الذنوب والمعاصي وآثارها في فكر وسلوك العوام والنخبة

منهج التزكية والتربية الخلقية لدى فضيلة أستاذ البصيرة المجاهد عبد الوهاب حسين «فرج الله عنه» تلازم مع طرحه الفكري العام، حتى يمكن القول أن الطرح التربوي والأخلاقي لفضيلته كان الوجه الآخر لطرحه السياسي والفكري العام، وإن ملازمة الدعوة للفضيلة والتزكية والخلق الرفيع مع النضال السياسي يكشف عن أصالة في الفهم الديني والسياسي، وأصالة في الممارسة.

من المواضيع التي أولاها فضيلة الأستاذ أهمية كبيرة هي حاجة الأفراد عامة والمنشغلين بالشأن السياسي خاصة إلى الحذر من الذنوب والمعصية، كونها ليست فقط مفسدة لمسار الفرد على مستوى العلاقة مع خالقه سبحانه، وعلاقاته وشؤونه الاجتماعية، وإنما كذلك هي مفسدة وتدمير لمسار الإنسان وكيانه السياسي وتجربته النضالية.

في خطبة أستاذنا الأسير ليوم الجمعة، بتاريخ 17 جمادى الثاني 1424 هجرية، الموافق 15 أغسطس 2003م، يتطرق فضيلته للآية الشريفة 193 من سورة آل عمران: <رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي‌ لِلْإِيمَانِ‌ أَنْ‌ آمِنُوا بِرَبِّکُمْ‌ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ کَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَ تَوَفَّنَا مَعَ‌ الْأَبْرَارِ>.

الخلاصة التي يطرحها فضيلة الأستاذ العزيز أن الذين سمعوا الدعوة الإلهية والسياسية لرسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، كان الخلوص من الذنوب أولوية ملّحة طوال انخراطهم في مسيرة الرسول الأكرم الشاملة، حيث: «أن أولي الألباب يسألون الله جل جلاله، أن يعفوا عنهم بشأن المعاصي الكبيرة (الذنوب)، وأن يستر على معاصيهم الصغيرة (السيئات) ويغطيها وكأنه لا وجود لها أبداً في كتاب أعمالهم».

كما تشير الآية حسب شرح فضيلته: «إلى الصدق والإخلاص لدى أولي الألباب في الطاعة والسير إلى الله جل جلاله، وفي نفس الوقت خوفهم من الأخطار المحدقة بهم، والعوائق التي يمكن أن تقطع عليهم طريقهم إلى الله جل جلاله، مثل الشهوات والهوى والشيطان، وقصور العقل عن إدراك بعض المسائل التفصيلية، التي أعطي المؤمنون حق الاجتهاد فيها مع الحرص على طاعة الأنبياء والأوصياء واقتفاء أثرهم، ثم التحديات الخارجية التي يثيرها أعداء الله والإنسانية في وجوه المؤمنين الصادقين في إيمانهم ومواقفهم، فينتج عن ذلك احتمال، أن تزل لهم قدم أثناء سيرهم إلى الله ذي الجلال والإكرام، وهذا شيء يؤرقهم ويقلق نفوسهم العاشقة لرب العزة والكرم والجلال».

فأولي الألباب من الأفراد في مختلف مواقعهم في المجتمع، سواء كانوا من المتصدّين للعمل الخيري أو التعليمي، أو كانوا من النخبة المهنية أو الدينية أو القادة السياسيين، فيجب أن يكون لديهم الإصرار والعزم الأكيد على الطاعة والتسليم المطلق لله سبحانه، والسير إلى الله جل جلاله بخطى ثابتة، ولكنهم لايرون أنفسهم سالمة من خطر الانحراف، ولايغترّون ولايعتّدون بأنفسهم وعلاقتهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله الطيبين، بل يخافون من المخاطر ويطلبون العون من الله جل جلاله في الدنيا، والعفو والستر في الآخرة.

النظر لمواقع القصور أكثر من مواقع الإنجاز

ويشير فضيلته إلى: «أن أولي الألباب لفرط صدقهم وإخلاصهم وحرصهم على السير المستمر والتقدم في معارج الكمال، لا ينظرون إلى حسناتهم وأعمالهم الإيجابي، وإنما ينظرون أكثر إلى سيئاتهم وسلبياتهم وتقصيرهم وإهمالهم، ويحاسبون أنفسهم عليها. وهذا بمثابة الشرط لاستمرار التقدم في طريق كل كمال منشود، أو في طريق كل سيرة تكاملية للإنسان».

وبهذا فإن الفرد في مختلف مواقعه وعلى مختلف الصعد والمستويات يجب أن لايركن لواقعه القائم ولا يطمئن له، بل يجب عليه بشكل يومي، وفي كل حركة موقف وقول وفعل أن يراقب نفسه ومنطلقاته وآثار ما يقوله ويفعله في داخل نفسه وفي الواقع الخارجي، وأن يخوض الفرد معركة مستمرة شاملة لا هوادة فيها ضد عوامل الشر في داخل النفس وفي خارجها، تحقيقا لمصداقي الجهادين الأكبر والأصغر.

النجاح والفشل في معركة الخلوص من الذنوب

يطرح فضيلة الأستاذ عبد الوهاب حسين حفظه الله نتيجتين محتملتين في معركة الخلوص من الذنوب.

الأولى: هي الوصول لملكة التقوى والسمعة الحسنة والتأثير على عموم المجتمع، بكل أشكال التأثير المعنوي والسلوكي والفكري والسياسي، ومثال ذلك: «كيف ملك الإمام السجاد (عليه السلام) القلوب والعواطف بعلمه وتقواه وأخلاقه الإسلامية الرفيعة وحسن تدبيره وإدارته وتصرفه، ونجح في أثبات وجوده كإمام معصوم يمثل الامتداد الفكري والروحي والأخلاقي والقيادي للرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأمة الإسلامية العظيمة. فهتفت الجماهير باسمه، واعترفت النخبة بفضله وتميزه، وتوجوه بتاج الإمامة والرئاسة، فكانوا لا يرون غيره أهلاً لقيادتهم الفكرية والروحية والسياسية، وأقرت السلطة أيضا بفضله، إلا أنها عمدت إلى اغتياله». وقصة إمامنا السجّاد مع هشام بن عبد الملك في طواف الحج مشهودة.

الثانية: أما فشل الفرد على مستوى تزكية نفسه والخلوص من الذنوب فسيؤدي للنتيجة التي عبّر عنها فضيلته، وهي سيطرة النفس الأمارة على شؤون العبد العبادية والمهنية والسياسية وجميع علاقاته في المجتمع، حيث يقول فضيلته: «النفس الأمارة بالسوء: الأمارة صيغة مبالغة للأمير. فهي تحاول التحكم والسيطرة والتسلط، وليست مستعدة لأن تتنازل عن حكومتها ولا تعترف بفقرها وحاجتها وعبوديتها لله الواحد القهار، وهي تسعى بكل وسيلة للتملص من مسؤولياتها العبادية، وتتمسك بالشكوك والشبهات في سبيل ذلك التملص .. فهي على نقيض النفس المطمئنة، ولذلك فهي منكرة لله الواحد القهار وكافرة بربوبيته ونعمه ولقائه، ساخطة على قضائه وقدره، وبعيدة كل البعد عنه وعن عبادته، متعلقة بالدنيا وزينتها وزخارفها وماديتها، ولا تطمئن إلا إلى أهوائها وشهواتها وملاذها ومصالحها الشيطانية. فهي تدّعي الاستقلال الكامل لنفسها ولا هدف لها سوى الملذات والشهوات والشهرة والسلطة والجاه والنفوذ، وإذا مارست العبادة كالصلاة والحج والزكاة والتظاهر بالصيام فمن أجل الرياء والسمعة والدعايات الانتخابية وكسب ثقة الأتباع وليس لله رب العالمين .. فهي كافرة بالله، عاصية لأمره ونهيه، لا تعترف بالحلال والحرام، ولا بالحق والباطل، ولا بالخير والشر، ولا بكل القيم الدينية والإنسانية، وتمارس الفساد والظلم والطغيان في الأرض بغير رادع من دين أو ضمير. وهي قلقة مضطربة أمام الحوادث وتقلبات الدهر، تفرح إذا جاءت الأمور وفق أهوائها ورغباتها، ويصيبها الحزن والغيظ والاضطراب إذا جاءت الأمور على خلاف مزاجها وأهوائها ورغباتها <إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ> فهي ضعيفة قلقة مضطربة رغم أنها تدعي الربوبية لنفسها!! ولها يوم القيامة سوء الحساب ومكانها الطبيعي الذي يتناسب مع حقيقتها وحقيقة عملها القبيح جهنم وبئس المصير».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى