وعادت مؤنسة
ولد ماهر لأبوين بحرينيين ..
في عائلة ثرية متخمة بالثروة ..
تدخل عليها الأموال من كل حدب وصوب ..
لا تحصيها إلا شركات المحاسبة الكبيرة ..
ولا يعرف ربها مقدارها إلا على نحو الإجمال .
فهي عائلة لم تعرف طعم الفقر ..
ولم تكتوي بناره الآكلة للجلود والأكباد ..
وأيضا : لم تقف يوما إلى صف الفقراء والمساكين .
لقد ورثت العائلة الثروة ..
والجاه والسلطة ..
كابرا عن كابر ..
لعقود مديدة ..
وهي لصيقة بالحكام ..
ولها علاقة متميزة معهم ..
وتجمعها وإياهم مصالح مادية عديدة .
ولم يرى من العائلة الإنفاق في المشاريع الخيرية ..
فلم تبني في تاريخها المنظور ..
مسجدا ..
أو مأتما ..
أو مستشفى ..
أو مكتبة عامة ..
أو غير ذلك من المصالح العامة .
فهي مغيبة في عالم البذخ ..
ومحجوبة عن هموم الناس وقضاياهم ..
بحجاب الغفلة عن الله عز وجل والآخرة ..
وبالاستغراق في الذات ..
والانشغال بجمع المال والثروة ..
وتحصيل الجاه والسلطة ..
فلا تنفق إلا فيما يعود عليها بالمنفعة ويحقق أهدافها الخاصة .
ومع ذلك : فلها من يطبل لها من المتزلفين والفقراء ..
فقد أقام الكثير من الناس الحياة على التكاذب ..
ومن الناس من يعطي الولاء على فراغ وبدون ثمن ..
وهذه مشكلة فكرية ، وروحية ، وأخلاقية ، واجتماعية ، وسياسية .
ولوفرة النعمة على ماهر ..
ترى في وجهه سيماء الترف ..
وترى كل شيء فيه ينطق بالبذخ والنرجسية :
لباسه ..
سيارته ..
مقتنياته ..
كلامه ..
وحركات جسده .
لم يعرف ماهر في حياته كلها ما هو الفقر والحرمان ..
ولا يشعر بهما ..
فهما يقعان في خارج دائرة الشعور بالنسبة إليه ..
وفي الجانب الذي لا يبصره من الحياة ..
وبينه وبينهما حجب ..
فهو لا يختلط إلا بالطبقة العليا في المجتمع ..
وبها انحصرت علاقاته الاجتماعية ..
وكل طلباته مستجابة في العائلة ..
وبأعلى المستويات .
فهو وحيد والديه من الذكور ..
والمال الذي في يديه يفوق حاجاته بكثير ..
يفوق ما يحتاجه لمصروفاته اليومية ..
ويفوق متطلبات سفره ..
وما يقدمه من هدايا لأصدقائه وصديقاته ..
فهو يسبح في بحر النعمة فرحان جدلا ..
ويصطاد منه ما تشتهيه نفسه بسهولة فائقة .
تلقى ماهر تعليمه حتى المرحلة الثانوية بالمدارس الخاصة بالبحرين ..
وتلقى تعليمه العالي بالجامعات الأمريكية والأوربية ..
وحصل على أكثر من شهادة عليا ..
من الجامعات الأمريكية ..
والبريطانية ..
والسويد ..
ويتقن ثلاث لغات أجنبية ..
وله أصدقاء من الجنسين ..
ومن جنسيات عديدة ..
ذاق معهم حلاوة ما تتوق إليه نفسه من المشتهيات ..
وطار معهم في عالم الهوى ..
برادار الغريزة ..
وجناحي الشهوة والغضب ..
وعلى ذلك تبلورت رؤيته في الحياة .
فالدنيا في رأيه ..
استمتاع ولذة ..
وسيطرة ونفوذ ..
واقتناص للفرص التي تمر مر السحاب .
والشاطر بحسب رأيه :
من يحظى بأكبر قدر ممكن من اللذات الحسية التي هي الخير الأعظم والغاية القصوى للإنسان ..
مع الحذر من الأمراض ..
والهروب من الألم ..
وذلك من خلال الاستمتاع باللذات الحسية بطريقة صحية .
والشاطر بحسب رأيه أيضا : من ينجح في تحقيق أكبر قدر ممكن من النجاح الشخصي والمنفعة الحسية والمادية ..
والذي ينجح في تحصيل أكبر قدر ممكن من المال والثروة ..
ومن الجاه والنفوذ والسلطة والسيطرة ..
وهذا هو مفهومه للسعادة .
ولهذا فهو يحب :
الجنس ..
والخمر ..
والموسيقى ..
والترفيه ..
كما يحب الدراسة والعمل .
لم يدخل ماهر المسجد قبل قيام الثورة الإسلامية في إيران ..
ولم يعرف حدود الشريعة ..
ولا يقف عندها ..
بل لا يقف عند حدود القانون ..
فهو كالطير ..
من طبقة تعيش طليقة فوق القانون والحدود ..
فالقانون بحسب رؤيته في الحياة ..
لم يوضع ليقيد حرية الصفوة من المجتمع ..
أو يعكر صفو حياتها ولذيذ عيشها ..
وإنما وضع من أجل الحوش من الناس ..
الذين لا يملكون التعليم ..
ولا يملكون المال والثروة ..
ولا يملكون السلطة والنفوذ ..
ولا يعرفون كيف يتمتعون بالحياة ..
وأنهم وفق قانون الحياة : وجودوا لخدمة الصفة .
في ذات مرة ..
انطلق ماهر كعادته بسيارته المرسيدس بسرعة فائقة ..
وفي شارع عام ..
قتل إنسانا ..
فنزل من سيارته ..
ووقف بكبرياء على جثته ..
وأخذ يدخن سيجارته ..
ولم يكترث باستهجان الحاضرين ..
وعلى أثرها : أوقف لبضع ساعات في إدارة المرور ..
ثم أطلق سراحه .
بعد أن تخرج ماهر من أرقى الجامعات في لندن ..
لم يبحث عن وظيفة ..
فقد كانت الوظيفة معدة له ..
وتنتظر رجوعه .
فقد انخرط في صفوف رجال الأعمال ..
وكانت الطريق معبدة له :
رأس المال الوفير ..
وكالات تجارية جاهزة ..
تعليم عالي ..
لغات أجنبية ..
علاقات واسعة ..
خبرات متعددة ..
ومعرفة ممتازة بالسوق .
وبما أنه من الصفوة ..
فالطريق مفتوح أمام مشاريعه ..
والحصول على العروض لا يتوقف .
وكان ماهر عضوا فاعلا في النادي الروتاري ..
ويعطي بسخاء في مشاريعه المسماة بالخيرية ..
مما كان يساعد على تدفق الوكالات التجارية عليه ..
ويسهل الطريق أمام مشاريعه التجارية ..
وحصوله على المزيد من العروض ..
وكانت عملية غسيل الأموال سهلة جدا لديه .
سافر ماهر إلى معظم دول العالم ..
وفي إحدى سفراته إلى تونس العاصمة ..
تعرف على مؤنسة ..
وكانت موظفة استقبال في أحد فنادق الدرجة الأولى ..
وكان عمرها : ثلاثا وعشرين سنة ..
وتحمل شهادة بكالوريوس في العلوم السياسية .
أما عمره هو : فكان سبعا وعشرون سنة .
أعجب ماهر بمؤنسة ..
واستهوته كثيرا ..
وقرر الزواج منها ..
ولم يكن يحتاج لأكثر من موافقتها لتنفيذ القرار ..
فدعاها لوجبة عشاء في أحد المطاعم الراقية في تونس ..
فلبت دعوته ..
وكان طموحها ..
أن يكون فارس أحلامها .
وتجاذب معها أطراف الحديث ..
ليسبر أغوارها ..
ويتعرف على الأجواء التي تحلق فيها .
وقد أحسنت قراءة أفكاره ..
وأجادت الدور معه .
وبعد أن اطمأن إلى أنها المرأة المناسبة التي يبحث عنها ..
عرض عليها الزواج ..
فوافقت من حيث المبدأ ..
على أن تعرض الموضوع على عائلتها ..
ويكون القرار النهائي ينبع من هناك .
وفي اليوم التالي ..
دعته على وجبة عشاء في بيتها ..
لكي يراه والداها وأخويها ..
وقد استقبل ماهر من عائلتها أحسن استقبال ..
وضيف أحسن ضيافة ..
وقد حضر المأدبة :
والداها ..
وأخويها : عماد ونعمة المتزوجان ..
وليس لها أخوة أو أخوات غيرهما .
وقد تجاذب الجميع أطراف الحديث ..
وتحدث ماهر عن عائلته ..
ودراسته في المدارس الخاصة والجامعات الأوربية ..
وعن أعماله ..
ورحلاته في دول العالم ..
وتصديق ما يقول ..
في سيماء وجهه ..
ومقتنياته ..
وما في يديه من أموال ..
وما يجيده من لغات ..
وفي ثقافته ..
وفي حركات جسده وإيحاءاته ..
فكلها تنطق بالنعمة التي هو فيها .
وفي النهاية ظفر بموافقة عائلة مؤنسة على زواجه منها ..
وبقي في تونس أسبوعا آخر ..
لترتيب بعض الأمور المتعلقة بالزواج ..
وسلم العائلة ما يكفيها من المال للاستعداد للزواج ..
وعاد إلى البحرين ..
وأخبر عائلته بقراره والخطوات التي قطعها .
ولم تعترض العائلة على شيء من ذلك ..
وأخذت العائلة بكل سرور في الاستعداد للزواج ..
وبعد شهر ونصف تقريبا تم الزواج ..
وكانت حفلتان كبيرتان للزواج :
الأولى في تونس ..
في نفس الفندق الذي كانت تعمل فيه مؤنسة ..
حضرها من البحرين :
والدا ماهر ..
وأختاه ..
ولفيف من أقربائه .
والثانية كانت في فندق الشيراتون في البحرين .
تتصف مؤنسة :
بالصدق ورجاحة العقل ..
وبعد الزواج ..
أحبت ماهر حبا صادقا ..
وأخلصت له كثيرا ..
وانخرطت في أعماله ..
وساندته ..
وكانت له كالظل في حله وترحاله ..
ترافقه في الكثير من سفراته ..
وتحضر ما يقيمه من حفلات ..
كما تحضر حفلات أصدقائه وحفلات رجال الأعمال الآخرين التي تدعى لها وما أكثرها .
وليس بين زوجات أصدقائه من تضاهيها في رجاحة العقل ..
أو تنافسها في الثقافة والجمال والذائقة الجمالية ..
فكانت تتفوق عليهن جميعا ..
