نقض القرآن الكريم لتفسير آل فرعون للابتلاء
تهرّب آل فرعون من تحمّل المسؤولية عمّا أصابهم وأصاب قومهم من البلاء الشديد وما حلّ بهم من المصائب والشدائد والنكبات، وحملوا موسى الكليم (عليه السلام) ودينه ودعوته والذين آمنوا به واتبعوه المسؤولية الكاملة عن كل الذي حدث إليهم، وهذا منطقٌ أعوجٌ غير واقعي، وقلب صريح وواضح للحقائق، وانفصال عن الواقع، وعجز عن مواجهته والتغلب عليه. فقد تجاهلوا الأسباب الواقعية الفعلية للمشكلة، وجعلوا ما ليس بسببٍ سبباً، وجعلوا ما هو سبباً لتفادي المشكلة وطريقاً لحلها سبباً لها!! وقد ردّ عليهم القرآن الكريم ونقض تفسيرهم وبيَّن وأثبت:
أ. أن مرجع كل خير وشر إلى تدبير الله (عز وجل) الذي تنتهي إليه جميع الأسباب، والذي يجريه بمقتضى حكمته ومشيئته، فهو الذي يشاء كل ما يصيبهم من الحسنة والسيئة.
ب. أن منشأ كل مصيبة تحل بهم وكل بلاء ينزل بساحتهم هو تدبير الله (عز وجل) الذي يجريه بمقتضى حكمته ومشيئته، وسببه كفرهم وضلالهم، وأفكارهم المنحرفة عن الدين الإلهي الحق وأخلاقهم القبيحة، وأعمالهم السيئة المشؤومة، وهو ما وعدوا به من العقاب في الدنيا على أعمالهم، وما تجنيه أيديهم من الذنوب والمعاصي والآثام، فليس هو من عند موسى الكليم (عليه السلام)، ولا من عند غيره من المخلوقين أبداً؛ لأن الصلة قائمة ووثيقة جداً بين الأفكار والأخلاق والأعمال وبين الأوضاع القائمة في المجتمع الحسنة والسيئة، وهناك قوانين عامة صارمة تحكم هذه العلاقة والصلة، وهي من تدبير الله (عز وجل)، وتخضع لإرادته ومشيئته، ولا تخرج عنهما قيد شعرة لا أقل ولا أكثر، وهو العالم بكل صغير وكبير من أحوالنا الفكرية والروحية والنفسية والسلوكية، والعالم بجميع أفعالنا وحركاتنا وسكناتنا.
وعليه: فكل ما يكون في المجتمعات من أوضاع حسنة أو سيئة هي من تدبير الله (عز وجل)، الذي تنتهي إليه جميع الأسباب، وقد حذرنا الله (جل جلاله) من عواقب الكفر والمعصية والبطر. وأن التطير جهل وخرافة لا علاقة له بالمنطق السليم والحقائق الكونية، قول الله تعالى: <إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ>[1]، أي: أن سنة الله (عز وجل) في التدبير لمسيرة الإنسان التاريخية التكاملية، قد جرت على أنه لا يغير ما بقوم من الأوضاع العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الحسنة أو السيئة، حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأفكار والأخلاق والحالات الروحية، وما يصدر عنهم من الأعمال والعلاقات الصالحة والطالحة، فلا يغير النعمة والعافية وسعة العيش والأمن إلى النقمة والبلاء والضيق والخوف، حتى يغيروا الإيمان إلى الكفر، والطاعة إلى المعصية، والشكر إلى البطر والجحود.
ولا يغير ما بهم من الشقاء والضيق والبلاء والحزن والخوف إلى السعادة والسعة والعافية والغبطة والبهجة والسرور والأمن، حتى يغيروا الكفر إلى الإيمان، والمعصية إلى الطاعة، والبطر والجحود إلى الشكر. يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «ما من شك أن الله لا يغير ما بنا من جهل حتى نبني المدارس والجامعات والمختبرات، والله لا يغير ما بنا من فقر حتى ننشئ المزارع، ونقيم المصانع، والله لا يغير ما بنا من ذل وهوان وعبودية حتى نتفق قلباً واحداً، ونجاهد يداً واحدةً ضد كل معتد أثيم، والله لا يغير ما بنا من شتات حتى نتحرر من الأغراض والشهوات»[2].
وإذا أراد الله (عز وجل) بقوم سوءاً وعذاباً وشدةً وضيقاً وهلاكاً، فإن إرادته نافذة فيهم، ولا منجي يستطيع أن ينجيهم ويمنعهم مما أراده الله (عز وجل) بهم؛ لأن لا مدبر في العالم غيره، ولا مؤثر بدون إذنه وإرادته، ولا يجري شيء على خلاف مشيئته، ولا أحد يستطيع أن يغير أو يمنع أي شيء مما يريد، فلا ولي لهم يستطيع أن يرفع عنهم السوء فيلجؤون إليه غيره.
وعليه: فليحذروا من الإقامة على ما يكره من الكفر والمعصية والبطر ونحوها، حتى لا يحل بهم ما لا يرد عن القوم الظالمين المجرمين من الهلاك والشقاء.
وبناءً على ما سبق: إذا وجدنا سوءاً في أوضاعنا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، فعلينا أن نبحث فوراً عن نقاط الضعف والانحراف في داخل أنفسنا، في أفكارنا وحالاتنا الروحية والأخلاقية، وفي أعمالنا ومعاملاتنا مع الآخرين، ونتطهر من كل عيب ورجس، وكل ما هو سيء وقبيح، حتى تتحسن أوضاعنا وتتغير نحو الأفضل، وأن نحذر من الهروب إلى الأمام، ونلتف وندور في الطرق الملتوية، ونلقي بالمسؤولية على الآخرين، وفقاً لما يعرف بعقدة المؤامرة أو أن نلجأ إلى القوة والعنف ضد الأبرياء والضعفاء الذين يطالبون بالحقوق والإصلاح والتطوير، فإن ذلك كله خلاف الحكمة والشجاعة الأدبية والأمانة مع النفس ومع الآخرين، وطريق إلى الفشل والضعف، وتعزيز الانحراف والتخلف والانحطاط. وأن الطريق إلى السلام والأمن والاستقرار والتنمية، هو العدالة والمساواة، وإزالة الشعور بالغربة والغبن والمظلومية في المجتمع، وتعزيز الشعور بالوحدة والانتماء على هذا الأساس.
غير أن الفراعنة المتجبرين، والحكام المستبدين، والمتربصين المستغلين، والانتهازيين الأنانيين، والنفعيين الفاسدين، الغارقين في عالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية الأنانية، يجهلون هذه الحقائق وأخواتها، ويجهلون آثارها ونتائجها، ويتوهمون أن أعمالهم السيئة تفوت وتزول ولا ترجع عليهم بشيء، ولا علاقة لها ولا صلة ولا رابطة بما حل عليهم من المصائب والمصاعب والشدائد والمحن والبلايا، ويتوهمون بأن إلقاء المسؤولية عن أخطائهم وتقصيرهم على الآخرين ومحاسبتهم عليها ومعاقبتهم بها، واللجوء إلى العنف والقوة والإرهاب ضد الأبرياء والمصلحين والثوار والمطالبين بالحقوق ينفعهم ويطيل في عمرهم، وهو في الحقيقة يفاقم المشكلة، ويعود بالضرر البليغ عليهم، ويدخلهم في طريق اللاعودة مع الشعب، الذي ينتهي حتماً بهلاكهم، والقضاء على حكمهم.
والأكثر خطورة أنهم لا يتفكرون ليعلموا الحقيقة، لا لأنهم لا يريدون الوصول إليها ومعرفتها، بل لأنهم لا يريدون أن يعرفوها؛ لأنهم لا يريدون أن يغيروا ما هم عليه من الكفر والضلال والطغيان والبطر والفساد، وهنا تبرز مشكلة كبيرة نجدها عند الكثير من الناس من مختلف الفئات والطوائف والطبقات، وهي أنهم يشكلون لأنفسهم قناعات ذاتية تناسب أهواءهم ورغباتهم، ويجعلون لأنفسهم آمال ومعايير خاصة غير موضوعية، ثم يحكمونها بغير حق ولا دليل في جميع ما يصل إليهم ويطرح عليهم من أفكار وقيم ومبادئ، ولا يرضون بغيرها، ويرفضون كل ما يخالفها ويتعارض معها بحجة أنها غير مقنعة لهم؛ لأنها تخالف قناعاتهم وثوابتهم، مما يجعلهم في طريق مسدود أمام الهداية واتباع الحق، ولن ينفع معهم بطبيعة الحال أي منطق أو حجة أو دليل أو برهان.
وقيل: نفي العلم عن أكثرهم في قوله: <وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون>[3]، فيه تنبيه على أن قليلاً منهم يعلمون الحقيقة، على خلاف ما عليه أكثر قومهم من الجهل بها، لكن هؤلاء القلة يشايعون ويناصرون مقالة الأكثرين، وهذا هو الضلال المبين، والسبيل إلى الهلاك والشقاء الأبدي الكامل في الآخرة، وهؤلاء أكثر سوءاً من غيرهم؛ لأنهم يعرفون الحق ويخالفونه عن علم ويقين!!