خشوع الجبل

في بداية فصل الربيع ..
في شهر مارس من العام الميلادي ..
بعد أن أدى صلاة الفجر في المسجد ..
وأنهى تعقيبات الفجر وتلاوة القرآن في البيت ..
وعند أول اشراقة الشمس ..
وهي ترسل بأشعتها الذهبية سلاما على الدنيا ..
وقد بدأت الطيور بالخروج من أعشاشها ..
وأخذت تزغرد ..
وهي تتنقل بين أغصان الأشجار ..
وتلقي بتحية الصباح على جيرانها ..
صباح جديد ..
ويوم سعيد ..

( أستجير بالله من الظلم والعدوان ، ومن غير الزمان ، وتواتر الأحزان ، ومن طوارق الحدثان ، ومن انقضاء المدة قبل التأهب والعدة . وأعوذ بالله تعالى من كل جبار فاجر ، وسلطان جائر ، وعدو قاهر . وأعوذ به من يوم أوله فزع ، وأوسطه جزع ، وآخره وجع . وأرغب إليه في لباس العافية وتمامها ، وشمول السلامة ودوامها . اللهم فكما أبقيتني له فأبقني لأمثاله ، وصل على النبي محمد وآله ، ولا تفجعني فيه وفي غيره من الليالي والأيام ، بارتكاب المحارم ، واكتساب المآثم ، وارزقني خيره وخير ما فيه وخير ما بعده ، واصرف عني شره وشر ما فيه وشر ما بعده ) .
في هذا اليوم :
جلس الحاج صابر كعادته في كل يوم ..
على كرسيه إلى جانب طاولة في حديقة المنزل ..
وهي حديقة واسعة ..
تضم أنواعا كثيرة من الأشجار والأزهار ..
واستغرق في أفضل العبادات ..
التفكير .
وبعد نصف ساعة تقريبا ..
جاءته زوجته الحاجة معصومة ..
أم صفي الدين ..
وهي تحمل مائدة الإفطار ..
ألقت التحية عليه بكل الحب والاحترام ..
ووضعت المائدة على الطاولة ..
وطبعت قبلتين ناعمتين على خديه : الأيمن والأيسر ..
وقابلها بالمثل ..
{ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان }
وجلست على الكرسي الآخر ..
إلى جانبه ..
وصبت كوبين من الشاي ..
ومزجتهما بالحليب ..
وأخذت في تهيأت الطعام ..
وكانت تنظر إلى وجهه بين الفينة والأخرى ..
وكأنها تنظر في مرآة عشقتها من الأزل ..
تريد أن تحدس موضوع تفكيره ..
وكانت تقول في نفسها :
لو كان غيره ..
لكان من السهل علي جدا أن أعرف فيما يفكر ..
فالحدث ساخن ..
ومهم جدا ..
ويخص أقرب الناس إليه ..
وهو ابنه ..
أما هو فيصعب علي ذلك ..
فبحره عميق ..
وسره كبير .
ثم قالت في نفسها :
ربما يفكر في ولده صفي الدين ..
وربما يفكر في باري النسمات ..
وربما يفكر في مخلوقات ربه ..
فقد أدمن القراءة في كتاب التكوين ..
كما أدمن القراءة في الكتاب المنزل ..
وكتب الأدعية والمناجاة ..
وكتب العلماء الربانيين ..
وكتب علماء الطبيعة ..
وغيرهم .
وربما يفكر في هموم الناس ..
الذين ارتبط بهم وارتبطوا به ..
ارتباط وجود ومصير ..
وقدم التضحيات الجسام من أجلهم ..
وخدمة لقضاياهم الحيوية ..
قربة لله تعالى ..
لا يريد منهم جزاءا ولا شكورا .
وربما يفكر في شيء آخر ..
لا أعلم ..
كل ذلك ممكن في حقه .
وتذكرت قول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في وصف المتقين :
” نزلت منهم أنفسهم في البلاء كالذي نزلت منهم في الرخاء رضى بالقضاء . لولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقا إلى الثواب وخوفا من العقاب . عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم . فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون . قلوبهم محزونـة ، وشرورهم مأمونـة ، وأجسادهم نحيفـة ، وحاجاتهم خفيفـة ، وأنفسهم عفيفـة ، ومعونتهم للإسلام عظيمة ” .
وبعد أن هيأت الطعام ..
دعته لتناول الفطور ..
قائلة :
تفضل أبا صفي الدين ..
فقال لها شكرا معصومة ..
وأخذ في تناول فطوره ..
ولم تكلمه بشيء عن صفي الدين أثناء تناول الفطور ..
وأكثرت وهي تقدم له فطوره ..
من الكلمات المفعمة بالحب والاحترام والتقدير ..
التي تعودت على الكلام معه بمثلها في كل يوم ..
وهو يقابلها بالمثل ..
وأحسن ..
وقد أرادت بذلك أن تعزز لديه حالة الاطمئنان ..
وأن لا تنغص عليه فطوره .
وبعد أن أنهى فطوره ..
قالت له :
ماذا تنوي أن تفعل من أجل ابننا صفي الدين ؟
فقال لها :
الحمد لله على صبرك يا معصومة ..
وألهمك الله الصبر والسلوان ..
وأجزل لك الثواب .
فقالت :
لست أصبر منك ..
والصبر مدرستك وأنت أستاذها ..
ولولاك لما استطعت الصبر والمقاومة .
فقال :
وأنت روحها ومناخها ..
لولا فضل الله عز وجل علينا ..
ولولاك يا معصومة ..
لما استطعنا نحن جميعا ..
الصبر والصمود في خضم هذه المحن ..
نسأل الله سبحانه وتعالى ..
اللطف والعافية وحسن العاقبة ..
فقالت :
اللهم آمين .
ثم قال :
لم أترك يا معصومة ..
مخفرا ..
ولا مركزا للشرطة لم أسأله ..
ولم أصل معهم إلى نتيجة ..
ولكني علمت من مصدر خاص ..
أكد لي بصورة قاطعة ..
بأن صفي الدين موجود في إدارة المباحث .
وقال :
لا تخافي عليه يا معصومة ..
فهو نعم الشاب المؤمن الصابر .
قالت :
أنا غير خائفة عليه من هذه الناحية ..
فجزاك الله خيرا إذ أحسنت تعليمه وتربيته ..
فهو يحمل إيمانك وإخلاصك وصبرك ..
وهو معدن أصيل كمعدنك .
ألم تعتقل أنت يا حاج صابر لعشر سنوات متتالية ..
وتعرضت لشتى صنوف التعذيب ..
فصبرت واحتسبت ..
حتى فرج الله عنك وأنت بعللك وأمراضك ..
وأنت صابر محتسب ..
ولم أسمع منك إلا خيرا .
فقال :
علما تخافين إذن ؟
فقالت :
الحق يا حاج صابر أنه ابنك ..
وأنهم سوف يصبون حقدهم ..
وجام غضبهم عليك فيه ..
وسوف يسعون لينالوا منه ..
ما لم يستطيعوا نيله منك ..
وهو ليس أنت ..
وأنه والله لن يعطيهم إعطاء الذليل ..
ولن يفر منهم فرار العبيد ..
مما يجعل حياته تحت أيديهم الملوثة بدماء الأبرياء في خطر .
كان هذا عين تشخيص الحاج صابر ..
إلا أنه لم يظهره لأم صفي الدين ..
لكي لا يزيد في خوفها على ابنها ..
فهي أم ..
وصفي الدين ابنها البكر ..
ولكنه يعلم ..
وتأكد له بما لا شك فيه ..
بأن معرفتها بصفي الدين ..
والأخطار المحدقة به ..
لا تقل عن معرفته ..
وأن تجلدها ..
ليس لجهلها بالخطر الجدي المحدق بابنها ..
وإنما لإيمانها بالله عز وجل ..
ولثقتها به جل جلاله ..
ولإيمانها بالقضية التي يحملها صفي الدين ..
والحاجة الأكيدة للتضحية من أجل الدين والوطن ..
وأن عائلة الحاج صابر ..
ينبغي أن تكون في أول الركب ..
وفي مقدمة المضحين ..
حيث أصبح الخطر المحدق بالدين ..
وبوجود المؤمنين ومصالحهم ..
أكبر من أن يسكت عنه ..
والساكت عن الحق في عقيدة المؤمنين :
شيطان أخرس .
لقد أصبحت التضحية بالنفس والنفيس ..
مطلوبة ..
بل واجبة ..
وليس أدل على ذلك ..
من إجماع الرموز والقيادات : الدينية والسياسية ..
على الرفض والمقاومة .
ومع ذلك ..
قال لها :
من أجل طمأنتها والتخفيف عليها ..
ليس لهذا الحد يا معصومة !!
أنا لا أقول لك بأنه لن يتعرض إلى الأذى ..
فهذا غير معقول في ظل هذا النظام الجائر ..
ولكن الزمان تغير هذه الأيام عن ذي قبل ..
فمؤسسات حقوق الإنسان ..
والمؤسسات الدولية ..
تراقب الوضع ..
وتحاسب السلطة ..
ووسائل الإعلام تنقل إلى العالم أولا بأول ..
كل صغيرة وكبيرة ..
وصفي الدين والحمد لله :
مؤمن قوي البنية ..
شديد المراس ..
وأعتقد بأنه سوف يصبر ويتحمل ..
وسوف يعود إليك إن شاء الله تعالى ..
عما قريب ..
سالما غانما .
فقالت أم صفي الدين :
أسأل الله عز وجل له الحفظ والسلامة والعافية ..
ولكن قلبي غير مطمئن يا حاج صابر ..
قلبي غير مطمئن ..
أنا خائفة عليه يا حاج صابر .
لقد اعتقلت أنت لعشر سنوات متتالية ..
وأنا صبرت واحتسبت إلى الله عز وجل ..
ولم اهتز ..
أما اليوم ..
فالحالة تختلف ..
لا تقل إنها هواجس الشيطان ..
ولا تقل أنا أم ..
والولد غير الزوج ..
لا تقل شيء من ذلك ..
ولا مثله ..
نعم أنا أم ..
وقلب الأم مرآة الحدث ..
والقول ما قلته لك يا حاج صابر !!
لقد رأيت ذئابا من بلوشستان ..
ومن دير الزور ..