في الثقافة والأناقة والرشاقة وجذب الانتباه ..
وكانت دائما الرقم الأول من بين النساء فيما تحضره من حفلات ونشاطات عامة ..
وكثيرا ما يكون وجودها دافعا لحضور بعض الرجال ..
كما صرح بذلك أحد رجال الأعمال ..
كما كانت موضع حسد الكثير من النساء اللواتي يشاركنها الحضور في الحفلات والنشاطات الاجتماعية .
وقد كسبت مؤنسة باقتدار ..
ثقة عائلة ماهر وإعجابهم بكفاءتها ومهارتها في إدارة الأعمال والعلاقات العامة وحسن معاملتها ..
وبذوقها في تنظيم بيتها ومكاتب عمل زوجها ..
حتى أنها تجعل منها وكأنها تحفا فنية .
وكان ماهر فخورا بها ..
ويتباهى بها في عائلته وبين أصدقائه ..
وكانت لها علاقة متميزة بأختيه : زليخة وبهية ..
وقد تركت بصماتها في التأثير عليهن على أكثر من صعيد .
أما ماهر فقد طرأت على سلوكه بعض التغيرات الطفيفة بعد الزواج ..
أهمها : ترك العلاقات غير الشرعية مع النساء ..
والفضل في ذلك يعود إلى مؤنسة ..
حيث استوعبت ماهر استيعابا كاملا من هذه الناحية ..
رغم أن فلسفته في اللذة ..
تدعوه إلى تنويع مصادرها .
وبعد الثورة الإسلامية في إيران :
دخلت على ماهر تغيرات أوسع ..
فأصبح يتردد على المسجد بين فترة وأخرى ..
ويحضر المآتم في موسم عاشوراء ..
إلا أنه أبقى على بعض السلوكيات المنحرفة ..
وفي مقدمتها المشروبات الشيطانية ( الخمور ) ..
لأن شربها بحسب رأيه من أساسيات الاتكيت في العلاقات العامة لرجال الأعمال والصفوة من المجتمع ..
وحضور مجالسها ضروري للحصول على المزيد من الأعمال .
وكانت مؤنسة تحضر حفلات ماهر ولقاءاته ..
وتشرب القليل منها .
وظهرت الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني ..
وظهرت آثارها في المعمورة من شرقها إلى غربها ..
وفي عالم ماهر ومؤنسة ..
كان فائق من أصدقاء طفولة ماهر ..
وهو كذلك من عائلة ثرية ..
وتعود الصداقة بينهما إلى المرحلة الابتدائية ..
حيث كانا يدرسان في إحدى المدارس الخاصة في البحرين ..
وهما يشتركان في الكثير من الصداقات ..
ويحضران نفس المحافل تقريبا ..
وكثيرا ما يسافران معا .
وفائق متزوج من صفية قبل سنتين من زواج ماهر من مؤنسة ..
وهي سيدة بحرينية ..
كانت زميلة له في الدراسة الجامعية في لندن ..
وهي من عائلة متعلمة ومنفتحة ..
وقد قادها تفوقها إلى الدراسة هناك .
والعلاقة بين فائق وزوجته صفية ..
متشابهة إلى حد كبير مع علاقة ماهر ومؤنسة .
ومع ظهور الثورة الإسلامية في إيران ..
بدأ هبوب العاصفة ..
فقد تأثر فائق وصفية تأثرا كبيرا بالثورة وبقائدها الإمام الخميني ( قدس سره ) ..
فارتدت صفية الحجاب ..
والتزمت مع زوجها فائق بالدين التزاما كاملا ..
وانفتحت لهما بعد الالتزام علاقات اجتماعية جديدة ..
شملت علماء دين ودعاة ..
وأصبحت لهما مساهمات كبيرة في الأنشطة الإسلامية .
وقد أحدث هذا التحول بعض التغيرات على أنشطتهما التجارية ..
إلا أنهما احتفظا بعلاقاتهما السابقة مع رجال الأعمال ..
وبقيا قويين ونشيطين في مجال التجارة .
كما أحدث هذا التحول تأثيرات سلبية على علاقة فائق وصفية مع عائلتيهما التين لم تستوعبا هذا التحول ولم ترضيا به ..
واعتبرتاه خسارة وانتكاسة في حياة فائق وصفية ..
إلا أن فائق وصفية بقيا صامدين ..
وبعد بضع سنوات ..
نجحا بحكمتهما وحسن تصرفهما ..
في ترميم العلاقة مع عائلتيهما ..
إلا أنها بقيت فاترة من جانب أفراد العائلتين وليس من جانبهما .
وكان فائق يكرر بعد التزامه العبارة التالية :
إن المال الكثير الذي كان في أيدينا ..
كان أساس خرابنا وانحرافنا ..
ولولا رحمة الله عز وجل بنا ..
والنور المنبعث من الثورة الإسلامية ..
ومن قائدها العظيم الإمام الخميني ..
لكنا من الهالكين .
وقد ارتبط فائق بعد الالتزام بعلاقة حركية مع بعض المؤمنين ..
واشتد عوده في طريق الدعوة إلى الله عز وجل ..
وقد ترك تأثيرات كبيرة على أصدقائه ..
ومنها التأثيرات التي ظهرت على سلوك ماهر .
أما صفية : فكان اهتمامها بالجوانب الاجتماعية ..
فقد اهتمت كثيرا بالأسر الفقيرة ..
وإقامة الدروس الإسلامية ومجالس الذكر مع صديقاتها في بيتها ..
لاسيما دعاء كميل في كل ليلة جمعة ..
واهتمت كثيرا بالزيارات للأسر الصديقة والفقيرة .
ولما كانت تربط ماهر ومؤنسة مع فائق وصفية علاقة صداقة أسرية متينة ..
ونظرا للسمات المتميزة في شخصية صفية ..
فقد نجحت صفية في كسب مؤنسة إلى حضور الدروس الإسلامية ومجالس الذكر في بيتها .
وبعد عدة أسابيع لبست مؤنسة الحجاب ..
وقد أزعج ذلك ماهر وأغضبه كثيرا ..
فقد اعتقد بأن في ذلك نيلا من رجولته ..
والحد من سلطته على زوجته ..
فهو مشبع بالأنانية والنرجسية وحب الذات .
ورغم حبه لزوجته ..
إلا أنه ينظر إليها :
بأنها أسيرة ثروته وجاهه ..
والحياة المترفة التي هيأها لها ..
وأن قبولها وعائلتها بزواجها منه ..
لم يكن إلا على هذا الأساس المادي البحت ..
فلم يستوعب هذا التحول في سلوكها ..
ولم يرضى به .
كما نظر إلى الموضوع بعين الربح والخسارة ..
فارتداء مؤنسة للحجاب ..
سوف يؤثر على حضورها في الحفلات ..
وفاعليتها في الأنشطة الاجتماعية التي تحضرها ..
مما ينعكس سلبا على سمعته كرجل أعمال ..
وعلى حصوله لبعض الأعمال التجارية .
فحاول كثيرا أن يثني مؤنسة عن خيار الحجاب ..
فلم يستطع ..
فقد استولى على تلابيب قلبها عالم الملكوت ..
بآياته وجماله وجلاله ..
حيث دخلت مؤنسة إلى هذا العالم من بوابة دعاء كميل العظيم .
فتوترت العلاقة بين ماهر ومؤنسة كثيرا ..
وصب ماهر جام غضبه على صفية ..
لأنه يعلم بأنها وراء هذا التحول في سلوك زوجته ..
فمنع مؤنسة عن زيارتها أو الاتصال بها ..
كما امتنع هو بدوره عن زيارة فائق أو الاتصال به .
وزادت وتيرة الاختلاف بين ماهر ومؤنسة يوما بعد يوم ..
حيث يصر كل منهما على موقفه ..
فهو يصر على خلعها للحجاب ..
وهي تصر على التمسك به ..
وأخذ طوفان الخلاف يعصف بالأسرة التي تنتظر بعد شهور قليلة طفلها الأول ..
فقد هدد ماهر مؤنسة بالانفصال إن هي لم تتخلى عن الحجاب ..
ولم تنجح محاولات والديه وأختيه في ثنية عن هذا خيار .
وضاقت الدنيا بمؤنسة ..
ولم تجد وهي الغريبة عن وطنها من خيار إلا الاتصال بصفية لطلب مساعدتها في مواجهة محنتها ..
حيث توشك سفينتها على الغرق في بحر الخلاف الهائج ..
فهي غير قادرة بمفردها على مواجهة المحنة ..
فقررت الاتصال بها سرا لتتشاور معها بشأن علاقتها مع زوجها ماهر وتتدارس معها الخيارات المناسبة ..
فليس لها خيار غير ذلك .
وفعلا اتصلت بها ..
وبعد التدارس معها لمحنتها ..
نصحتها صفية بالالتقاء مع الحاج محمود في سبيل إرشادها إلى ما ينبغي عليها عمله ..
فوافقت مؤنسة على الاقتراح بعد أن حدثتها صفية عن الحاج محمود وسجاياه وثقافته وخبراته في الحياة ..
وتم ترتيب اللقاء في بيت صديقة ثالثة .
وفي اللقاء شرحت مؤنسة للحاج محمود حالتها ..
منذ تعرفت على ماهر في تونس ..
ودافعهما للزواج من بعضهما ..
فكان منها الجمال واللباقة والذوق ..
ومنه المال والجاه والثروة ..
وكيف بنيت بينهما مشاعر الحب الصادق بعد الزواج ..
وتوثقت عرى المحبة بينها وبين عائلة ماهر ..
ثم حضورها الدروس الإسلامية ومجالس الذكر مع صفية ..
واتخاذها قرار ارتداء الحجاب ..
مما أدى إلى تدهور علاقتها مع ماهر ..
وتدهور علاقة ماهر مع صفية وفائق ..
وفرضه عليها قطع علاقتها معهما ..
واضطرارها للاتصال بصفية في سبيل مواجهة محنتها .
وشرحت مؤنسة للحاج محمود الخلفية الفكرية والنفسية لماهر ..
التي تسببت بحسب تقديرها في خلق المشكلة ..
وبينت له إصرارها على التمسك بالحجاب ..
والالتزام الكامل بالدين ..
مهما كان الثمن ..
وإن كان الثمن هو الانفصال عن ماهر ..
رغم أنه ثمن باهض جدا بالنسبة إليها ..
من الناحية المادية والقلبية .
فمحبة الله عز وجل وطاعته أولى عندها من كل شيء ..
وأنه من المستحيل لديها أن تؤثر محبة مخلوق على محبة الخالق ..
أو تؤثر الدنيا على الآخرة ..
فإن الله جل جلاله هو صاحب نعتمها الأول والأخير ..
ومن بيده الأمر والنهي كله ..
وإليه مصير العباد ..
وأن الدنيا دار فناء ..
والآخرة دار بقاء .
وبعد أن تعرف الحاج محمود على محنة مؤنسة مع زوجها ..
وموقفها الإيماني الشفاف والصادق ..
أكد لها : بأن ليس لها من الناحية الشرعية أن تستجيب لزوجها بخلع الحجاب ..
فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
وبين لها تفوق القيم الروحية على القيم المادية ..
وتقدم الملكات الأخلاقية والروحية الجميلة على جميع المكاسب المادية ..
مهما عظمت تلك المكاسب ..
وأن قيمة الإنسان تتجلي فيما يتحلى به من القيم الروحية والأخلاقية ..
وليس فيما يملكه من المال والثروة والجاه والسلطة ..
فالمال والثروة والجاه والسلطة غير متصلة بالحالة الوجودية للإنسان ..
فهو ينفصل عنها ويفارقها بعد الموت ..
وتزول بزوال الدنيا ..
وتنتهي إلى الخراب والتراب ..
وتلاحقه آثار عمله فيها خيرا أو شرا ..
وعاقبتها إلى الخسران والندامة إذا لم تكن محكومة بالقيم الروحية والأخلاقية الجميلة وأحكام الدين الحنيف .
أما القيم الروحية والأخلاقية فيتصل وجودها بوجود الإنسان ..
فتزيد القيم الروحية والأخلاقية الجميلة في قيمته ..
وترفع مكانته الوجودية في الحياة ..
ولا تفارقه في الدنيا والآخرة ..
فهي باقية ببقاء الآخرة ..
وعاقبتها إلى الجنة .
أما القيم الروحية والأخلاقية السيئة ..
مثل : النفاق ، والحسد ، والبخل ، وغيرها ..
فتنقص من قيمة الإنسان ..
وتدخله النار خالدا فيها .
فقالت مؤنسة : أشكرك يا حاج محمود على هذه التحف النورانية والإرشادات الروحية والأخلاقية ..
ولدي سؤال إن سمحت ..
فقال الحاج محمود : تفضلي ..
فقالت : ما هو الفرق بين اللذة والسعادة ؟
فقال : هناك من يجعل من اللذات الحسية غايته القصوى ..
والحقيقة : أن الخير الأقصى هو في السعادة وليس في اللذات الحسية ..
فاللذات الحسية سريعة الزوال ..
فلا تكاد تبدأ حتى تنتهي ..
فهي للحظات قليلة ..
متاع قليل ..
ثم تزول .
وكثيرا ما تخلف وراءها مشاعر أليمة ..
وكثيرا ما تكون نتائجها وخيمة في الحياة ..
كما هو الحال في نتائج الزنا وشرب الخمر ..
فضلا عن تأثيراتها السلبية على الروح ..
وعواقبها السيئة في الآخرة .
قال الله تعالى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } ( آل عمران : 196 ـ 197 ) .
فليس مع الاستسلام للشهوات واللذات الحسية استقرار نفسي أو روحي ..
فطالبها لا يزال متألما فيما يجده منها ..
نهما لا يشبع منها ولا يرتوي ..
فهو دائما يطلب المزيد ..
ويطلب مع كل تجربة ما فوقها ..
لأنها ناقصة دائما ..
ودون المستوى الذي يطمح إليه من اللذة ..
ولن يصل إلى ما يطمح إليه في أية تجربة من التجارب ..
لأن اللذات الحسية محدودة وجزئية ..
فلا يزال طالب اللذات الحسية :
متقلبا مع كل تجربة بين الألم والحسرة .
أما السعادة : فهي حالة نفسية ثابتة ..
وتستوعب كيان الإنسان كله ..
وتتمثل في الأعمال الصالحة ..
التي تربي النفس الإنسانية التربية المناسبة لسنختها ..
بحسب واقع الأمر وحقيقة الوجود ..
ويتحقق من خلالها كمال الإنسان وغاية وجوده .
فالإنسان يشعر بالسعادة مادام يعتقد بأنه يسير في هذا الطريق ..
بمقدار ما يحصل عليه من النتائج في سعيه ..
وبغض النظر عن الحالات التي يمر بها .
فقد يشعر الإنسان بالسعادة وهو في الفقر كما يشعر بها وهو في الغنى ..
وقد يشعر بها وهو في المرض كما يشعر بها وهو في الصحة ..
وقد يشعر بها وهو في العسر كما يشعر بها وهو في اليسر ..
وقد يشعر الفقير بالسعادة وهو يعيش في كوخ صغير ..
أكثر مما يشعر به الملوك من السعادة وهم يعيشون البذخ في القصور الفارعة ..
وربما يشعر الإنسان بالسعادة وهو مقيد بالأغلال في السجون ..
أكثر مما يشعر بها آخرون وهم يسرحون ويمرحون في طول الأرض وعرضها .
فالسعادة من الشوق نحو ما تصبوا إليه النفس من الكمال ..
وليست فيما تحصل عليه النفس من اللذات الحسية الزائلة المشوبة بالألم والحسرة ..
فالسعادة يا مؤنسة : رحلة وليست محطة من محطات الحياة .
وأعلمي يا مؤنسة : بأن في وسع كل إنسان أن يحصل على السعادة في الحياة الدنيا والآخرة بمقدار جده واجتهاده من أجلها ..
وبمقدار ما في قلبه من الصدق والإخلاص في تحصيلها ..
وليس بوسعه أن يحصل على كل لذة يرغب فيها مهما بذل من جهود .
وأعلمي : أن السعادة لا يمكن أن تتحقق بدون اطمئنان ..
وأنه لا اطمئنان بدون إيمان ..
والنتيجة : لا سعادة بدون إيمان ..
فالإيمان هو الطريق الوحيد للسعادة الحقيقية للإنسان .
وأعلمي : أن في السعادة تضمحل الأنانية ويرجح الإيثار ..
وترجح المصالح العامة على المصالح الخاصة ..
وترجح القيم الروحية والمعنوية على القيم والمصالح المادية .
وأعلمي : بأن هناك نوعا من اللذات يصح تسميتها باللذات العليا
أو اللذات الإنسانية الرفيعة ..
مثل اللذات المتولدة من النشاطات الفكري ، والعبادات الروحية ، والتجارب الجمالية ..
وهي لذات عظيمة تتقدم في قيمتها وآثارها المريحة في النفس على جميع اللذات الحسية ..
ولهذا يضحي أصحابها من أجلها ..
ليس باللذات الحسية فحسب ..
وإنما بالنفس والنفيس من المال والبنون ..
لتحلق أرواحهم في عالم الملكوت الأعلى ..
ثم ترتفع طاهرة بعد الموت إلى أعلى الفردوس في الجنة .
وأعلمي : بأن هذه اللذات ..
ترفع من الروح المعنوية للإنسان ..
وتقوي من عزمه وإرادته ومواقفه في الحياة ..
فيعش عزيزا شامخا في الحياة كالجبال ..
بينما تهوي الشهوات والاستسلام للذات الحسية بالإنسان إلى الحضيض الأسفل ..
وتهدد كرامته ..
وتقضي على إرادته ..
فيفقد الإنسان القدرة على المقاومة ..
ويصبح ضحية لدكتاتورية الغريزة والشهوات ..
ويعيش في الحياة ذليلا مهانا كالتراب يطأه الناس بالأقدام .
قال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” طاعة الشهوة داء ، وعصيانها دواء “
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ” ركب الله الملائكة من عقل بلا شهوة ، وركب البهائم من شهوة بلا عقل ، وركب ابن آدم من كليهما ، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ، ومن غلبت شهوته على عقله فهو شر من البهائم ” .
وأعلمي أن السعادة الحقيقية الكاملة ..
سوف يحصل عليها المؤمنون في الجنة ..
في دار القرب والرضوان .
فقالت مؤنسة :
أشكرك يا حاج محمود كثيرا على هذا التنوير الفكري والروحي والأخلاقي ..
وأعتقد أني قد استفدت كثيرا من هذا الجانب ..
ولكن بما تنصحني في قضيتي مع زوجي ماهر ؟
فقال الحاج محمود : أنصحك بأن تطلبي من ماهر بأن يسمح لك بالسفر إلى تونس ..
وذلك في سبيل إعطاء فرصة للتفكير الهادىء لكل منكما بعيدا عن التوتر والمشادة ..
وأن تكون هناك فسحة من الوقت ( من 3 إلى 6 : شهور ) يراجع كل منكما نفسه قبل قرار الانفصال .
وأن تحرصي كل الحرص على إظهار حبك العميق والأكيد لماهر كما هو الواقع ..
وأن تشرحي له بأنك لا تريدين بلبسك الحجاب النيل من رجولته ..
أو الحد من سلطته عليك ..
وإنما ذلك لأنك لا تملكين من الله عز وجل الحق في خلع الحجاب استجابة له ..
وأن حق الله عليك كرب ..
فوق حق ماهر عليك كزوج .
وأن تؤكدي لماهر : بأنه مهما كان خياره ..
فإنك سوف تبقي وفية له ومخلصة ..
لأنه أحسن إليك فيما مضى ..
ولأن عرى المحبة قد توثقت بينك وبين عائلته ..
ولأن الله عز وجل قد أنبت في بطنك جنيا له .
واطلبي منه بحق الجنين الذي في بطنك ..
أن يفكر بموضوعية ..
وأن يحرص على حسن الاختيار ..
بعيدا عن الانفعال .
ثم سألت مؤنسة الحاج محمود : كيف تتصرف مع عائلتها إذا سافرت إلى تونس ..
فعائلتها لا تعلم شيئا عما جرى بينها وبين ماهر ؟
فقال الحاج محمود : أنصحك بأن تكوني صريحة وواضحة مع عائلتك ..
وتشرحي لهم الموضوع كما هو ..
ولتكن ثقتك بالله عز وجل ..
وتوكلك عليه .
ولما عرضت مؤنسة اقتراح الفسحة الزمنية على ماهر قبلها ..
وقد شعر هو أيضا بالحاجة إليها ..
ولم يسألها عن مصدر الفكرة .
وقبل السفر إلى تونس ..
التقت مؤنسة بالحاج محمود مجدد ..
فنصحها بأن تتصل بماهر من تونس يوميا ..
وتؤكد له في كل اتصال ما قاله لها بحقه ..
وأن تستعين بالدعاء ..
ونصحها بالمواظبة على دعاء التوسل ..
وأدعية أخرى .
وقال لها : أعلمي يا مؤنسة ..
بأن الله جل جلاله إذا علم منك الإخلاص فلن يخذلك ..
وسوف يختار لك ما فيه خيرك وسعادتك في الدنيا والآخرة ..
فتوكلي عليه وثقي به كثيرا ..
وقرأ لها قول الله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } ( الطلاق : 2 ـ 3 ) .
وأوصاها بالصبر ..
ودع لها بالتوفيق وحسن العاقبة .
وفي ليلة سفر مؤنسة ..
قامت زليخة وبهية بزيارة مؤنسة في بيتها ..
وكانتا في غاية الأسف والحزن لما انتهى إليه أمر ماهر مع مؤنسة ..
وفي غاية التعاطف معها ..
وأمنيتهما بأن تصلح الأمور وتعود العلاقة بين مؤنسة وماهر لسابق عهدها .
قالت زليخة لمؤنسة :
أنت في الأصل تزوجتي ماهر من أجل دنياه وماله ..
وعلى هذا الأساس قبلتي بخيار الغربة عن الوطن ..
ولكنك بعد الزواج أحببتي ماهر حبا صادقا ..
وكنت شديدة الإخلاص له ..
وهذا ما لمسناه منك نحن أفراد العائلة ..
وقدرناه لك .
ويوم تزوجتي بماهر ..
لم تكن لك أية توجهات دينية ..
ولو كانت لك هذه التوجهات ..
لما حصل زواجك من ماهر قطعا ..
ولم يكن حصول ذلك في حسابك أو في حساب ماهر أو في حسابنا نحن أفراد عائلته ..
لقد كان هذا خيارك في الأسابيع القليلة الماضية ..
ولكنا وجدنا أنه خيار عن قناعة راسخة ويقين ..
ولم يكن من أجل مصلحة ..
أم مجرد رغبة ..
أو نتيجة للوقوع تحت تأثير مؤقت لأحد الأشخاص ..
فأنت تضحين من أجل قناعتك بحياة رغيدة وفرها لك ماهر ..
وهي حياة لم تكون تحلمين بها قبل الزواج منه ..
ولا تحلمين بها بعد الانفصال عنه .
إنني يا مؤنسة ..
أجد فيك الصدق والإخلاص ..
أولا : من خلال حبك الصادق لماهر بعد الزواج ..
ولم يكن زواجك منه في الأصل إلا من أجل الدنيا والمال ..
وثانيا : تضحيتك بكل ما وفره لك ماهر من النعيم ..
من أجل قناعتك بالحجاب والالتزام الكامل بالدين ..
وأنا أتمنى من كل قلبي أن تصلح الأمور بينك وبين ماهر ..
وتعودا كما كنتما قبل هذه الأزمة .
قالت مؤنسة :
قال الله تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ( التحريم : 11 ) .
ليس ماهر كفرعون يا مؤنسة ..
ولكن امرأته آسية بنت مزاحم ..
كانت سيدة مصر الأولى ..
فلما آمنت بدعوة نبي الله موسى ( عليه السلام ) عن يقين ..
وكانت تعرفه كل المعرفة ..
فقد تربى في حضنها الشريف ..
باعت الدنيا بالآخرة ..
ولم تبع الآخرة بالدنيا كما يفعل الكثير من الناس ..
فضحت بالدنيا التي كانت بين يديها من أجل ربها ودينها ..
ومارست المعارضة لزوجها فرعون ( ملك مصر ) إلى درجة الشهادة هي وبناتها ..
فأين أنا يا زليخة من هذه المرأة العظيمة التي ضرب الله عز وجل لنا بها مثلا في القرآن الكريم ؟!
وأنا أؤكد لك يا زليخة :
بأني شديدة الحب لماهر ..
ويحزنني فراقه ..
ولكن الله عز وجل أولى عندي من كل أحد ..
وهو حسبي وكفيلي ..
فهو يتولي الصالحين .
وأنا يا زليخة ..
قابلة برضى الله عز وجل وخيرته لي ..
ويقيني بأنه لن يخذلني ..
وأنه سوف يختار لي ما فيه خيري وسعادتي في الدنيا والآخرة .
وأعلمي أن فرصة بقائي مع ماهر لا تزال قائمة .
طبعا : أنا لن أتراجع عن خيار الحجاب والدين ..
ليس تعصبا ..
فلست من أصحاب العصبية ..
فأنت تعلمين حجم الخسارة المادية والمعنوية بالنسبة لي لفراق ماهر ..
ولكن تمسكي بالحجاب والدين ..
إنما هو من أجل الحق ..
ووقوفا عند طاعة المولى عز وجل ..
فحبه وطاعته أولى يا زليخة .
وإني لأرجوا أن يثيب ماهر إلى رشده ..
وأن يحسن الخيار ..
فإن كان فهو خير ..
وألا فما هو عند الله خير وأبقى .
ثم قالت : ” يا من تغشى لباس النور الساطع الذي استضاء به أهل سماواته ، ويا من خزن رؤيته عن كل من هو دونه وكذلك ينبغي لوجهه الذي عنت وجوه الملائكة المقربين له ، إن الذي كنت لك فيه من عظمتك جاحدة أشد من كل نفاق ، فأغفر لي جحودي فإني أتيتك تائبة ، وها أنذا أعترف لك على نفسي بالفرية عليك ، فإذا أمهلتني في الكفر بنعمتك ثم خلصتني منه ، فطوقني حب الإيمان الذي أطلبه منك ، بحق ما لك من الأسماء التي منعت من دونك علمها لعظم شأنها ، وشدة جلالها ، وبالاسم الواحد الذي لا يبلغ أحد صفة كنهه ، وبحقها كلها أجرني أن أعود إلى ما كنت فيه ، سبحانك لا إله إلا أنت غفرانك إني كنت من الظالمين ” .
فقالت بهية :
أنا أغبطك يا مؤنسة على هذا الصدق واليقين ..
فلم يدفعك إلى كل هذه التضحية غير إيمانك الراسخ ويقينك وثقتك بالله عز وجل ..
وأتعجب من نفسي الآن وأسألها ..
أنت تقدمين كل هذه التضحية من أجل دينك ..
ونحن والحمد لله في عافية ..
ولن نضحي بأي شيء فيما إذا التزمنا بالدين والحجاب ..
فما الذي يمنعنا بحق السماء من ذلك ؟!
غير أتباع هوى النفس والشيطان .
وفي تلك الليلة ..
بقيت زليخة وبهية مع مؤنسة إلى وقت متأخر جدا من الليل ..
وفي نهاية اللقاء ..
أحسنتا وداعها ..
وأغدقتا عليها بالكثير من المال والهدايا النفيسة ..
وقد وعداها ..
بالتواصل المستمر معها ..
وأنهن سوف يبذلان جهودهن مع ماهر في سبيل إقناعه بالعدول عن خيار الانفصال ..
وأكدتا لها : بأن هذا هو موقف الوالدين ..
وأنهما ـ كما تعلم مؤنسة ـ حزينين كثيرا للذي حصل لها مع ماهر ..
فهما كثيرا الحب والتعلق والإعجاب بها ..
وأنهما قطعا سوف يحاولا مع ماهر لكي يعدل عن خيار الانفصال .
وقد خرجت زليخة وبهية من عند مؤنسة ..
وقد اتخذتا قرارا نهائيا بارتداء الحجاب ..
والالتزام الكامل بالدين ..
وقالتا لمؤنسة :
الفضل في ذلك بعد الله عز وجل يعود لك ..
فلك منا الشكر الجزيل على هذه الهدية الروحية العظيمة .
وسافرت مؤنسة إلى تونس ..
وفي تونس ..
أخذت بجميع نصائح وتوصيات الحاج محمود ..
وكانت تتصل به لإطلاعه على المستجدات ..
وكلما دعت الحاجة .
وقد تفهمت عائلتها موقفها ..
وتأثرت بروحها الإيمانية الصافية ..
وشجعتها على العمل بنصائح الحاج محمود ..
ومن الثمار الطيبة التي تركتها مؤنسة في عائلتها ..
ارتداء زوجتي أخويها : عماد ونعمة الحجاب ..
وكانت مؤنسة في غاية السعادة والفرح الروحي لهذا الانجاز العائلي .
وبعد شهرين من بقاء مؤنسة في تونس ..
طلب منها ماهر العودة من جديد إلى البحرين ..
فعادت مؤنسة ..
معززة مكرمة ظافرة بالدين والدنيا ..
وقد أقرها ماهر على خيارها ..
كيف لا وهو يرى أختيه : زليخة وبهية قد لبستا الحجاب ..
وأصبح لهن التزام كامل بالدين ..
وكان لهن مع والديه ..
دور فاعل في إقناعه بالعودة إلى مؤنسة ..
والعدول عن قرار الانفصال ..
بالإضافة إلى حبه الصادق لمؤنسة ..
وتعلقه الكبير بها ..
بسبب صدقها وإخلاصها وسلوكها الشفاف معه ..
ووقوفها ومساندتها له في أعماله ..
وفضلها الكبير في نجاح الكثير من مشاريعه الكبيرة والنوعية ..
ثم الجنين الذي في بطنها .
فالمنفعة التي تربطه معها : مادية وقلبية ..
بنيت على أساس الصدق والإخلاص من جانبها .
وهكذا كشف الله جل جلاله غمتها ..
وفرج كربتها ..
وعادت مؤنسة إلى عشها الزوجي ..
وهي في عافية في أمور الدين والدنيا ..
وذلك بفضل توكلها على الله عز وجل ..
وثقتها به ..
وبفضل صدقها وإخلاصها ..
وبفضل حكمتها وحسن تصرفها في إدارة الأزمة ..
واستشارتها للمؤمنين .
إلا أن ماهر قد فرض عليها بعد عودتها من تونس ..
عدم الاتصال بصفية ..
وأطاعته في ذلك ..
إلا أنها لم تنسى فضل صفية عليها ..
فسعت بكل إخلاص وجد ..
إلى تغيير رأي ماهر في هذا الموضوع ..
ٍونجحت في تحقيق ما أرادت من الخير بعد ثلاثة شهور ..
فعادت العلاقة بين مؤنسة وصفية ..
وعادت العلاقة بين ماهر وصديق طفولته فائق إلى أفضل مما كانت ..
واتسعت دائرة الصداقة بين العائلتين لتشمل زليخة وبهية ..
واتسعت دائرة الالتزام لدى ماهر ..
وإن بقيت في دينه بعض الخدوش الطفيفة .
ومن جهة ثانية : لم يطول مقام صفية وفائق في البحرين بعد عودة مؤنسة من تونس ..
فقد فرضت عليهما الأوضاع السياسية والأمنية الهجرة من البحرين ..
ولكن القلوب بقيت مع بعضها ..
والتواصل عبر الهاتف لا ينقطع ..
ويكون بين العائلتين لقاءات في الخارج بين حين وآخر ..
والحمد لله على نعمة الهداية والإيمان والتوفيق في الدين والدنيا .
عبد الوهاب حسين
5 شوال 1428 هـ
17 أكتوبر 2007م