الشهيد في فكر أستاذ البصيرة

اختصرَ الأستاذ عبدالوهاب حسين علاقته بالشّهداء حينما قال بأنه «مأسور بهم». سجّل الأستاذ هذه العبارة وهو داخل سجنه الحالي عندما كتبَ مقدّمة كتابه «الشهادة: رحلة العشق الإلهي» في نوفمبر 2012م. قال الأستاذ ما نصّه «إني مأسور في نفسي وقلبي وضميري لخلود الشهداء وفضلهم وحبّي الجمّ لهم». تمثّل هذه العبارة – ومن دلالات اختراقها لقضبان الأسْر – تصويراً روحيّاً لهذه العلاقة «الإنتاجيّة» مع الشهداء، والتي أكّد عليها أستاذ البصيرةِ في مناسباتٍ مختلفة، وفي أكثر من محطّة، وهو تعلّقٌ جسّده الأستاذ بما كان يُعلنه، في أكثر من موقعٍ، من أنّه «وطّنَ نفسه شخصيّاً على الشّهادة»، وجعلها عنواناً للمسار العام لحياته الخاصّة والعامة.

لا تمثّل الشهادة، في فكر الأستاذ، إقداماً انفعاليّاً على خوْض المواجهات غير المحسوبة، وهو لا يقيم علاقته بالشهداء عبر الاكتفاء بالخطابات المعنويّة في الاحتفالات العامة ومناسبات إحياء ذكرى الشّهداء. بل كان يذهبُ، وعلى نحوٍ عميق، إلى ضرورة أن يكون الفعل السياسيّ والنضاليّ مفتوحاً على هذه الرّحلة الصاعدة نحو الله، بما هي خاتمةٌ «شاهدة» على الإصرار والتّحدي والممانعة، وباعتبارها أيضاً «النهاية الأسمى» التي تحملها «النجوم الزاهرة» وهي «تتصاعد لتضيء سماء البحرين، وتزيّن تاريخها الجهادي» كما كتبَ الأستاذ في مقدّمة كتابه «الشهادة»، ليعود ويؤكد في الموضع نفسه المفهومَ المتكامل للشّهادة، وعدم انحصارها في مصداق «القتل في سبيل الله»، بل تنطبق «على جميع الأشخاص الذين يؤمنون بالعقيدة الإلهية الحقّة، إيماناً حقيقيا صادقا وكاملا، ويلتزمون عملياً في حياتهم طريق الحق والعدل.. حتى انتقلهم إلى الرفيق الأعلى». 

الشهادة: المرجعية المعنوية والميزان العملي

بهذا المعنى، فإنّ الأستاذ يؤكد على ضرورة تشكيل العمل السياسي النضاليّ بأنوار الشهادةِ وفيوضاتها، والاستضاءة بها في استكمال المشوار الجهادي وتحصينه بها، مع التّشديد على أنّ هذه «المرجعيّة» المعنويّة تمثّل ميزاناً عملانيّا أيضاً لتمحيص صدْق المواقفِ والخطابات السياسيّة، فضلا عن كونها المعيار الذي يُحدّد الأصالة والمبدئيّة في النضال السياسيّ. ولذلك، تذهب العديدُ من كلمات الأستاذ إلى أنّ «التخفُّف» من روحيّة التطلّع نحو الشهادة، وإنكار الأدوار المفصليّة لدماء الشهداء؛ يُعدّ من مؤشرات الهزيمة السياسيّة، وهي «إنذار مبكِّر» على التراجع المتوقّع عن خطّ الجهاد والنضال.

بناءاً على هذه الرؤية، فإنّ الأستاذ داومَ – في كل محطّات حياته – على اعتبار «التضحية بالنفس والنفيس» أمراً ثابتاً وإستراتيجيّاً في موجّهات العمل السّياسي، وذلك تأسيساً على قيمة «العزّة» التي توجبُ على المرء أن يُحدِّد طريق «الكفاح» من غير الركونِ إلى الظلمة، وأن يجتنب الوقوع في دوائرهم ومشاريعهم، وعدم الخضوع لمشابِك «المساومة والتردّد»، كما حذّر الأستاذ في تأبين الشهيدين فاضل ونضال بكرزكان في مايو 2009م. وتأسيساً على ذلك، فإنّ الاحتفاء بالشّهداء، حقّاً، لا يكون «إلا من خلال السير على نهجهم، نهج المحبة والعزة والكرامة والإباء والرفض لقوى الباطل والظلم والاستبداد ومقاومتها أشدّ المقاومة» كما قال الأستاذ في تأبين الشهيد الحاج سلمان الماجد، بتاريخ 12 أبريل 2007م. ومن هذه الرؤية ذاتها، كان الأستاذ حازماً في أيّ تهاون إزاء إحياءِ ذكرى الشهداء، وقد عبّر عن استيائه المباشر ذات مرّة، بسبب الحضور الضعيف في تأبين الشهيد الشيخ علي النجاس، في يوليو 2009م، وقال بعبارةٍ امتلأت بالحرقة: «تباً لكل قوم، ولكلّ جماعةٍ لا يحترمون شهداءهم، ولا يعترفون بفضلهم عليهم، ولا يعرفون كيف يقدّرونهم ويحيون ذكراهم»، وفي هذا الموقف «الغاضب» يضعُ الأستاذ خطّاً فاصلاً في رقيّ الأمم والجماعات، وفي سلامة «صدْقها» وفي مصداقيّة مواقفها، وذلك بمقارنة ذلك مع طبيعةِ علاقتها بالشهداء، وعبر ثلاث مستويات محدّدة، وهي: احترام الشهداء، والاعتراف بفضلهم، وطريقة تقديرهم وإحياء ذكراهم.

يشترط الأستاذ «الصدق» في إنجاز «المرابطة على طريق الشهادة» بما هي قيمة مرجعيّة، ومزوِّد معنويّ لشحذ المقاومة. ولاشكّ أنّ «الصّدق» لا يثبُب عبر الخطابات والبيانات والمواقف اللّفظيّة. إنّ المعترك الحقيقي الذي يُظهر «الصّدق»، في هذا الشأن، هو «الثّبات» على «ثقافة الشهادة» التي تفتح الطريقَ كلّه لإرواء «شجرة الحرية المقدّسة» في الدّنيا، ولدفْع الإنطلاق نحو «العشق والحرية والعزة والكرامة» في «رحلة العشق الإلهي» نحو الآخرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى