القيادة الإسلامية
اليوم : الخميس .
التاريخ : 12 / ربيع الثاني / 1427هـ .
الموافق : 11 / مايو ـ آيار / 2006م .
المكان : مسجد الشيخ خلف ـ قرية النويدرات .
الزمان : بعد صلاة الظهرين .
أعوذ بالله السميع العليم ، من شر نفسي الأمارة بالسوء ، ومن شر الشيطان الرجيم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين .
اللهم صل علي محمد وآل محمد ، وارحمنا بمحمد وآل محمد ، وأهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد ، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد ، وأجمع بيننا وبين محمد وآل محمد ، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة يا كريم .
اللهم معهم .. معهم .. لا مع أعدائهم .
السلام عليكم أيها الأحبة ، أيها الأخوة والأخوات في الله ، ورحمة الله تعالى وبركاته .
موضوع حديثا لهذا اليوم هو ( القيادة الإسلامية ) .
أيها الأحبة الأعزاء : إن القيادة الإسلامية مسألة خطيرة جدا في دلالاتها الفكرية العقائدية ونتائجها العملية في الحياة ، فهي ترتبط ارتباطا وثيقا بالرسالة الربانية في الحياة ، لأن القيادة الإسلامية مسؤولة عن التبليغ بالرسالة والعمل على تطبيقها ، والرسالة الربانية ترتبط بغاية الرب من الحياة ، والغايـة مـن الحياة ترتبـط ارتباطا وثيقا بحكمة الـرب اللامتناهية ، وحكمة الرب ترتبط بذاته وكماله ( جل جلاله ) وعليه : فالتفكير في القيادة والتعامل معها لا يقبل التساهل والتسامح أبدا . وهذا لا يختص بالقيادة المعصومة ، وإنما يمتد لكل قيادة إسلامية شرعية ، فهو يشمل القيادة العليا للفقهاء ( رضوان الله تعالى عليهم ) في عصر الغيبة ، ولكل صفوف القيادات الإسلامية الأخرى .. والمطلوب منا : أن ننظر إلى مسألة القيادة الإسلامية ونتعاطى معها بمسؤولية كبيرة واهتمام شديد ، وأن لا نجامل فيها أحدا .
ونظرا لأهمية القيادة الإسلامية وخطورتها على صعيد العقيدة والحياة الدينية العملية وصلتها بالإدارة العامة للحياة وشؤون الرسالة وتحقيق غاية وجودها ، فقد أكد القرآني الكريم على عناية الرب ( جل جلالة ) بالتأهيل الشامل للقيادة الإسلامية لكي تتمكن من النهوض عمليا بالمسؤولية الرسالية الملقاة على عاتقها على أكمل وجه .
قال الله تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } ( البقرة : 124 ) .
هذه الآية الشريفة المباركة تتضمن ثلاث نقاط أساسية تتعلق بتأهيل القيادة الإسلامية .. وهي :
النقطة الأولى ـ العلم الصحيح والدقيق بالرسالة : فالقيادة الإسلامية العليا يجب أن تمتلك العلم الشامل بالرسالة ( اللدني للمعصومين والاجتهادي للفقهاء ) والقيادات في الصفوف الأخرى يجب أن تمتلك من العلم بالرسالة ما يتناسب مع موقعها .. ويدل على ذلك الخطاب بقوله تعالى : ” إني جاعلك ” حيث تدل على نصب الإمام والعلم بالرسالة بتعليم مباشر من الله ( جل جلاله ) . وتدل على المطلب الأحاديث التي تشترط الفقاهة المطلقة في القيادة الإسلامية العليا في عصر الغيبة ، والعلم بالرسالة في الصفوف القيادية الأخرى ، ويمكن إدراجه تحت عنوان العلم بالمسائل محل الابتلاء .
النقطة الثانية ـ التأهيل النفسي والمهني : فالقيادة الإسلامية يجب أن تؤهل نفسيا وأخلاقيا وروحيا ومهنيا بحيث تكون أمينة على التبليغ الصحيح بالرسالة ، وتمتلك القدرة على الدفاع عنها وحمايتها أمام الأخطار التي تتهددها ، وتمتلك الكفاءة الإدارية والسياسية التي تمكنها من تطبيقها بدقة وحرفية في الحياة .. وهذا ما يدل عليه الابتلاء . لأن الابتلاء من شأنه خلق التأهيل النفسي والروحي والأخلاقي ، واجتياز الابتلاءات بنجاح يـدل على حسن التصرف ( أي التأهيل الإداري ) وقد وضعت الأحاديث الشريفة شروط أخرى غير الفقاهة والعلم للقيادات الإسلامية في عصر الغيبة قد ذكرها الفقهاء في كتبهم التفصيلية .
النقطة الثالثة ـ القدوة الحسنة : فالقيادات الإسلامية يجب أن تكون قدوة حسنة لمن تحتها في العمل بالرسالة ، والتضحية من أجل التبليغ بها وحمايتها والسعي لتحقيق أهدافها العظيمة في الحياة ، وهذا ليس خاصا بالقيادات العليا ، وإنما ينبغي أن بشمل جميع صفوف القيادات الإسلامية .. ويدل على ذلك لفظ الإمام في الآية الكريمة .
