في ظلال نعمة الولاية
التاريخ : 18 / رجب / 1425هـ .
الموافق : 2 / سبتمبر – أيلول / 2004م .
المناسبة: مولد الإمام علي (ع)
المكان : قرية جرداب – مسجد الشيخ خميس .
اليوم : مساء الخميس – ليلة الجمعة .
أعوذ بالله السميع العليم من شر نفسي الأمارة بالسوء ، ومن شر الشيطان الرجيم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين .
اللهم صل على النبي المصطفى محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين . اللهم ارحمنا بمحمد وآل محمد ، واهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد ، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد ، واجمع بيننا وبين محمد وآل محمد ، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد طرفة عين أبداً الدنيا والآخرة .. يا كريم .
اللهم معهم .. معهم .. لا مع غيرهم .
السلام عليكم أيها الأحبة ..
أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله تعالى وبركاته .
في البداية : بكل السرور والشكر والعرفان ، أرفع أسمى التهاني إلى مقام إمامنا ومولانا وسيدنا وشفيعنا يوم القيامة الحجة بن الحسن العسكري ( أرواحنا لتراب مقدمه الفداء ) وإلى مقامات مراجع الأمة وفقهائها وعلمائها ، وإلى كافة المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وإليكم – أيها الأحبة الأعزاء – بمناسبة ذكرى المولد الشريف لأمير المؤمنين الأمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
قال الله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبلوا لفي ضلال مبين } . صدق الله العلي العظيم
( آل عمران : 164 )
أيها الأحبة الأعزاء : الإنسان في حقيقة وجوده كائن ضعيف فقير محتاج ، والله جل جلاله هو الخالق والمربي للإنسان ، والمنعم عليه بكل ما يشبع حاجاته في الحياة ويوصله إلى غاية وجوده .
فقد أنعم الله جل جلاله على الإنسان بالطعام والشراب وما يكسيه من اللباس وما يظله من السكن وما يقله من المواصلات ، وأنعم عليه بالعقل والسمع والبصر واللسان .. لكي يتفاهم ويتواصل ويتعلم ويطور حياته .
ولكن النعمة الأهم : هي نعمة الدين والهداية ، لأنهما نظام الحياة وميزانها ، والإنسان يحتاجهما لدنياه وآخرته أكثر من أي شيء آخر ، فبدونهما تتحول الحياة – كما نراه فعلاً في الواقع بسبب تغييبهما – إلى ساحة للظلم والجور والتخلف والفساد .
والأكثر أهمية من ذلك : أن وصول الإنسان إلى سعادته وغاية وجوده يتوقف عليهما ، فبدونهما يكون الإنسان كالحيوان في جوهر وجوده { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً } ( الفرقان : 44 ) فهو يقتل ويبطش إذا غضب ، ويتفوق الإنسان المجرم علي الحيوان في القتل : بأن الحيوان لا يقتل لشهوة القتل ، والإنسان المجرم يقتل البشر بغير حساب لشهوة القتل – كما يفعل الطغاة المجرمون – ويتلذذ لذلك – كما أثبتت بعض الدراسات الحديثة والوقائع التاريخية والمعاصرة – كما يمارس شهواته بدون ضوابط أخلاقية ، ويعيش الحياة من أجل نفسها .. كما يفعل الحيوان ، وبذلك تكون الفروق بينهما فروقاً شكلية لا قيمة لها في جوهر الوجود وغايته ، وبهذا يشقى الإنسان في الدنيا والآخرة .
أيها الأحبة الأعزاء : إن أحدنا ليفرح إذا أنعم الله جل جلاله عليه برزقه من المال والولد والطعام والشراب الكساء والمسكن والمواصلات ، ويحزن إذا فقد شيئاً منها ، وأكثر ما يكون حزنه لفقد الولد !!
ولكن فرحنا يجب أن يكون أكبر .. وأكثر .. لمولد الأنبياء والأوصياء وبعثهم وتنصيبهم ونزول الكتب السماوية عليهم .. وغير ذلك من النعم المعنوية الكبيرة ، ويكون حزننا شديداً لفقدهم ، لأننا بفقدهم إنما نفقد أسباب الرحمة والهداية والبركة وزيادة النعم المادية والمعنوية ، وهي أهم كثيراً من النعم المادية . إننا يجب أن نفرح لمولد النبي أو الإمام أكثر من فرحنا لمولد الأبناء ، ونحزن لفقدهم أكثر من حزننا لفقد الأبناء ، وهذه ليست مثالية وإنما واقعية بحساب المنفعة والخسارة الحقيقيتين .
أما إذا تعرضوا للأذى والخطر : فإنه يجب علينا أن نشعر بالخوف ، لأن ذلك ينذر بشديد البلاء ونزول الغضب الإلهي ، ويجب علينا أن لا نقصر في حمايتهم والذود عنهم ، لكي لا نكون مشمولين بغضب الله جبار السماوات والأرض .
وبهذه المناسبة العظيمة أرغب في تناول ثلاث مسائل في هذا الحديث …
المسألة الأولى : إهمال الدين وتعطيله في الدول الإسلامية …
أن يتعرض الدين للحرب من الكفار ، فهذا شيء متوقع ، ويتوقع معه أن يهب المسلمون جميعاً لحمايته والدفاع عنه ، كما يتوقع منهم حسب الأصل : التبشير بالدين والدعوة إليه …
ولكن الصورة الموجودة في الواقع : الدين يتعرض لحرب عالمية شاملة من الأعداء ، والمسلمون يهملون الدين ويعطلون العمل به ، ويأخذون بالأنظمة العلمانية ( غير الدينية ) : الرأسمالية والاشتراكية ، ويروجون للأفكار المناهضة للدين ، ويساعدون الكفار على نشر الفساد ، ويمكنون الاستعمار والظالمون والأشرار من السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد الإسلامية !!
ومن أبشع الصور لهذه الحالة المأساوية القاتمة في العالم الإسلامي : ما يحدث في العراق الجريح في الوقت الراهن من الاعتداءات الأمريكية الغادرة الآثمة على المقدسات الإسلامية والقتل اليومي لأبناء الشعب العراقي المظلوم تحت غطاء الحكومة العراقية المؤقتة …
لقد أصابت هذه الاعتداءات اللب والجوهر في كيان الأمة الإسلامية ، وسوف تتعرض أمريكا للغضب والانتقام الإلهي – لا محالة – بسبب هذه الاعتداءات ، فالنجف حرم الله تعالى ما قصدها جبار بسوء إلا قصم ظهره ، فقد قصم الله جبار السماوات والأرض ظهر صدام حسين وحزب البعث ، وسوف يقصم ظهور أناس آخرين !!
وأما عن أبناء الأمة الإسلامية في داخل العراق وخارجها : فإن كل من لم يغضب وينتفض للرد على هذه الاعتداءات الغادرة والإهانة العظيمة ، فقد بلغ الذروة في فقدان الحمية والغيرة على الدين والأمة ، وأصابه الموت المعنوي الخبيث .. ودواؤه التوبة ، وما لم يتوب إلى الله تعالى ، فسوف يكون مصيره إلى الخسران في الدنيا والآخرة ، وتصيبه اللعنة وغضب الرب المنتقم العزيز الجبار .
المسألة الثانية : منافسة الأئمة عليهم السلام والفقهاء رضوان الله عليهم على القيادة …
أيها الأحبة الأعزاء : الإمام على بن أبي طالب عليه السلام كان أكمل الناس وأكفأهم وأكثرهم إخلاصاً لله الرب المحمود والحرص على مصالح الناس بعد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا أحد من منافسيه يستطيع أن يدعي بأنه أعلم بالله تعالى وبدينه وبكتابه أو أنه أكثر إخلاصاً لله تعالى وأكثر حرصاً على مصالح الناس أو أكثر كفاءة .. منه ، والشاهد على ذلك كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .. والسيرة المطهرة والتاريخ .
وبالتالي فإن منافسته عليه السلام على القيادة ، ليست من أجل الله سبحانه وتعالى ، وليست من أجل الناس ، وإنما كانت للمنافسين رؤاهم الخاصة التي تغذيها الانتماءات والأغراض السياسية ، والضحية في ذلك : هو الدين والناس في مصالحهم الجوهرية الدنيوية والأخروية .
إلا أن المسؤولية ليست مسؤوليتهم لوحدهم ، وإنما هي مسؤولية الناس أيضاً ، الذين خذلوا الأئمة وقبلوا بالأمر الواقع ورسخوه بسكوتهم ، فهم أيضاً يتحملون المسؤولية وعليهم تقع تبعاتها في الدنيا والآخرة .
وما قلته عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، يجري على باقي الأئمة من ولده سلام الله عليهم جميعاً ، ويجري على الفقهاء المؤهلين ( رضوان الله تعالى عليهم ) في زمن الغيبة .
وهنا أرغب في ذكر بعض الملاحظات المهمة لكي نأخذ منها الدروس والعبر في حياتنا …
الملاحظة الأولى : إذا جرت المنافسة بين المتنافسين على المراكز القيادية من أجل الله سبحانه وتعالى ومن أجل مصالح الناس ، ولم تكن من اجل الأغراض الخاصة : الشخصية أو الحزبية أو الفئوية أو الطائفية .. أو غيرها ، فإنه لا يتقدم فيها غير الأكفأ على الأكفأ ، ولا تستخدم فيها المغالطات والمراوغات والأساليب غير الأخلاقية من أجل الفوز فيها ، وإنما تكون منافسة شريفة نظيفة ، ويتقدم فيها – غالباً – الأكفأ الذي يرتضيه الناس .. ولو بعد حين .
الملاحظة الثانية : إذا تقدم الأكفأ المخلص فإنه ينفتح – عادة – على الكفاءات الأخرى ويسمح لها بالظهور والعمل ، لأنه يثق في نفسه وأدائه ومنهجه ، ويهدف إلى رضا الله تعالى والمصلحة العامة للناس ولا يعمل من أجل مصالحته الخاصة ، وبالتالي فهو لا يخشى على منصبه من منافسيه .
أما إذا سيطر غير الأكفأ – ولو بالانتخاب – فإنه ينغلق على نفسه وبطانته ، ولا يسمح للكفاءات بالظهور والعمل ، لأنه لا يثق في نفسه وأدائه ، وبالتالي فهو يخشى على منصبه من الكفاءات التي تتفوق عليه ، فتخلق بذلك الصراعات ، ويظهر في المجتمع ما يترتب عليها من المساوئ ، والخاسر الأكبر هي الأمة التي تزعم عليه .. باختيارها أو بغير اختيارها .
الدرس المستفاد مما سبق : أن الأمة لكي تصون مصالحها في الدين والدنيا ، فإن عليها أن تحتفظ لنفسها بالكلمة الفصل في تنصيب القيادات والرموز الدينية والمدنية الشعبية والرسمية ، وتفرضها على ضوء هدي الله تعالى وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا تقبل بأن تفرض عليها كأمر واقع ، وتقاتل من أجل فرض إرادتها الشرعية في ذلك ، بكل الأساليب والوسائل المشروعة المتاحة والممكنة.. ولا تستسلم ، وأن تراقب القيادات والرموز ، وتقيم أداءهم وتنتقده وتحاسبهم عليه وتغيرهم إذا اقتضت الحاجة ذلك ، وما لم تفعل : فإن مصالحها الجوهرية الدنيوية والأخروية في خطر ، وهي التي تتحمل مسؤولية ذلك وتبعاته في الدنيا والآخرة .
قال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : ” كيف ما تكونوا يولى عليكم ” .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ” أفضل الجهاد عند الله ، كلمة حق أمام سلطان جائر “
( صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
المسألة الثالثة : بمناسبة تكريم الطلبة الدارسين في المساجد ( النشاط الصيفي ) في هذه الليلة وفي هذه المناسبة العظيمة المعظمة ، فإني أرغب في أن أوصي أبنائي وأحبائي الطلبة بالوصايا التالية …
الوصية الأولى – الحرص على الطهارة الروحية : والطريق إليها هو تعلم العقيدة والأحكام الشرعية والمفاهيم والتعاليم الأخلاقية والسيرة المطهرة للأنبياء والأوصياء عليهم السلام ، والالتزام بالعبادات الإسلامية وفي مقدمتها الصلاة التي هي أفضل العبادات وعمود الدين ، والحرص على أدائها جماعة وفي المسجد .
أما الدليل على وجود الطهارة الروحية في أنفسنا : فهو التحلي بمكارم الأخلاق والمعاملة الحسنة مع الناس .
إذا أراد الواحد منا أن يعرف مقدار ما في نفسه من الطهارة الروحية ، فعليه أن ينظر إلى أخلاقه : كم يمتلك من التواضع والتسامح والرحمة والكرم .. الخ ، وكيف يتعامل مع الناس ؟ وأعلموا بأنه لا قيمة للعلم والعبادة مهما كثرا .. ما لم يؤثرا إيجابياً في أخلاق الإنسان ومعاملته الطيبة مع الناس ، وإن كان العالم فقيها أو عابدا متنسكاً .
وللطهارة الروحية فائدتان …
الفائدة الأولى : الحصول على رضا الله ذي الجلال والإكرام والقرب منه الزلفى لديه .
الفائدة الثانية : أن يكون الفرد إنساناً صالحاً في نفسه ويكون نافعاً للآخرين .
الوصية الثانية – الاهتمام بالتعليم والتأهيل : الكبير والصغير فينا يعرف حجم الأخطار والتهديدات التي تواجه الإسلام والعالم الإسلامي ، والطريق إلى مواجهتها والتغلب عليها ليس هو الكم من أعداد المسلمين .. وإنما الكيف ، أن يكون المسلم – كل مسلم – رقماً حقيقياً على الأرض ، وليس غثاء .. كغثاء السيل ، والوسيلة إلى ذلك هو أن نهتم بتعليم أنفسنا وبنائها وتأهيلها .
ولا تخفى عليكم مساعي الأعداء الحثيثة لتجهيلنا ، ويجب علينا عدم الاستسلام لها ومقاومتها بكل وسيلة .
أيها الأحبة الأعزاء : يجب علينا أن نضحي بشيء من راحتنا ، وبشيء من ترفنا ، وبشيء من كمالياتنا ، من أجل التعليم والتأهيل وبناء الذات ، إن الأمر يستحق منا التضحية .. إن الأمر يستحق منا التضحية .
الوصية الثالثة – الاهتمام بالشأن العام : قال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : ” كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ” .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ” من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ” صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
أيها الأحبة الأعزاء : لا يكفي الواحد منا أن يتعلم الدين ويؤدي العبادات ، وإنما يجب عليه أن يهتم بأمور المسلمين وهمومهم وقضاياهم الرئيسية الجوهرية والحيوية والمصيرية .. وإلا فهو من المقصرين …
تجب علينا الدعوة إلى الدين : دعوة الأفراد إلى التدين ، ودعوة المجتمع إلى تطبيق الإسلام وعدم تعطيل أحكامه وحدوده …
ويجب علينا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذروته : كلمة حق أمام سلطان جائر …
ويجب علينا أن نطالب بحقوقنا العادلة ، وندافع ونحمي مكتسباتنا المشروعة ، وإلا سوف نعيش الظلم والذل والتخلف ، وهذا لا ينبغي لمسلم قطعاً .
أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار ، وأعتذر عن التقصير
واستغفر الله الرحيم الكريم لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته