آل فرعون يراوغون ويخادعون الله
<وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيل>
لقد أنزل الله (عز وجل) ألواناً من العذاب على فرعون الطاغية وقومه الفاسقين، وذلك بسبب ما كان منهم من العتو والعناد والاستكبار على الحق والبغي على الناس، وكان العذاب يأتيهم متفرقاً، يأتيهم فترة قصيرة من الزمن «أسبوعاً» ثم يتوقف لمدة ستة أشهر أو سنة كاملة، ثم يأتيهم لون آخر من العذاب لمدة أسبوع، ثم يتوقف لمدة ستة أشهر أو سنة كاملة، ثم يأتيهم لون ثالث من العذاب لمدة قصيرة «أسبوعاً»، ثم يتوقف مدة ستة أشهر أو سنة كاملة، وهكذا حتى أتم الله (عز وجل) عليهم خمسة ألوان من العذاب الشديد، آيات بينات، وهي الطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم.
وقيل: الرجز هو الطاعون، أصابهم الله (عز وجل) به فألجأهم إلى الفزع إلى موسى الكليم (عليه السلام)، والتوسل به؛ ليدعو لهم، ليُرفعَ عنهم.
وكانت الغاية من تفريق الآيات، هي منحهم فرصة كافية من الزمن للتفكير والتأمل حتى يفيقوا من غفلتهم، ويستيقظوا من سباتهم العميق، ويعودوا إلى عقولهم وضمائرهم ورشدهم، ويقوموا بمراجعة موضوعية جادة لأفكارهم ومعتقداتهم وأخلاقهم وسلوكهم ومواقفهم ويقيسوها بمقياس منطقي وعلمي دقيق، فيتركوا ما كانوا عليه من الكفر والظلم والطغيان والإذلال والاستضعاف لبني إسرائيل، والتمييز ضدهم وإيذائهم، ويتحولوا إلى الإيمان بالدين الإلهي الحق، وإلى العدل والخير والإنصاف والصلاح. ولم يشأ الله (عز وجل) أن يهلكهم قبل أن يقيم عليهم الحجة البالغة التامة، التي لا تبقي لهم حجة ولا عذر عند الله سبحانه وتعالى.
وكانوا في الحقيقة والواقع قوماً مجرمين، قد انغمسوا في ظلام الدنيا والمادة والمصالح إلى أخمص أقدامهم، واستولى الشيطان الرجيم على عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم بالكامل، فعمت قلوبهم، وماتت ضمائرهم، وأصبحوا نسخة بشرية من إبليس الرجيم في عناده ومكابرته واستكباره على الحق وأهله، وفقدوا القدرة على التشخيص الموضوعي للأمور، وانقلبت لديهم الحقائق والموازين، فرأوا الحق باطلاً والباطل حقاً، ورأوا المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ورأوا أنفسهم صالحين مصلحين، وأنهم أصحاب بصيرة ووعي ودراية بالأمور، ودهاء في السياسة، وأن موسى الكليم (عليه السلام) وبني إسرائيل المطالبين بالإصلاح الديني والسياسي والحقوقي، وبالحقوق المشروعة الطبيعية والمكتسبة في الحياة، بأنهم مفسدين ومغرضين، وحمقى وجهلاء، وبسطاء ومخدوعين، ونحو ذلك من الأوصاف والشعارات والأطروحات الباطلة والمضلة.
ولم يعد يفيد معهم دليل أو برهان أو حجة أو رواية أو آية أو معجزة أو موعظة بالغة أو نصيحة صادقة أو أي شيء آخر من هذا القبيل. وكانوا إذا جاءهم لون من العذاب واشتد عليهم، لجأوا إلى موسى الكليم (عليه السلام)، وفزعوا إليه متوسلين ومتشفعين به؛ ليسأل الله (عز وجل) أن يكشف عنهم العذاب، قول الله تعالى: <وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ>[1] وذلك لعلمهم بأن له كرامة ومنزلة عالية عند الله (جل جلاله)، ولقناعتهم في داخل أنفسهم بأن له دور فيما نزل بهم من البلاء والعذاب والشدة، وفي رفعه عنهم، وكانوا يقطعون على أنفسهم العهود والمواثيق المغلظة قائلين: <ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ>[2]، أي: يا موسى!! ادع ربك بما عهد عندك من النبوة والرسالة، بمعنى: نقسم عليك بحق مقام نبوتك ورسالتك عند رب العالمين، وبما أودع عندك من الأسرار، وبما اِلتزم عندك بأن لا يرد دعاءك فيما تسأله، وبما علمك من وسائل إجابة دعائك عنده، إلا ما دعوته ليرفع عنا هذا البلاء وهذا العذاب الشديد، الذي ضيّق علينا رحب الفضاء، وقد وعدتنا إن نحن آمنا وأطعناك، فإن ربك سيرفع عنا العذاب، فاسأله بأن يرفعه عنا، ويزيل ما بنا من الشدة والضر، ونحن نعدك، ونتعهد إليك، بأنه إن هو فعل ذلك، فإننا نعود إلى الحق، ونؤمن بنبوتك، ونتبع رسالتك، ونقتدي بك، ونعتق بني إسرائيل من الرق والعبودية، ونرفع التمييز ضدهم والإذلال والاستضعاف لهم، ونطلقهم من استخدامنا لهم لأغراضنا الخاصة، وتكليفهم بالأعمال الشاقة والدنيئة ونحو ذلك، ونجعل أمرهم إليك، ونعطيهم حق المواطنة والإقامة في مصر، وحق الهجرة والسفر، حيث كان فرعون وقومه الأقباط يسترقون بني إسرائيل ويستعملونهم في الأعمال الشاقة والوضيعة، وكانوا يمنعونهم من الهجرة والسفر بهدف الإبقاء على إخضاعهم لإرادتهم وتسخيرهم في خدمتهم لأغراضهم الخاصة، والقيام بالأعمال الشاقة والوضيعة، التي لا يقوم بها الأقباط، ويترفعون عنها.
وكان موسى الكليم (عليه السلام) قد طالب فرعون بأن يعطي بني إسرائيل حقهم في الهجرة والسفر معه إلى الأرض المقدسة «فلسطين»، التي هي أرض الميعاد، وموطن جدهم إسرائيل، وهو نبي الله الكريم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل (عليهم السلام) قبل هجرته منها مع جميع أهله وعشيرته إلى مصر في عهد وفي زمن حكومة ابنه يوسف الصديق (عليه السلام) في القرن الثامن عشر «18» قبل الميلاد، أي: قبل أربعمائة «400» سنة تقريباً من عهد موسى الكليم (عليه السلام)، وقد أمرهم الله (جل جلاله) بالهجرة والعودة إليها والإقامة فيها مع نبيهم موسى الكليم (عليه السلام)، فوعد فرعون وقومه موسى الكليم (عليه السلام) بأن يخلوا سبيل بني إسرائيل ويرفعوا عنهم حظر السفر والهجرة، ويسمحوا لهم بالعودة إلى الأرض المقدسة «فلسطين» متى شاءوا؛ ليعبدوا ربهم فيها بحرية كما يشاؤون إن رفع الله (عز وجل) عنهم العذاب.
وقول فرعون وقومه الأقباط لموسى الكليم (عليه السلام): <ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ>[3]، يدل على أمور مهمة عديدة، منها:-
1. أنهم كلما وقعوا في شدة انتبهوا من غفلتهم بصورة مؤقتة، كما هو شأن جميع العصاة، ويبحثون عن وسيلة للخلاص منها، فكانوا يلجأون إلى موسى الكليم (عليه السلام) ويتوسلون به، فإذا كشف عنهم العذاب نسوا كل شيء، وعادوا إلى سيرتهم الأولى.
2. أن قولهم: <ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ>[4]، يدل على أنهم قد خامرهم ظن لكثرة ما رأوه من آيات موسى الكليم (عليه السلام) ومعجزاته، أن له رب قادر عليم، وأن لموسى الكليم (عليه السلام) عنده مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة، وأنه صادق فيما يدعيه من النبوة والرسالة.
3. أنهم التفتوا إلى مسألتين غائبتين في حياتهم، وهما: مسألة الإيمان، ومسألة العدالة الاجتماعية، وأنهم يجب أن يصححوا أوضاعهم بالعودة إليهما، وهما محورا دعوة موسى الكليم (عليه السلام) كما سبق بيانه. وقيل: أن قولهم: <لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ>[5] هو وعد منهم بالإيمان، بأنه صادق في أنه مرسل من رب بني إسرائيل، إذ أن لكل قوم وأمة ربهم أو أربابهم الخاصين بهم، وأن رب بني إسرائيل، أرسله ليخرجهم من أرض مصر إلى أرض فلسطين، ليعبدوه فيها بحرية كما يشاؤون، وليس وعداً منهم باتباع الدين الإلهي الذي جاء به؛ لأنهم مكذبون به، ولهذا جاء فعل الإيمان متعلقاً بموسى <لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ>[6]، لا باسم الله سبحانه وتعالى.
4. أن عبارة: <بِمَا عَهِدَ عِندَكَ>[7]، تكشف عن مدى تحيرهم، والتباس الأمر عليهم، بشأن موسى الكليم (عليه السلام)، ودينه، ورسالته، وحقيقة أمره.
وفي جميع الأحوال كانوا كاذبين مراوغين لا يفون بما يقولون، إذ كانوا يعودون إلى ما كانوا عليه من الكفر والظلم والطغيان، وينقضون ما وعدوا الله (جل جلاله) ورسوله الكريم (عليه السلام) وتعهدوا لهما به بعد كل مرة يكشف عنهم فيها العذاب، فلم يكونوا صادقين، بل كانوا مبيتي النية على نقض جميع ما قطعوه على أنفسهم من العهود والمواثيق، ولا قصد لهم من الفزع إلى موسى الكليم (عليه السلام) والتوسل به والطلب منه الدعاء بكشف العذاب عنهم إلا زوال العذاب لا غير، يخادعون الله (جل جلاله) ورسوله الكريم (عليه السلام) والمؤمنين الأتقياء الصالحين، متوهمين في كل مرة بأن العذاب إن رفع عنهم فلن يعود إليهم، فيعودوا بعد ما يرفع عنهم إلى ما كانوا عليه من الدين الفرعوني والنظام والسياسة الفرعونية الطاغوتية الظالمة، إذ ترتبط بها مصالحهم الدنيوية وبقاؤهم في السلطة وما يتمتعون به من امتيازات وصلاحيات، معتبرين ذلك الكيد والخداع والمراوغة من الذكاء والشطارة والكياسة والدهاء وحسن التدبير في السياسة، إذ لا صلة للدين والقيم والمبادئ بالسياسة، وأن وظيفة السياسة الوصول إلى السلطة والبقاء فيها، وحفظ المصالح، ودوام القوة والسيطرة والنفوذ ونحو ذلك، غافلين عن كيد الله (عز وجل) ومكره بالظالمين، وعن حقيقة كون ذلك السلوك القبيح انعكاس لمرض روحي خبيث، وأنه مضيعة للوقت والجهد والعمر، وسيعود عليهم بالشر والسوء والضرر البليغ والخسران في الدارين الدنيا والآخرة؛ لأن كمال الإنسان وصلاحه وخيره ومصلحته وسعادته الحقيقية في دورة الحياة الكاملة تتوقف على معرفة الدين الحق والصراط المستقيم والنهج القويم في الحياة والعمل بمقتضاها، وأن الله (عز وجل) عالم بنياتهم وأعمالهم ومطلع على بواطن أمورهم وظواهرها، ولا يخفى عليه منها شيء، وأنه متمكن منهم غاية التمكن، وقادر عليهم غاية القدرة، ولا يعجزه شيء من أمرهم، وأنه لم يأتهم بالعذاب عبثاً، وإنما جاءهم به لغاية حكيمة وهدف بليغ، وهو إيقاظهم من غفلتهم، وعودتهم إلى عقولهم ورشدهم وفطرتهم، وإلى ما فيه صلاحهم وخيرهم ومصلحتهم وسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة، فإن هم لم يستجيبوا فإن مصيرهم إلى الهلاك والشقاء الأبدي الكامل، وهو أسوء مصير، وقد بين لهم موسى الكليم (عليه السلام) ذلك بوضوح تام.
وعليه: فإن ما يظهرونه من الكيد والخداع والمراوغة يدل في الحقيقة والواقع على جهلهم المتمكن منهم، وعلى استغراقهم في سباتهم العميق، وعلى خبث نفوسهم، وسوء طباعهم، وفساد نياتهم، وتمكن الخذلان والشقاء منهم، قول الله تعالى: <يُخَادِعُونَ اللـهَ وَالذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون>[8]. أي: أنهم يخادعون الله (عز وجل) ورسوله والمؤمنين بذلك القول، ولو تدبروا وعقلوا الأمور جيداً؛ لعلموا أنهم في الحقيقة والواقع إنما يخدعون أنفسهم ويضلونها؛ لأن نكثهم لما عاهدوا الله (جل جلاله) ورسوله الكريم (عليه السلام) عليه ووعدوهما به، يرجع وباله وشره وضرره عليهم في الدارين الدنيا والآخرة لا على غيرهم.
إلا أن هؤلاء السفهاء الحمقى لا يشعرون للأسف الشديد بهذه الحقيقة، ولا يعلمون عنها شيئاً، أو أنهم يتجاهلون ويتغافلون عنها كأنها غير موجودة، ويعدّون كيدهم وخداعهم ومراوغتهم ضرباً من الذكاء والشطارة والكياسة والفطنة والدهاء وحسن السياسة؛ وذلك بسبب إفراطهم في العناد والمكابرة والكفر والاستكبار، واستغراقهم في عالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية، قول الله تعالى: <يُخَادِعُونَ اللـهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ>[9]، أي: أن ما يظنون أنهم يخدعون الله (عز وجل) والرسول الكريم (عليه السلام) والمؤمنين به هو بعينه كيد من الله (جل جلاله) وخديعة لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى مطلع عليهم، ومتمكن منهم غاية التمكن، وقادر عليهم غاية القدرة، ولا يتضرر شيئاً بخداعهم، وقد خلى بينهم وبين ما هم عليه من الغي والضلال والأعمال القبيحة والسير في طريق الهاوية، ولم يمنعهم عن شيء من ذلك؛ استدراجاً لهم؛ وليكون وبالاً عليهم في الدارين الدنيا والآخرة، مجازاةً لهم على سوء طبعهم، وفساد نياتهم، وقبيح أعمالهم.
وعليه: فخداعهم عائد عليهم بالسوء والشر والضرر لا على غيرهم، وكأنهم يعملون ما يعملون من أجل إهلاك وإشقاء أنفسهم والإضرار بها، فلله سبحانه وتعالى ما يصنع الحمق والجهل والخذلان بصاحبه!!