ومن عدن وعمان ..
ومن شتى بقاع الأرض ..
قد احتوشته من كل جانب ..
وهي تنهش في جسده بدون رحمه ..
وتشرب من دمه ..
وتغني طربا ..
وهو ينادي :
لا إله إلا الله ..
محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ..
الأمر لله ..
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
قل لي يا حاج صابر :
ماذا يعني شراء السلطة لكل هؤلاء المرتزقة المتوحشين ..
من شتى بقاع الأرض ؟
وتشكيلها للمليشيات المدنية المسلحة ..
وإطلاق أيديهم على الناس ..
ألا يعني بأن للسلطة ..
إرادة القتل للناس ..
مع سبق الإصرار والترصد ؟!
وقد مهد رأس السلطة لذلك ..
بزعمه : أنه يمارس الجرائم ضد المواطنين ..
من أجل المنطقة والعالم ..
ولم يستنكر عليه ذلك ..
أحد من زعماء المنطقة والعالم .
تمالك الحاج صابر أمام كلام زوجته الذي يهد الجبال ..
إلا أنه لم يسع للاستمرار في نفس أسلوبه السابق لطمأنتها ..
لأن قراءته لا تختلف عن قراءتها ..
ولأنه يعلم :
بأن أم صفي الدين ..
ليست بالمرأة البسيطة ..
التي يمكن أن تمرر عليها الأشياء بسهولة ..
فقال لها :
عند الله نحتسبه يا معصومة ..
وأسأل الله له السلامة والعافية في الدين والدنيا ..
وسوف أقوم بما أستطيع القيام به من أجله :
سوف أذهب للمحامي ..
وللجهات الحقوقية والسياسية ..
ولن ألجأ لغير الطرق الحقوقية والقانونية مهما كان الثمن .
اغرورقت عيناها بالدموع ..
ونشفتها بمناديل ورقية كانت في جيبها ..
وقالت :
أسأل الله عز وجل له الحفظ والسلامة والعافية ..
وأنا لا أطلب منك أن تذل نفسك يا حاج صابر ..
أو تميع القضية من أجله ..
ولا أرضى بذلك ..
مهما كان الثمن ..
ولكن لا تقصر في الوقوف إلى جانبه ..
بما لديك من الوسائل الواقعية المشروعة ..
وبما يلهمك الله عز وجل من الرأي ..
وقبل ذلك وبعده : بالدعاء ..
بالدعاء يا حاج صابر .
وأنا واثقة بالله عز وجل ..
وراضية بقضائه وقدره ..
ومسلمة لأمره ..
وأنا غير آسفة على شيء قدمته فيما مضى ..
ولن أتردد في تقديم أعز ما أملك فيما هو آت ..
من أجل ديني ووطني ..
والله الذي يتولى المؤمنين ..
هو حسبي ونعم الوكيل .
أما صفي الدين :
الذي اعتقل مع عدد من الشباب ..
أثناء مشاركتهم في احدي المسيرات السلمية ..
احتجاجا على الانقلاب الدستوري ..
والتجنيس السياسي الممنهج ..
والتطهير الطائفي ..
والبطالة ..
وانتهاكات حقوق الإنسان ..
فقد أشبع ضربا وركلا في مكان الاعتقال ..
على يد المليشيات المدنية الحكومية المسلحة ..
وأصيب بجروح بليغة ..
ورضوض وكسور ..
في أماكن مختلفة من جسمه ..
ثم نقل إلى أحد المخافر ..
على أسوء حال ..
ومن المخفر ..
نقل إلى إدارة المباحث ..
ذات السجل الحافل بالانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان ..
وهناك تم التحقيق معه لمدة ثلاثة أيام ..
بأعنف الأساليب ..
وأكثرها قسوة ووحشية ..
ولم تراع حالته الصحية ..
فهو يوم الثأر الأسود ..
ويوم الملحمة ..
فتدهورت حالته الصحية أكثر ..
ونقل إلى مستشفى الداخلية للعلاج ..
ولم ينقل إلى غيره من المستشفيات ..
رغم خطورة وضعه الصحي ..
لكي لا يفتضح الأمر ..
وهناك حدثت الخاتمة ..
حيث لفظ أنفاسه الأخيرة ..
وصعدت روحة الطاهرة إلى عليين ..
مع النبيين ..
والصديقين ..
والشهداء ..
والصالحين ..
وحسن أولئك رفيقا .
فاستدعي والده إلى إدارة المباحث ..
ومنها أخذ إلى المشرحة ..
وكشف له عن وجه صفي الدين ..
وسؤل :
أتعرف هذا ؟
فقال :
نعم أعرفه ..
إنه ولدي صفي الدين ..
ثم خشع الجبل الشامخ وقال :
” اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك . لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك ” .

عبد الوهاب حسين

11 ذو الحجة 1428 هـ

22 ديسمبر – كانون الأول 2007م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى