تعصب فرعون وملئه واستكبارهم على الإيمان
<قالوا أَجِئتَنا لِتَلفِتَنا عَما وَجَدنا عَلَيهِ آباءَنا وَتَكونَ لَكُمَا الكِبرِياءُ فِي الأَرضِ وَما نَحنُ لَكُما بِمُؤمِنينَ>
لم يقبل فرعون وملؤه بدعوة موسى الكليم (عليه السلام)، ووصفوا الآيات والبينات والمعجزات الباهرات التي جاء بها من عند رب العالمين بالسحر المبين، وخطَّأوه فيما جاءهم به ودعاهم إليه، وأعربوا عن سوء ظنهم في نيته، والغاية التي تقف وراء دعوته وتحركاته، وزعموا بأن لموسى الكليم (عليه السلام) غايتان رئيسيتان وراء دعوته وتحركاته، وهما:
أ. العبث بالمقدسات والعمل على تغيير الهوية الدينية والثقافية للأقباط الذين هم قوم فرعون، أي: تغيير العقيدة الدينية والسياسية والاجتماعية الراسخة التي نشأوا وتربوا عليها وعقلوها، والعادات والتقاليد والأعراف الدينية والسياسية والاجتماعية الراسخة التي ورثوها من الآباء والأجداد، وسنتهم وطريقتهم الملازمين لها في الحياة، والأحوال التي كانوا متلبسين بها، واستبدالها بطريقة وسنة وأحوال جديدة زائفة ومزورة وطارئة على المجتمع والدولة قد ابتكرها موسى وهارون (عليهما السلام)، ووضعاها من عند أنفسهما، ولم يأتيا بها من عند رب العالمين كما زعما، فرب العالمين لا وجود له أو لا علاقة له بالتدخل في شؤونهم، وأن هدف موسى وهارون (عليهما السلام) هو إرباك وضعهم وقلب النظام والسيطرة على الحكم والثروة والمقدرات بالحيلة تحت ستار الدين؛ ولأن ما يريد موسى وهارون (عليهما السلام) تغييره هي العقيدة والثقافة وسنة الآباء والأجداد وطريقتهم في الحياة والأحوال التي كانوا متلبسين بها وملازمين لها، فهم يرفضون ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار، لما بينهم وبينها من تعلق تبعاً لتعلقهم ومحبتهم لآبائهم وأجدادهم، فإن محبة الشيء والتعلق به تقتضي وتنعكس على محبة أحواله وملابساته والتعلق بها، وهذا يعني أنها عندهم حق وصواب ومقدسة وذات قيمة معنوية وتاريخية عالية جداً، لا يمكن التفريط فيها بأي حال من الأحوال، ويعدون تغييرها والتفريط فيها مدعاة إلى الفساد والتحلل، وعليه: فلن يتركوا الدين الذي هم عليه، ولن يتخلوا عن تراثهم وثقافتهم الموروثة التي يريد موسى وهارون (عليهما السلام) تغييرها بدين وثقافة جديدين، قولهم مستنكرين: <قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا>[1]، أي: أجئتنا بدين جديد؛ لتصرفنا وتصدنا عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من عقيدة دينية راسخة وعبادات وطقوس وعادات وتقاليد وأعراف ثابتة، ونترك سنتهم وطريقتهم التي كانوا ملازمين لها في الحياة، ونعبد إلهاً واحداً لا شريك له، وهو الإله الذي تسميه برب العالمين؟!
فجعلوا بذلك عقيدة الآباء والأجداد وطريقتهم وسنتهم في الحياة حجة قائمة بنفسها، يردون بها الحق المبين الذي جاءهم به موسى الكليم (عليه السلام) من عند رب العالمين، وأقام الدليل القطعي الذي لا يقبل الشك والريب والتردد على صدقه وصحته.
وهذه معزوفة من أسطوانة مشروخة يرددها المحافظون الجامدون، الذين يريدون أن يحافظوا على ما هو قائم وموجود، ويرفضون تغييره، ويقاومون كل دعوات الإصلاح وعمليات التغيير، رغم كل ما يشمل عليه الواقع من ظلم وفساد وتخلف، ومخالفة للحكمة والعقل والمنطق، فحجتهم ليست بحجة مقبولة، ولا تصلح لرد الحقائق التي تستند إلى الحجج والأدلة العقلية والبراهين المنطقية، التي يجب أن ترد بمثلها، وليس بالتعصب للتراث والعادات والتقاليد ونحو ذلك، إذ التراث ليس حجة ولا قيمة له ولا قدسية في نفسه في منطق العقل وقواعد الحكمة عند العقلاء والحكماء العارفين بأدوات التمييز والترجيح بين حقائق الأمور، وقيمة الحق بما يشمل عليه من الحق ويدعمه الدليل، وما فيه من النفع والفائدة إلى الناس، وكل ما فيه مما هو مخالف للحق وضد مصالح الناس يجب أن يُترك إلى ما هو حق، وما هو نافع.
فحجة التراث حجة واهية، وأن دفاع الفراعنة والحكام المستبدين والمترفين والانتهازيين والنفعيين عن التراث ليس حباً منهم للتراث، فهم في الحقيقة والواقع لا يؤمنون بالتراث، ولا يقيمون له وزناً، وما دفاعهم عنه إلا لأنه يضمن مصالحهم الخاصة، فالمسألة الحقيقیة هي مسألة الخوف على المصالح، أما الخوف على التراث فهي مجرد شماعة يحملون عليها بضاعتهم، ويتوسلون بها إلى مقاصدهم، ويسوقونها على الجهلة والساذجين.
ب. قلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة والثروة والمقدرات، والاستئثار بها دون الأقباط، وطردهم من المناصب الرئيسية والوظائف العليا في الدولة، وإخراجهم من أرضهم وديارهم وأملاكهم، والاستيلاء عليها والاستئثار بها، وذلك تحت ستار الدين والدعوة الإلهية، قولهم:<وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْض>[2]، أي: تبطلون النظام الفرعوني السياسي وتراثه الديني والثقافي العريق وتستبدلونه بنظام إسرائيلي إسلامي، وتستولون على السلطة والثروة والمقدرات تحت ستار الدين وبدعم بني إسرائيل؛ ليكون لكم الملك والرئاسة والحكومة والثروة وانبساط القدرة، ثم تطردون الفراعنة من المناصب الرئيسية والوظائف العليا في الدولة، وتخرجون الأقباط من أرضهم وديارهم ووطنهم وتستولون على أملاكهم.
وبحسب لغة اليوم، اتهام موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) بالخيانة العظمى، وقيادة الانقلاب على النظام، والإضرار بمصالح الشعب، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم طهارة موسى وهارون (عليهما السلام) وعفتهما، وأنهما لا يريدان علواً أو إفساداً في الأرض، وإنما يريدان الإصلاح والمحافظة على مصالح وحقوق الشعب بحق وحقيقة، ويضحيان بالنفس والنفيس من أجل ذلك، وبأن نبوتهما ورسالتهما حق وصدق، وهما لم يدعوا إلى عنف أو تخريب أو شيء من هذا القبيل، وإنما لجئا إلى الحوار والعقل والحجة والمنطق.
ولكنهم يعلمون أيضاً بأنهم إن أجابوا موسى الكليم (عليه السلام) وصدقوا دعوته فإن تقاليد الأمور وتدبير الأوضاع في المجتمع والدولة تصير في يده عملياً، ويديرها بحسب التشريعات السماوية وبمقتضى الحقائق والقيم السماوية المنزلة، ويقيم العدل والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، ويقضي على المحسوبية والفساد، على قاعدة: أن التدبير للناس بالدين يرفع تدبير الملوك لهم بالسياسة والعادات والتقاليد والأعراف الوضعية؛ ولأن القوم إذا اعترفوا بصدق نبي فإن مقاليد أمرهم تصير إليه عملياً.
وعليه: لا يبقى من تراثهم الديني والثقافي الموروث الذي يقوم على الشرك والوثنية شيء يذكر، فتضيع أمجادهم التي بنوها لقرون من الزمن بغير حق، وينتهي نظام دولتهم وحكومتهم إلى الأبد، ويفقدوا مصالحهم وصلاحياتهم وامتيازاتهم الخاصة التي كانوا يحصلون عليها من النظام الفاسد القائم، ويحرر بنو إسرائيل، ويخرجون عن سلطتهم وولايتهم ويستقلون بأمرهم، فتنقص سيادتهم، ويخسرون ما رأبوا عليه من تسخيرهم واستخدامهم في الأعمال الشاقة والوضيعة، مما يؤثر على اقتصادهم وتعطيل بعض آمالهم ومصالحهم ونحو ذلك.
وبهذا يفصح فرعون الطاغية وجلاوزته الأنانيون المجرمون في الحقيقة عن دوافعهم الحقيقية وراء تكذيبهم بنبوة موسى الكليم (عليه السلام) ورسالته، وهو خوفهم على ملكهم ومصالحهم الخاصة، وليس خوفهم على النظام والدولة في نفسها، أو خوفاً على الشعب ومصالحه، أو لعدم قناعتهم العلمية والفكرية بصدق نبوة موسى الكليم (عليه السلام) ورسالته، أو لوجود شبهة أو أي شيء من هذا القبيل، فهم لا يؤمنون بشيء من ذلك، ولا يقيمون له وزناً أو اعتباراً، فموقفهم الرفضي لدعوة موسى الكليم (عليه السلام) وإصرارهم على تكذيبه ومحاربته هو من أجل مصالحهم الخاصة، على حساب الحقائق والمنطق والمصالح العامة لأبناء الشعب وسعادتهم.
وقيل: أن المراد من الكبرياء في قولهم: <وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ>[3]، هو الملك والرئاسة والحكومة؛ لأنها أكبر ما يُطلب من أمر الدنيا الفانية؛ ولأن الملوك موصوفون بالكبر والتجبر.
وقيل: لأن القوم إذا اعترفوا بصدق نبوة موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) فإن مقاليد الأمور تصير إليهما عملياً، ويصبحان أكبراهم.
وقيل: أراد فرعون وملؤه ذم موسى الكليم وهارون (عليهما السلام)، بمعنى: أنهما إن ملكا أرض مصر وصار لهما الملك والرئاسة والحكومة في البلاد، فإنهما سوف يتكبران ويتجبران.
ومقولة فرعون وملئه لموسى الكليم وهارون (عليهما السلام) بشقيها، تغيير الهوية الدينية والثقافية، والاستيلاء على السلطة والقدرة والمقدرات، قولهم: <لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ>[4]، تكشف عن زعمهم بأنهم يمتلكون البصيرة السياسية النافذة والخبرة الواسعة والعلم ببواطن الأمور وخباياها، بحيث أنهم تنبهوا وفطنوا في وقت مبكر ومنذ البداية إلى غايات وأهداف موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) الخطيرة، وأنهما يعملان من أجل مصلحتهما الشخصية ومصلحة قومهما بني إسرائيل، ويريدان شراً بآل فرعون والأقباط، ولا يريدان بهم خيراً كما يزعمان ويتظاهران به.
فلم ينخدعوا بدعواهما النبوة والرسالة من رب العالمين، التي ثبت لهم بأنها كذب محض ومصيدة للأقباط، ووسيلة إلى قلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة والثروة والمقدرات، ولم يتأثروا بما جاءا به من الأعمال الخارقة للعادة التي ثبت لهم بأنها مجرد سحر وليس أكثر من ذلك ولا فوقه، ولم يخشوهما ولم يخضعوا لابتزازهما وقاوموهما بكل بسالة وشجاعة وثبات.
والحقيقة أن فرعون وملأه المجرمين قد قاسوا موسى وهارون (عليهما السلام) بأنفسهم ورأوهما بعين طبعهم، فلما كانوا يسعون دائماً وفق رؤيتهم وقيمهم المادية وتعلقهم بعالم الدنيا والمصالح إلى الحكم والثروة والجاه والصلاحيات والامتيازات، فإنهم يظنون أن الآخرين مثلهم، ويشبهونهم، ويسعون لمثل ما يسعون إليه، ويعملون من أجله.
ولهذا جعلوا أهداف موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) ودوافعهما، مثل أهدافهم ودوافعهم، وهنا يجب أن نميز بين الصالحين والمصلحين الحقيقيين، الذين يطلبون الإصلاح بحق وحقيقة ويضحون من أجله بالنفس والنفيس، وبين الذين يطلبون السلطة والثروة ويبحثون عن الامتيازات سواء كانوا في السلطة أو المعارضة، الذين يتخذون الإصلاح شعاراً للوصول إلى السلطة، فإذا وصلوا إليها أفسدوا كما أفسد الذين من قبلهم، ولا فرق في ذلك بين علماني وإسلامي وغيرهما.
وقد رأيت من الإسلاميين من يضر بالمؤمنين من أجل الزعامة والوصول إلى السلطة أكثر مما أضر بهم العلمانيون في السلطة والمعارضة، وهذا مما ينبغي أن يتنبه إليه عامة المؤمنين، فلا ينخدعوا بالشعارات، وعليهم أن يُقيّموا حقائق السلوك والمواقف، ويُميزوا بين الذين يطلبون الإصلاح بحق وحقيقة، والذين يطلبون السلطة ويتخذون الإصلاح شعاراً ووسيلة لخداع الجماهير والوصول إلى السلطة، قول الله تعالى: <عَسى رَبكُم أَن يُهلِكَ عَدُوكُم وَيَستَخلِفَكُم فِي الأَرضِ فَيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلونَ>[5]، أي: يهلك عدوكم فرعون وحزبه المجرمين، ويحرركم من التبعية والاستعباد، ويمن عليكم بالاستقلال، ويستخلفكم في الأرض بعد الاستضعاف والإذلال، بأن يجعل لكم الملك والحكم والرئاسة، ويمتحنكم بذلك فينظر كيف تعملون، هل تصلحون وتعدلون بين الناس كما أمركم الله سبحانه وتعالى أم تفسدون وتظلمون وتعملون ما لا يرضى الله سبحانه وتعالى وعلى خلاف ما أمركم كما فعل الذين من قبلكم تماماً؟! ثم يجزيكم بما تستحقون بأعمالكم بعد الاستخلاف، إن أصلحتم أثابكم، وإن أفسدتم عاقبكم، وهذا يعني أن المؤمنين والمستضعفين قد يتحولون إلى مستكبرين ومفسدين في الأرض بعد الوصول إلى الحكم والاستيلاء على السلطة، أو مجرد التمكن من القوة، وأن الله سبحانه وتعالى لا ينخدع بالأسماء والادعاءات، وإنما يجازي على حقائق الأعمال، وفي الآية الشريفة المباركة حث للمؤمنين على الإخلاص والاستقامة والتمسك بطاعة الله سبحانه وتعالى؛ لتحسن عاقبتهم في الدارين الدنيا والآخرة، والتحذير لهم من الوقوع في حبال الدنيا والرئاسة، وعمل مثل ما يعمل المنافقون والمفسدون، فتسوء عاقبتهم في الدارين الدنيا والآخرة!!
وبناءً على ما سبق: قرر فرعون وملؤه المجرمون أن يكون موقفهم مجتمعين متضامنين من دعوة موسى الكليم (عليه السلام) ورسالته هو التكذيب والرفض والمواجهة المصيرية بعنف وقوة وبكل وسيلة ممكنة مشروعة أو غير مشروعة؛ دفاعاً عن وجودهم في السلطة وعن مصالحهم وامتيازاتهم حتى يقضي أحد الطرفين على الآخر، قولهم: <وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ>[6]، أي: وما نحن بمصدقين لكما فيما تدعيانه من أمر النبوة والرسالة من رب العالمين، بل نحن مقاومون ومحاربون لكما حتى النفس الأخير دفاعاً عن منافعنا ومصالحنا وصلاحياتنا وامتيازاتنا التي تريدان أن تحرمانا منها، ولئلا تنالا أمنيتكما وتبلغا غايتكما وتصلا إلى مرادكما من وراء هذه الدعوة المزورة، وهو إسقاط النظام والاستيلاء على السلطة والثروة والمقدرات والاستئثار بها دوننا ودون الأقباط، فالصراع بيننا وبينكم صراع وجودي يحل بالقوة، وليس صراعاً سياسياً يحل بالحوار والتفاهم.
وهذا هو دأب الفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة مع المعارضين لهم والمطالبين بالإصلاح ما داموا يشعرون بالقوة، ولا يستجيبون لمطالبهم مهما كانت واقعية وعادلة ومنطقية وفي مصلحة كافة أبناء الشعب ومن صميم حقوقهم الطبيعية في الحياة إلا بمقدار ما هم مضطرين إليه، فإن لم يكونوا مضطرين إلى شيء، فإنهم لا يستجيبون إلى شيء مهما كان قليلاً أو زهيداً؛ لأن سلطتهم تقوم على فرض حكم الأمر الواقع على الشعب، ولا تستند إلى إرادته ولا علاقة لها بمصالحه، وهذه حقيقة يجب أن يفقهها الجميع، ويُميزوا بين الشعارات الاستهلاكية وبين الحقائق الفعلية على الأرض، ولا ينخدعوا ولا يضلوا.
وعليه: فإن موقف فرعون الطاغية وملئه المجرمين يقوم على التكبر والعناد وإرادة العلو في الأرض بغير الحق، ولا علاقة له بالحقائق والمنطق والحقوق، فلم يكونوا على علم ببطلان ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) ولا مشتبهين، ولا حريصين على مصالح أبناء الشعب، بل كانوا على علم ويقين بصحته وصدقه، وأنه في مصلحة الشعب ومن أجل صلاحه وسعادته في الدارين الدنيا والآخرة، ولكنهم رفضوه وحاربوه من أجل مصالحهم الخاصة لا غير.
وقيل: أن عبارة <وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ>[7]، تدل على روح الاستعلاء لدى فرعون الطاغية وملئه المجرمين وقومه الفاسقين المارقين، التي تقوم على التمييز الطبقي الموروث واعتبار أنفسهم طبقة عليا حاكمة، وبني إسرائيل طبقة دنيا محكومة، وأن هذا التمييز يجب أن يبقى ويستمر، بينما يريد موسى (عليه السلام) بحسب رأيهم أن يلغي هذا التمييز الطبقي، ويحرر بني إسرائيل ويجعل لهم من الحقوق وعليهم من الواجبات مثلما هو للأقباط، بل يريد أن يعكس المعادلة فيجعل بني إسرائيل حكاماً ولهم السيادة والكلمة العليا في البلاد، والأقباط محكومين وخاضعين لسيادة بني إسرائيل وحكومتهم، وهذا أمر مرفوض تماماً لدى آل فرعون والأقباط ومستنكر جداً لديهم، قولهم: <أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ>[8].
وقيل: أن عبارة <َمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ>[9]، تدل على عنادهم واستكبارهم على الحق بدون حجة أو برهان، بل استناداً إلى التعصب الأعمى والخوف على ضياع المصالح الخاصة وفقدان الصلاحيات الواسعة والامتيازات الضخمة، التي يحصلون عليها في ظل النظام الفرعوني الفاسد، وذلك لربطهم بين الإيمان بنبوة موسى الكليم (عليه السلام) ورسالته وبين سقوط النظام أو تغييره تغييراً جذرياً، يفقدون معه كل ما في أيديهم من المصالح والصلاحيات والامتيازات.
وقيل: واو العطف في قولهم: <وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِين>[10] في قوة النتيجة، بمعنى: لما تبين لنا مقصدكما، وأصبحنا على علم بنواياكما وخططكما الهدامة التي تهدفان من ورائها إلى تغيير الهوية الدينية والثقافية للأقباط، والاستيلاء على السلطة والثروة والمقدرات بالحيلة والخداع، أي: أنكما طالبا نفع لأنفسكما وقومكما وقاصدا شرٍ بالأقباط ولا تريدان بهم خيراً كما تدعيان، لهذا السبب فنحن غير مصدقين لكما فيما تدعيانه من أمر النبوة والرسالة من عند رب العالمين، فدعوتكما مزورة، قد ابتكرتموها ووضعتموها من عند أنفسكم لأغراض دنيوية سياسية واقتصادية، ولا حقيقة غيبية لها وراء ذلك.
وفي الحقيقة، فإن رد فرعون وملئه المجرمين رد سياسي خبيث يهدف إلى التمويه والتضليل على قومهم وتهييجهم وتحريضهم على معاداة موسى الكليم (عليه السلام) ومحاربة دعوته ورفضها وعدم الإيمان بنبوته ورسالته، فضلاً عن تأييده ومناصرته، وليس رداً علمياً أو سياسياً واقعياً، وهو لا يصلح في مقام الاحتجاج لإبطال دعوة موسى الكليم (عليه السلام) وردها؛ لأن الحجة لا تدفع إلا بحجة مثلها، والحق لا يتم إبطاله إلا بإثبات عكسه أو عدم واقعيته أو مناسبته، وهذا ما لم يفعله فرعون وملؤه المجرمون، بل لجأوا إلى التهييج والتحريض عن طريق الكذب والافتراء وقلب الحقائق بأسلوب غير منطقي وغير عقلاني، مما يدل على عجزهم وتخبطهم في مواجهة ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) من عند رب العالمين، وعدم أحقيتهم وعدم أهليتهم للحكم والرعاية لثبات خيانتهم للحقائق والأمانة والمسؤولية والرعاية لمصالح الشعب وحقوقه الطبيعية العامة والخاصة.
ويعتقد فرعون الطاغية وملؤه المجرمون بأنهم يمتلكون القوة الكافية الفكرية والعلمية والسياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والبشرية لتصفية موسى الكليم (عليه السلام) وأنصاره، والقضاء بشكل تام على دعوته، وقهر بنى إسرائيل وإخضاعهم، قول فرعون: <سَنُقَتِّلُ أَبناءَهُم وَنَستَحيي نِساءَهُم وَإِنا فَوقَهُم قاهِرونَ>[11]، وهذا الموقف الفرعوني الاستعلائي والاستكباري ينظر إلى الإمكانيات المادية والبشرية المنظورة لدى الطرفين، فرعون وقومه، وموسى مع قومه، ويغفل ويتجاهل ولا ينظر إلى القوة الغيبية الإلهية المطلقة التي لا يعجزها شيء وتقف وراء موسى الكليم (عليه السلام) وأنصاره المؤمنين، وقد وعدتهم بالنصر على عدوهم، وقد ثبت بالدليل القطعي الذي لا يقبل الشك والريب والتردد وجودها وحضورها الفاعل، وتأييدها لموسى الكليم (عليه السلام) وأنصاره من المؤمنين، وذلك عن طريق ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) من المعجزات النيرات الباهرات الخارقة للعادة، والتي هي فوق الطبيعة وفوق طاقة البشر، ولا يقدر على مثلها إلا قوة غيبية مطلقة، كما صرح بذلك السحرة المحترفون المهرة العالمون بدقائق أسرار السحر وخباياه وخفاياه وفنونه، ولا يمكن أن يخدعوا فيه بأي حال من الأحوال.
إلا أن الاستغراق في الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية، والإصابة بغرور السلطة والقوة والثروة، والاعتماد التام على القوة والخداع والتضليل وشراء الضمائر والنفوس الضعيفة لفرض حكم الأمر الواقع للناس، هو الذي أعمى بصائر فرعون وملئه، فلم يدركوا الحقائق الوجودية والسنن الإلهية الحاكمة في الكون والتاريخ، ولم ينفع معهم استدلال منطقي رصين ولا برهان علمي متين ولا حجة ولا معجزة ولا موعظة بالغة أو نصيحة صادقة من ولي ناصح أمين رؤوف رحيم بهم.
وبخصوص التمسك بالتراث الديني والثقافي: ليس هو عيب أو سلبي في نفسه، بل هو إيجابي وضروري في المجتمعات البشرية والتنشئة الاجتماعية، فقد تميزت به التجمعات البشرية عن تجمعات الكائنات الحية الأخرى، وهو سر ترقي الأفراد والجماعات والمجتمعات البشرية وتطورها وتكاملها المعرفي والتربوي والحضاري، إذ يرث كل جيل في المجتمعات البشرية نتاجات الأجيال السابقة الفكرية والعادات والتقاليد والأعراف والأنظمة والقوانين والعلوم والتكنولوجيا وغيرها في التاريخ الطويل، ويقوم بتصحيحها والإضافة عليها وتطويرها في عملية متواصلة تتراكم نتائجها عبر التاريخ الطويل، مما يعنى الارتقاء والتكامل في المسيرة البشرية بشكل مستمر ودائم، ما لم تتدخل عوامل سلبية لهدم البناء، مثل: الحروب المدمرة والجمود السلفي؛ إذ يتحول التمسك بالتراث الموروث إلى حالة سلبية هدامة معيقة للتقدم والارتقاء والتكامل، حيث يتحول التمسك بالتراث إلى جمود وتقليد أعمى، يمنع من المراجعة والإخضاع إلى النقد العلمي الموضوعي البناء بهدف التصحيح والاختيار الحسن والإضافة والتطوير، فيخالف التمسك بالتراث وظيفته الأساسية في المجتمعات البشرية، وينقض غايته وينقلب إلى ضده، ويكون خلاف الطبيعة والفطرة والحكمة والعقل والمنطق والصالح العام، وحالة غير حضارية وغير إنسانية؛ لما يسببه من التخلف والفساد والتحلل والانحطاط، ولأنه يفصل بين كمال الإنسان وصلاحه وخيره ومصلحته وسعادته الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة وبين الحقائق؛ لأن الوصل بين الطرفين، الحقائق، وصلاح الإنسان وسعادته. يتطلب معرفة الحقائق بالاعتماد على الدليل الصحيح والبرهان العلمي والمنطقي الرصين، والتمسك بها والعمل بمقتضاها في الحياتين العامة والخاصة، وهذا يتطلب مراجعة التراث باستمرار بشكل منهجي سليم، وإخضاعه إلى النقد العلمي الموضوعي البناء، وتصحيحه وتطويره بالإرشاد إلى الحقائق المكتشفة الجديدة والقديمة، وأخذ ما ثبت بالدليل صحته، وترك ما يثبت بالدليل خطأه، أما التعصب والتقليد الأعمى والجمود السلفي، فهي حالات سلبية هدامة وغير إنسانية وغير منطقية ومخالفة للطبع الإنساني والفطرة، وتعود على الإنسان بالخسران وعلى المسيرة البشرية بالسوء والفشل.
وأما زعم فرعون وملؤه بأن موسى الكليم (عليه السلام) يهدف من وراء ادعاء النبوة والرسالة من رب العالمين إلى الاستيلاء على السلطة والثروة والمقدرات، فهي المعزوفة القديمة الجديدة من الاسطوانة المشروخة والحجة الموروثة الواهية التي دأب على ترديدها الفراعنة الجبارين والحكام المستبدين الظلمة، الذين يعتمدون على القوة والخداع والتضليل وشراء الضمائر والنفوس الضعيفة؛ لفرض حكم الأمر الواقع على الشعوب المستضعفة في مواجهة المصلحين والمطالبين بالحقوق بالاستناد إلى المنطق والحوار والحقائق والإرادة الشعبية، بعيداً عن الحقائق والحقوق والمنطق السليم، وعلى خلاف إرادة أبناء الشعب ومصالحهم وحقهم في اختيار نظام حكمهم وحكومتهم وتقرير مصيرهم بأنفسهم، وتلاقت عليها قلوبهم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا في اتهام معارضيهم المطالبين بالإصلاح والحقوق الواقعية المشروعة سعياً منهم لتشويه صورتهم وسمعتهم أمام الرأي العام، ولإيجاد الحواجز النفسية بينهم وبين الجماهير؛ لكي لا يصدقوهم فيما يدعونهم إليه، ولا يتعاطفون معهم ولا يناصرونهم، أو على الأقل لا يفضلونهم عليهم؛ لأنهم مثلهم في طلب السلطة والجاه والثروة والمناصب والامتيازات ونحوها، وذلك سعياً منهم للمحافظة على استمرار الأوضاع المنحرفة القائمة، واستمرار بقائهم في السلطة، وما يدره ذلك عليهم من المصالح والمنافع الخاصة والامتيازات الواسعة غير الواقعية وغير المشروعة، والتي تأتي على حساب المنطق والمصالح العامة لأبناء الشعب ولقمة عيشهم.
وقد لجأ فرعون الطاغية وملؤه المجرمون إلى هذا الأسلوب القذر من الخداع والتضليل والكذب والافتراء رغم علمهم بأن حالة موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) وما تكشف عنه سيرتهما العطرة تثبت طهارتهما وعفتهما وتعلقهما بعالم الملكوت الأعلى، وأن ليس لهما قصد العلو والفساد في الأرض والاستكبار على الخلق، وإنما قصدهما هو عينه قصد إخوانهما من المرسلين (عليهم السلام)، وهو الإصلاح في الأرض وهداية الخلق وإرشادهم لما فيه خيرهم وصلاحهم ومصلحتهم وسعادتهم الحقيقية في الدارين الدنيا والأخرة، قول الله تعالى على لسان نبيه شعيب (عليه السلام): < قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ>[12]، أي: أخبروني إن كنت على بصيرة وحجة بالغة في ديني ودعوتي، ويقين وطمأنينة في صحة ما جئتكم به، وقد خصني ربي بالنبوة والرسالة إليكم، وعلمني المعارف الإلهية الحقة والتشريعات الربانية السمحة، والمبادئ السماوية السامية والقيم الإنسانية العليا، وأيدني بالمعجزات النيرات الباهرات الخارقة للعادة؛ لإثبات صدق نبوتي ورسالتي وجئتكم به من عنده، ورزقني من عنده رزقاً وافراً حسناً من المال الحلال الطيب، الذي يغنيني عما عندكم وفي أيديكم من المال والثروة، مما يجعل دعوتي إليكم خاصة لوجهه الكريم، ومن أجل هدايتكم ونجاتكم وإرشادكم إلى ما فيه كمالكم الإنساني وصلاحكم وخيركم ومصلحتكم وسعادتكم في الدارين الدنيا والآخرة، بدون أن أنتظر منكم جزاءً ولا شكوراً.
وهذا يكشف عن حقيقة دوافعي وعن ما في نفسي، وما أريده من الخير لكم، فأنا لا أريد ولا أقصد فيما جئتكم به ودعوتكم إليه أن أخالفكم لمجرد المخالفة أو لمصلحة خاصة، بل أريد هدايتكم ومصلحتكم وإصلاح أحوالكم وأوضاعكم الخاصة والعامة، ودفع الفساد والتحلل والانحطاط والضعف والتخلف عنكم، وحفظ كافة حقوقكم العامة والخاصة، الطبيعية والمكتسبة، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً وتمكنت منه قوتي وطاقتي التي أمدني بها ربي.
والدليل على صدق ما أقول وأدعيه أني أبدأ بنفسي دائماً في العمل بما أدعوكم إليه، ولا أسترسل في شهوات النفس وملذات الحياة، ولا أنهاكم عن شيء إلا وأنا أول مبتدر للانتهاء عنه، ولا أميز بينكم في الحقوق والواجبات وفي القانون وأمام القضاء، وهذه شروط يجب أن تتوفر في المطالبين بالإصلاح من أجل تصديقهم والاطمئنان إليهم ومناصرتهم، فأخبروني: أأنا محق في دعوتي ورسالتي إليكم أم سفيه في رأيي كما تصفوني بغير حق ولا دليل؟ وهل علي أن أترك أمركم ونهيكم لمجرد رفضكم لدعوتي وامتناعكم عن قبولها أم يجب علي أن أستمر وأحاول معكم قدر طاقتي؟ علماً بأن ليس لي ولا لأحد سواي استقلال أو قدرة على شيء ولا تأثير من دون الله سبحانه وتعالى، فهو الذي وفقني لدعوتكم ولكل ما قلت لكم أو فعلته من أجلكم، وهو الذي أمرني به وأمدني بالطاقة والقوة عليه، ولولا هو لما كان مني شيء من ذلك، فله أسلمت فيما يختاره لي في تدبير أمري، وعليه توكلت فيما أرجوه، وبه وثقت، وإليه أنيب وأرجع، يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «إرادة الإصلاح والهداية في الأنبياء (عليهم السلام) ليست مجرد شعار أو وصف طارئ يأتي ويذهب، بل هي من مقومات العصمة أو الخصائص التي لا تنفصل عنها»[13].
وهكذا ينبغي أن يكون المصلحون المخلصون دائماً، وهكذا سيبقى الفراعنة المتجبرون والحكام المستبدون الظلمة في مواجهتهم ومحاربتهم، والعاقبة الحسنة الممدوحة دائماً وأبداً للمتقين، والعاقبة السيئة المذمومة دائماً للفراعنة والحكام المستبدين وأنصارهم الفاسقين المجرمين.
وإذا كان التقليد الأعمى هو المحرك العام للناس، فإن الخوف من فوت وضياع السلطة والثروة وذهاب الصلاحيات الواسعة والامتيازات الضخمة غير المشروعة وغير الواقعية هو المحرك للنخبة الحاكمة وبطانتها المجرمين والخاصة من الانتهازيين الأنانيين والمنتفعين الفاسدين المارقين من حملة الشهادات العليا ورجال الأعمال والكتاب والإعلاميين ونحوهم، قبح الله (جل جلاله) أعمالهم وتصرفاتهم، الذين أسقطوا ما في بواطن أنفسهم من الخبث والشذوذ والانحراف والتعلق بعالم الدنيا والمادة والمصالح على ولي الله الناصح والصادق الأمين موسى بن عمران الكليم (عليه السلام) وأنصاره المؤمنين الصالحين، وهو الأمر الذي دأبت عليه هذه الطغمة الفاسدة في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، إذ يتهمون المعارضين المخلصين الشرفاء المطالبين بالإصلاح والحقوق بالتهم الباطلة، مثل: الخيانة والإضرار بمصالح الشعب والفوضى والسعي للاستيلاء على السلطة والثروة والمقدرات ونحو ذلك، ويسقطون عليهم كل ما في أنفسهم من الخبث، وما في طبائعهم من السوء، وما في أخلاقهم من القبح، وما في أعمالهم من الانحراف، وما في مواقفهم من الأنانية والابتزاز ونحو ذلك.
ويكون طرح مسألة التمسك بالتراث والعادات والتقاليد والهوية الثقافية مجرد وسيلة برغماتية «منفعية» للتضليل والخداع واستثارة عامة الناس وتهييجهم لمعاداة المصلحين والثوار ومجابهتهم ومحاربتهم والوقوف ضدهم إلى صف النظام والحاكم، إذ ليس لهؤلاء المجرمين إيمان حقيقي مستقل عن مصالحهم بالتراث والهوية والعادات والتقاليد، التي يتمردون عليها في حياتهم الخاصة.
وقد ثبت بالتجربة التاريخية والمعاصرة، بأن التعصب للتراث والهوية يزداد مع التجييش، لا سيما في أوقات الصراع، وتنتفي جميع تلك المزاعم الباطلة، وتتلاشى في أجواء الحرية حين يستمد النظام والحكومة وجودهما وشرعيتهما من إرادة الشعب والعمل لمصلحته، ويفتح الطريق لتبادل السلطة بالوسائل السلمية عن طريق الاقتراع الحر، الذي يعبر بصدق وشفافية عن الإرادة الشعبية الحرة، على ضوء الضمانة الدستورية لحرية الاعتقاد والتعبير والبحث العلمي والتنظيم والتجمع وسائر الحقوق الطبيعية المكتسبة للمواطنين، حيث تنتفي الحاجة إلى القمع والعنف والتخوين ونحوها من الأساليب غير الحضارية وغير الأخلاقية، وتتحول إلى جرائم يعاقب عليها القانون.
وعليه: فإن ما احتج به فرعون الطاغية وملؤه المفسدون المجرمون، يدل على عجزهم وضعف منطقهم وأنانيتهم البالغة وفراغهم الفكري والروحي والأخلاقي، وانفصالهم عن عالم الحقائق والقيم العليا والمبادئ السامية والمصالح العامة للناس، وغربتهم عن الواقع واستغراقهم التام في عالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية، واعتمادهم المطلق على منطق القوة وأساليب العنف والإرهاب والإكراه والإغراء وشراء الضمائر والنفوس الضعيفة؛ لفرض حكم الأمر الواقع على المواطنين واستضعافهم مما يثبت خيانتهم وعدم أهليتهم للحكم وتحمل المسؤوليات وتولي الوظائف العامة.
أضف إلى ذلك: إن تغيير الهوية الدينية والثقافية أو إسقاط النظام ليس بجريمة أو تهمة حقيقية، إذا استند إلى الإرادة الشعبية، واعتمد على الأساليب السلمية، والحجج المنطقية، بل هو حق مشروع ضمنته المواثيق الدولية، ويعبر عن ماهية الإنسان وحقيقته التي تقوم على العقل والاختيار، وبهما تميز بين جميع المخلوقات في عالم الوجود، فلا يضر بمشروعية الدعوة ولا يقلل من أهميتها إذا كان من أهدافها تغيير الهوية الدينية أو إسقاط النظام بالاستناد إلى الإرادة الشعبية، وبالاعتماد على الأساليب السلمية والإقناع، وهنا تأتي أهمية الإشارة في السجالات الفكرية والسياسية إلى الفرق بين الاستناد إلى الحقائق والمنطق والحقوق المشروعة بما فيها حق الدفاع عن النفس، وبين الاستناد إلى الكذب والافتراء والمغالطات وقلب الحقائق المدعوم بالعنف والإرهاب والعدوان وقمع الحريات بشتى الوسائل، وشراء الضمائر العفنة الرخيصة من أجل فرض حكم الأمر الواقع، الذي يعبر عن إرادة الأقوياء والمستكبرين والجبارين المنفردة على الشعب بعيداً عن العقل والمنطق، وعلى خلاف الحق والعدل والحقوق المشروعة الطبيعية والمكتسبة.
ولاشك فإن الاستناد إلى العقل والمنطق والحقائق والحقوق حالة إنسانية راقية وأسلوب لإقامة نظام عادل وحكومة رشيدة وحضارة إنسانية مستنيرة ومزدهرة، والاستناد إلى العنف والقوة والإرهاب والإغراء والخداع والتضليل وشراء الضمائر ونحوها حالة همجية شيطانية وحيوانية تنسف إنسانية الإنسان وكرامته، وأسلوب لإقامة نظام فاسد متوحش وحكومة جائرة مستبدة وحضارة منحطة مظلمة، وهذه حقائق ثابتة؛ لأن الإنسان بحسب إجماع العقلاء له كمال لائق به ومقدر له، ليس لغيره، وهو الكائن الوحيد الذي يصنع ماهيته بنفسه، وبوسعه أن يكون كائناً أفضل من الملائكة المطهرين أو كائناً أسوء من الشياطين وأحط من الحيوانات، وذلك بحسب اختياره وأعماله التي يقوم بها في الحياة.
وهذا بغض النظر عن الاختلاف حول ماهية الإنسان، فإن ما يوافق كمال الإنسان فهو خير للإنسان وفيه سعادته، ويجب أن يكون موافقاً للعقل وباختياره، وأن ما ضادّ كمال الإنسان، فهو شر له، وفيه شقاؤه وخسرانه، وهو يشمل كل عمل مخالف للعقل، وتسلب فيه إرادته واختياره، ويفرض عليه بالقوة والإرهاب أو بالإغراء والشهوة، إلا أن الفراعنة المجرمين والحكام المستبدين لا يفقهون المنطق والحقائق والسنن، وهم أعداء أنفسهم في المقام الأول؛ لأنهم يجلبون لها الشقاء والهلاك في الدارين الدنيا والآخرة، وأعداء شعوبهم والإنسانية في المقام الثاني؛ لأنهم يجلبون لها الخراب والضعف والتخلف والتحلل والفساد والانحطاط، وكل ظلم للآخرين فإنه ظلم للنفس؛ لأنه إثم ومعصية تجلب للنفس الهلاك والشقاء في الدارين الدنيا والآخرة.