن حجر الهيتمي، جزء 2، صفحة 442
  • [9]. الأنعام: 149
  • [10]. الأنعام: 89
  • [11]. محمد: 28
  • [12]. المائدة: 54
  • [13]. الإسراء: 711-72
  • [14]. النساء: 41-42
  • [15]. تاريخ الطبري، جزء 2، صفحة 149
  • [16]. آل عمران: 123-127
  • [17]. الأنفال: 17-18
  • [18]. البقرة: 47-50
  • [19]. الأنعام: 135
  • [20]. آل عمران: 139-142
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى