استجابة الله لدعاء موسى وهارون (ع)
<قَالَ قَدْ أُجِیبَتْ دَعْوَتُکُمَا فَاسْتَقِیمَا وَلا تَتبِعَانِ سَبِیلَ الذِینَ لا یَعْلَمُون>
لقد استجاب الله تبارك وتعالى لدعاء وليه وحبيبه الناصح الصادق الأمين موسى بن عمران الكليم وأخيه ووزيره وشريكه هارون (عليهما السلام) فقال: <قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا>[1]، أي: قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً عبديه وولييه الكريمين موسى الكليم وأخيه ووزيره وشريكه هارون (عليهما السلام) أن الله ربكما ووليكما وناصركما تبارك وتعالى قد استجاب دعوتكما المباركة على فرعون الطاغية وملئه المستكبرين الظالمين المجرمين المارقين عن الحق من الأشراف والأعيان وكبار القادة والموظفين المدنيين والأمنيين والعسكرين وغيرهم، الذين يقوم على أكتافهم وبجهودهم النظام الفرعوني الفاسد، وتعتمد عليهم الحكومة الفرعونية الجائرة المتجبرة في إدارة البلاد وتدبير الشؤون وممارسة الظلم والجور والأذى والتمييز والاستضعاف والإذلال لبني إسرائيل والإفساد في الأرض بغير الحق وفتنة الناس وصرفهم عن الدين الإلهي الحنيف وتحقيق إرادة فرعون ومقاصده الطاغوتية الجائرة؛ وذلك بإنزال المصائب والنكبات والشدائد المتوالية عليهم، وبالهلاك والعذاب الأليم، والطمس على الأموال بتسليط الآفات عليها، والربط على قلوبهم بالقسوة، فلا تقبل الحق ولا تنشرح للإيمان ولا توفق للتوبة والطاعة لله سبحانه وتعالى.
وهذا الدعاء من موسى الكليم وأخيه ووزيره هارون (عليهما السلام) والاستجابة الإلهية للدعاء؛ سببهما ما كان عليه فرعون الطاغية وحزبه المجرمين إخوان الشياطين من خبث الأنفس وسوء الطباع والانحراف عن الفطرة وقبح الصفات والخصال والأعمال الإجرامية السيئة الشنيعة، وما تميزوا به من العناد والاستكبار على الحق وأهله، والمكوث على الغي والكفر والضلال والإفساد في الأرض والظلم للعباد، بحيث لا تنفع معهم موعظة بالغة ولا نصيحة صادقة ولا إرشاد سديد ولا حوار علمي منطقي يستند إلى الحجة والدليل والبرهان.
والغاية من وراء ذلك أن يشعروا بحقارتهم وضعفهم وعجزهم أمام عظمة الله (عز وجل) وجبروته وإرادته ومشيئته وسلطانه، وتلين قلوبهم وتنكسر شوكتهم ويسأموا مقاومة دعوة موسى الكليم (عليه السلام) ورسالته، ويتركوا الغرور والتجبر وتنحط غلواؤهم، قول الله تعالى: <ووَلَقَد أَخَذنا آلَ فِرعَونَ بِالسِنينَ وَنَقصٍ مِنَ الثمَراتِ لَعَلهُم يَذكَّرون>[2] فلا يعني الدعاء والاستجابة الإلهية له القسوة وقلة الرحمة أبداً، وإنما يكشفان عن حجم الجريمة التي يرتكبها أولئك المجرمون فرعون الطاغية وملؤه المستكبرون، ومدى خطرهم على حاضر المجتمع والبشرية ومستقبلهما، وأن الدعاء والاستجابة الإلهية هما من مقتضيات الحكمة الإلهية البالغة في خلق الإنسان وفلسفة وجوده القائمين على ما يتميز به الإنسان بين جميع الكائنات في الوجود من العقل والقدرة على التفكير وحرية الاختيار وتقرير المصير، والرحمة والإلهية الواسعة بالخلق، ويجريان على قاعدة: «الجزاء من جنس العمل وموافق له»، قول الله تعالى: <إِن جَهَنمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ٢١ لِلطاغِينَ مَآبًا ٢٢ لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ٢٣ لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ٢٤ إِلا حَمِيمًا وَغَساقًا ٢٥ جَزَاءً وِفَاقًا>[3]، أي: جزاءً موافقاً لأعمالهم في السوء، ولو أن الله (جل جلاله) لم يفعل ذلك بفرعون وملئه المجرمين، لكان في ذلك إغراءٌ لهم على الجريمة، وهو مخالف للحكمة، والتهاون بشأن فتنة المؤمنين وهو مخالف للحكمة ومقتضى الرحمة بالمؤمنين، أو عُدّ دليلاً على عجز الله سبحانه وتعالى عن ردعهم، أو إرادة جبرهم على الإيمان والطاعة بدون اختيارهم؛ لأنهم إنما فعلوا جرائمهم باختيارهم، فيكون منعهم بسلب الاختيار منهم، وهو أمر مخالف لمقتضى الحكمة الإلهية البالغة في خلق الإنسان وتكليفه وفلسفة وجوده وتميزه بين جميع الكائنات بالعقل وحرية الاختيار وصناعة ماهيته بنفسه فيكون إنساناً متسامياً يستحق الثواب والأجر العظيم، أو حيواناً منحطاً، أو شيطاناً متمرداً يستحق العذاب الأليم.
وعلى هذا الأساس يتحمل مسؤولية التكليف الإلهي الذي عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها وحملها الإنسان بما هو عاقل مختار يتكون من روح وجسد، الروح تجذبه إلى عالم الملكوت الأعلى وإلى النور والطهارة، والجسد يجذبه إلى عالم الأرض والمادة عالم الظلمة والشهوة، وكان ظلوماً جهولاً مخالفاً لمنطق العقل وخارج عن ربقة الإنسانية حين يميل إلى الكفر والنفاق والجحود والمعصية.
وفي الحديث النبوي الشريف: إن موسى الكليم (عليه السلام) كان يدعو، وأخيه ووزيره وشريكه هارون (عليه السلام) كان يؤمّن على دعائه، والذي يؤمن على الدعاء يكون شريكاً للداعي في ذلك الدعاء؛ لأن قول آمين معناه: استجب، فالذي يؤمّن على الدعاء سائل كما أن الداعي سائل أيضاً، ولهذا قال الله تعالى: <قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا>[4].
وقيل: لا يبعد أن يكون كل واحد منهما قد دعا بنفس الدعاء، غاية ما في الأمر أن الله تبارك وتعالى قد حكى الدعاء عن موسى الكليم (عليه السلام)، وفي جميع الأحوال موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) شريكان في النبوة والرسالة والقيادة وأمرها واحد.
وروي عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) أن فرعون مكث بعد هذا الدعاء أربعين سنة حتى أخذه الله (عز وجل) أخذ عزيز مقتدر وأهلكه مع جميع جنده وأعضاء حزبه المجرمين، الذين يناصرونه على أمره، وكانوا معه بالغرق في اليم[5]. ولا غرابة في ذلك فقد لبث نوح (عليه السلام) في قومه يدعوهم ألف سنة إلا قليلاً، قبل أن يهلكهم الله (عز وجل) بالطوفان الأعظم، فلا ينبغي الاستعجال. ولهذا المكث وظائف عديدة، منها:
أ. الزيادة في إقامة الحجة الإلهية على فرعون وحزبه المجرمين حتى تبلغ الغاية القصوى بحيث تنقطع حجتهم تماماً ولا يكون لهم عذر أبداً عند الله سبحانه وتعالى، قوله تعالى: <رسُلًا مبَشِرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللـهِ حُجةٌ بَعْدَ الرسُلِ وَكَانَ اللـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا>[6]، وقوله تعالى: <قُل فَلِلـهِ الحُجةُ البالِغَةُ فَلَو شاءَ لَهَداكُم أَجمَعينَ>[7]، أي: لله سبحانه وتعالى الحجة البالغة التي تنقطع عندها معاذيركم وتبطل شبهاتكم، وقد ترككم مختارين فيكون منكم المؤمنون المطيعون ويكون منكم الكافرون العاصون، ولو شاء الله لهداكم أجمعين بقدرته كرهاً، ولأجبركم على الإيمان والطاعة وترك الشرك والمعصية، ولكنه لم يفعل ذلك وترككم مختارين؛ لأن إجباركم على الإيمان والطاعة مخالف لمقتضى الحكمة الإلهية البالغة والغاية من خلق الإنسان وفلسفة وجوده وتميزه بين جميع الكائنات بالعقل والاختيار، وعلى هذا الأساس تقوم مسؤولية التكليف الإلهي للإنسان.
ب. ظهور آثار استجابة الدعاء وتجليها بوضوح تام في أحوال فرعون وحزبه المجرمين في الزمن الواقع بين الدعاء وبين موعد الهلاك، فتقام الحجة عليهم، وتتم النعمة على المؤمنين، ويتأهلوا أكثر لحمل مسؤولية الرسالة الإلهية وبلوغ غاياتها وتحقيق أهدافها، وهذا يتطلب منهم بدون شك الوعي واليقظة والمحاسبة والعمل الدؤوب والحراك في معارج الكمال المعرفي والتربوي والحضاري.
وقد أمر الله (جل جلاله) موسى الكليم وأخاه ووزيره وشريكه هارون (عليهما السلام) بالثبات على ما هما عليه من الإيمان والهداية والطاعة لله سبحانه وتعالى، والزيادة في إلزام الحجة على فرعون الطاغية وحزبه المجرمين، والاستمرار في المقاومة والجهاد في سبيل الله (عز وجل) والدعوة إلى الله ذي الجلال والإكرام والدين الإلهي الحنيف، والوعظ والنصح والإرشاد والتوجيه والبيان وإحياء كلمة الحق وإعلائها، والعمل على تربية المؤمنين المجاهدين الصابرين وتأهيلهم من جميع النواحي الفكرية والروحية والعملية كمؤمنين ودعاة إلى الله ذي الجلال والإكرام وإلى دينه الحق، وقادة لمسيرة التكامل البشري المباركة، وأوصاهم بترك الاستعجال في الوصول إلى النتائج قبل حينها وأوانها، فإن ما طلباه كائن لا محالة، ولكن في وقته وحينه وأوانه الذي يختاره الله تبارك وتعالى ويقدره بمقتضى حكمته ورحمته وتكون فيه المصلحة العامة للناس.
وأمرهم كذلك بلزوم الاستقامة على الدين الحق والرسالة الربانية التي حملهما إياها والتمسك بهما غاية التمسك والحرص عليهما تمام الحرص، وعدم الخروج عن أحكام الدين الحنيف وعدم الضجر منه تحت أي ظرف أو ضغط أو نحو ذلك.
ونهاهما مطلقاً عن الخضوع لإرادة المستكبرين والظالمين والجاهلين المضلين من بني إسرائيل، الذين لا علم لهم بالدين الحنيف ولا بعظمة الله (جل جلاله) وحكمته البالغة في التشريع والتدبير وبالحقائق والسنن الإلهية وبتعليق الأمور والاستجابة للدعاء على المصالح بمقتضى الحكمة البالغة والرحمة الواسعة.
والذين يسلكون طريق الاستعجال في الأمور وعدم الاطمئنان والوثوق بوعد الله (عز وجل)، ويتجرؤون على محارم قدس الله سبحانه وتعالى ومقام العزة والعظمة والكبرياء والجبروت الإلهي المطلق، ويتوهمون أنه متى كان الوعد وكان الدعاء مجاباً كانت الإجابة حاصلة في الحال، والحال أن الله (عز وجل) قد وعد بالنصر ونحوه ويجيب الدعاء، ولكن التحقيق قد يتأخر إلى الوقت المناسب الذي يقدره وتكون فيه المصلحة بمقتضى حكمته البالغة ورحمته الواسعة بالعباد، والاستعجال يدل على الحماقة والجهل بالحقائق والسنن الإلهية في الخلق والتدبير. ولا تكون لهؤلاء السفهاء الجهال الحمقى عزيمة على السمو الفكري والروحي والاستقامة في السلوك والمواقف والعلاقات من أجل الوصول إلى الكمال الإنساني المقدر لهم واللائق بهم.
وقد حذر الله (جل جلاله) موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) من الاستجابة لما يقترحونه من مطالب جاهلية تنبع من أهواء النفس الشيطانية والغرائز الحيوانية وقصور المعرفة بالمعارف الحقة والشريعة المقدسة وتخالف العقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم، وتقوم على الاستعجال وعدم الاطمئنان والوثوق بوعد الله الصادق، لما في ذلك من الضلال وما ينجم عنه من الفساد في الأرض بغير الحق، قوله تعالى: <وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ>[8].
وقيل: يعتبر الأمر الإلهي لهما بالاستقامة بمثابة الأمر بالشكر على النعمة؛ لأن إجابة الله تبارك وتعالى دعوة عبده يعد إحساناً من الله تبارك وتعالى للعبد وإكراماً له، وتلك نعمة ربانية عظيمة تستحق من العبد الشكر لله تبارك وتعالى عليها، وأعظم الشكر في المقام طاعة المنعم والاستقامة على أمره ونهيه.
وقد أعقب الله (جل جلاله) الأمر بالاستقامة بالنهي عن اتباع طريق الجاهلين، رغم أنه مشمول وداخل في الاستقامة؛ لأهميته ومن أجل توخي الحذر منهم؛ لأنهم موجودون في كل المجتمعات في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا؛ ولأن طاعتهم مخالفة للعقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم والمصلحة العامة للمجتمع والإنسانية؛ لما يترتب على طاعتهم من الفساد ومن العدول عن طريق الحق والدين الحنيف، لهذا لزم التحذير منهم بشكل خاص؛ لأهمية الموضوع «التحذير» لتحصيل الاستقامة على الدين الحق والمنطق السليم، وتحقيق الخير والصلاح والمصلحة العامة، والوصول إلى الكمال والسعادة الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة.
وقيل: الاستقامة حقيقتها الاعتدال وهي ضد الاعوجاج ومستعملة كثيراً في معنى ملازمة الحق والرشاد، فالأمر بها جامع لجميع خصال الخير والصلاح والفلاح والفضيلة.
وقيل: إن في التوجيه الإلهي الظاهر في الآية الشريفة المباركة تلويح وتلميح إلى أن بني إسرائيل سيطلبون بجهالتهم من موسى وأخيه ووزيره وشريكه هارون (عليهما السلام) أموراً غير مرضية عند الله سبحانه وتعالى وفي دينه الحنيف وشريعته المقدسة، ومخالفة للعقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم، كما هي العادة لدى الجاهلين وغير الواعين من أتباع الأنبياء الكرام (عليهم السلام) أو المتظاهرين بالاتباع وهم ليسوا متبعين في الحقيقة والواقع، وإنما هم منافقون مارقون من الدين وخارجون عن الفطرة ومخالفون للعقل، ويظهرون ويعلنون بألسنتهم خلاف ما يبطنون ويسرون في أنفسهم من الكفر والشرك والضلال والمعصية.
كما أمر الله (جل جلاله) عبديه وولييه موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) برباطة الجأش والصبر والثبات والتحمل والصمود وعدم الخوف والجزع من سيل المشاكل والصعوبات والعوائق والعقبات التي ستقف في وجهيهما وتعترض طريق دعوتهما إلى الله ذي الجلال والإكرام وتربية المؤمنين وإرشادهم وتوجيههم وتأهيلهم، وأن يكونا جازمين وحاسمين في أمور الدعوة والتربية والبناء والجهاد والمقاومة، وعدم التنازل إلى فرعون وملئه المترفين الجاهلين والانتهازيين من بني إسرائيل والخضوع إلى إرادتهم الجاهلية الاستكبارية الجائرة عن الحق والعدل والخير والفضيلة والصلاح، وعليهما بالاستمرار في تنفيذ برامج الدعوة والتربية والبناء والجهاد والمقاومة، والمقاومة للإرادة الفرعونية الطاغوتية والإرادة الجاهلية الجهلاء وللنظام الفرعوني الفاسد والدولة الجائرة والحكومة الاستبدادية الظالمة، ولبرامجهم في الإضلال والفتنة والاستضعاف والإذلال والإفساد في الأرض بغير الحق، والتحلي بالعزة والنخوة والإباء والحرية والكرامة، فإن ذلك من لوازم صدق الإيمان وكماله وإخلاص النية لله رب العالمين، والمؤمن بما هو مؤمن مطيع لله ذي الجلال والإكرام ويتخلق بأخلاقه في سير تكامله، وأن عزة المؤمن وكرامته وشرفه من عزة الله (جل جلاله) وكرامته وشرف منزلته؛ لأن صفاته وأفعاله من تجليات صفات الله ذي الجلال والإكرام وأفعاله، والمؤمن بمقدار ما يحافظ على عزته وكرامته وشرفه، بمقدار ما يكشف عن كماله ومدى قربه من الله ذي الجلال والإكرام وفنائه فيه والمقام في ساحة قدسه، ويجسد حقيقة الإيمان وكماله، وبمقدار ما يتخلى ويتنازل عن العزة والكرامة والشرف والنخوة والإباء، بمقدار ما يكشف عن نقص إنسانيته وضعف إيمانه ونقصه وبعده عن ساحة القدس الإلهي وحقائق الإيمان، وهي صفات يجب أن يتحلى بها الإنسان بما هو إنسان عاقل، وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إن الله فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً. أما تسمع الله تعالى يقول: <وَلِلـهِ الْعِزةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين>[9] فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، إن المؤمن أعز من الجبل؛ لأن الجبل يستقل منه بالمعاول والمؤمن لا يستقل من دينه شيء»[10]، وعليهما التوكل على الله (عز وجل) والاستعانة به والثقة بوعده، وذلك كله من لوازم صدق الإيمان وحقيقته وكماله.
ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن الأمر الإلهي المشترك لموسى الكليم وأخيه ووزيره وشريكه هارون (عليهما السلام) بالإجراءات العملية في تدبير شؤون بني إسرائيل وإدارة أوضاعهم السياسة والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية ونحوها، وبالاستقامة على الدين الحق وعدم اتباع سبيل الجاهلين والخضوع لإرادتهم، ونحوه، يدل على ضرورة احترام مقامات القيادات في الجماعة أو الدولة وعدم انتقاصها بأي حال من الأحوال وفي أي ظرف من الظروف؛ لأن ذلك يعكس روح الجماعة والأمة ومكانتها، ويصون وحدتها وقوتها وعزتها وكرامتها، وأن وجود من هو أعلى في سلم القيادة لا يعني انتقاص الآخرين الذين هم أقل درجة منه والتقليل من شأنهم ومكانتهم ومقاماتهم.
كما يدل الأمر على ضرورة تحلي جميع أعضاء القيادة بالوعي والشجاعة والثبات وقوة الإرادة، والاستيعاب الكامل والواضح للرؤية الفكرية والاستراتيجية والتكتيك والخطط وبرامج العمل، وأن يتناسب مدى الوعي والتحلي بالصفات والتمكن من المهام والكفاءة مع الموقع القيادي الذي يحتله العضو والمسؤوليات المنوطة به، وأن لا يتبوء فرد موقعاً وتناط به مسؤولية أكبر من وعيه ومؤهلاته الفكرية والروحية والعملية «المهنية»، ومن يفقد شيئاً من هذه الصفات الرئيسية يفقد الأهلية والصلاحية للقيادة الواعية الرشيدة الناجحة، ولا يليق به أن يتولى القيادة والمسؤولية في الجماعة والأمة المسلمة، وأن الإخلال بهذه الشروط طريق إلى الفشل والخروج عن طريق الحق والاستقامة والنجاح وعدم الوصول إلى الأهداف والغايات وتحقيق القاصد.
كما ينبغي الإشارة كذلك إلى أن الأمر الإلهي لموسى الكليم وأخيه ووزيره وشريكه هارون (عليهما السلام) بالاستقامة ونهيهما عن المعصية وعن اتباع سبيل الجاهلين بما هما كاملين ومعصومين عن الخطأ، إنما يجوز ويصح من الله سبحانه وتعالى على قاعدة: «أن الأعلى من شأنه أن يأمر وينهى ويعظ وينصح من هو دونه كائنة ما تكون منزلته ومكانته ووظيفته»، وليس من شأن الأدنى بحكم العقل والمنطق والمقام أن يأمر وينهى من هو أعلى منه، وفي ذلك مخالفة للذوق الإنساني والأدب الرفيع والفضيلة والأخلاق الحميدة، ولمقتضيات المقامات والضبط والتنظيم في الحياة والتدبير وحسن الإدارة. ولأن الله سبحانه وتعالى كامل كمالاً مطلقاً وهو رب العالمين ومربيهم ومدبر جميع أمورهم والقائم على شؤونهم، ولا يستقلون في شيء من شؤونهم عنه بحكم الضرورة الوجودية التي لا تقبل التخلف والتعطيل والتبديل، فقد جاز له وصح منه الأمر والنهي والوعظ والنصح للأنبياء والمعصومين (عليهم السلام) رغم عصمتهم وكمالهم الإنساني؛ لأن ذلك إنما كان بفضله ونعمة منه عليهم، ولا يجوز لغيره ولا يصح منه أن يفعل ذلك مع الأنبياء الكرام والأوصياء المطهرين (عليهم السلام)؛ لأنهم كُمّلٌ ومعصومون، نعم يجوز ويصح من المعصوم الأكمل أن يأمر وينهى ويعظ وينصح المعصوم الذي هو دونه في الكمال أو تحت إمامته، كما هو الحال بالنسبة لموسى الكليم مع أخيه ووزيره هارون (عليهما السلام)، و كما هو الحال بالنسبة إلى إبراهيم الخليل مع لوط (عليهما السلام) ونحو ذلك.