وبعد ذكر النقاط الأساسية التي تضمنتها الآية الكريمة ، ينبغي التنبيه إلى أن الإخلال بما جاء فيها من شروط ( لاسيما العلم والكفاءة ) من شأنه أن يؤدي إلى وقوع الضرر البليغ بالرسالة والفشل في تحقيق أهدافها الربانية في الحياة ، وهذا خلاف الحكمة ، ولا يرضاه عاقل أبدا . وتوفر الشروط مضمون في القيادة المعصومة ، أمـا في غيرها فينبغي التدقيق كثيرا مـن أجل ضمان توفرها .. وعليه : حينما نتحدث عـن قيـادة الفقهاء وخط العلماء ( كما هو مطلوب الأخذ به في عصر الغيبة ) ينبغي علينا أن لا نكتفي بالنظر إلى الفقاهة وتحصيل العلوم الدينية ، وإنما ننظر بالإضافة إلى ذلك إلى الكفاءة النفسية والمهنية والإدارية ، لأن تجاهلها يؤدي إلى نقض الغرض ، وهو تحصين المقام القيادي والمحافظة على الرسالة والتبليغ بها والسعي لتطبيقها بدقة وتحقيق أهدافها الربانية على أحسن وأكمل وجه في الحياة .. والحكيم لا ينقض غرضه .
والخلاصة : من أجل صيانة المقام القيادي ، والمحافظة على الرسالة ، ينبغي التمسك بكافة الشروط ، وليس العلم والفقاهة فقط ، فينتهك المقام وتضيع الرسالة .
أيها الأحبة الأعزاء : اسمحوا لي أن أنتقل بعد هذا للحدث عن موضوعات أخرى ذات أهمية تتعلق بالقيادة الإسلامية .. وهي :
الموضوع الأول ـ مسؤولية القيادة الإسلامية عن التغيير : الرسالة الإسلامية رسالة قيادية تهدف إلى صياغة الحياة على أضواء عقيدة التوحيد وأحكام الشريعة وقيمها ومبادئها وثوابتها .. وعليه : فالمطلب من القيادة الإسلامية بمساندة الأمة ، الثورة على كافة الأوضاع المنحرفة والعمل على إصلاحها لتكون متطابقة مع مقتضيات عقيدة التوحيد وأحكام الشريعة وقيمها ومبادئها وثوابتها ، وعدم القبول بالأمر الواقع والاستسلام إليه .
قال الله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } ( الحديد :25 ) .
هذه الآية الشريفة المباركة تؤكد على أمرين أساسيين .. وهما :
الأمر الأول : أن غاية الرسالات السماوية هي إقامة القسط والعدل على أيدي الناس بقيادة الأنبياء ( عليهم السلام ) .
الأمر الثاني : أن السبيل إلى تحقيق تلك الغاية هو الجهاد في سبيل الله ( تبارك وتعالى ) .
وقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ( المائدة : 54 ) .
هـذه الآية الشريفة المبارك تخاطـب المؤمنين بما هـم مؤمنين وتحـذرهـم مـن الارتداد ، والارتداد هنا ليس بمعنى الرجوع من الإسلام إلى الكفر ، وإنما بالتخلي عن ما يقتضيه الإيمان من الجهاد في سبيل الله ( تبارك وتعالى ) فإن هم تخلوا عن الجهاد في سبيل الله ( تبارك وتعالى ) والسعي لتطبيق الرسالة على الأرض والحرص على تحقيق أهدافها في الحياة ، فسوف يأتي الله ( جل جلاله ) بقوم يحبهم ويحبونه من صفاتهم الجهاد في سبيل الله ، ولا يخافون في الله لومة لائم .
وقال الله تعالى : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } ( آل عمران : 140 ) .
هذه الآية الشريفة المباركة تأمر المؤمنين بالصبر في المواجهات مع الأعداء ، وتشير إلى تبدل ميزان القوى في الساحة العامة ، فالضعيف يمكن أن يصبح قويا ، والمهزوم يمكن أن ينتصر .. والعكس صحيح أيضا ، وهي تحمل رسالة إلى المؤمنين ، بأنهم إذا كانوا ضعفاء ومهزومين في وقت من الأوقات على يد أية قوة كانت ، فعليهم أن يصبروا ولا يستسلموا ولا يقبلوا بالأمر الواقع ، وعليهم أن يسعوا إلى تغيير ميزان القوى إلى صالحهم ، فهو أمر ممكن يشهد به العقل والتجارب ، وهو لا يأتي دفعة واحدة وبدون تضحيات ، وإنما بالتدريج وكثمرة للصبر وحسن التدبير والتضحيات ، ومن يصبر ويحسن التدبير ويقدم التضحيات في سبيل الرسالة ، فهم الشهداء عند الله ( عز وجل ) .
وبهذه المناسبة أشير إلى منهجين يتحركان على الساحة الإسلامية .. وهما :
المنهج الأول : ينطلق من العقيدة وأحكام الشريعة وقيمها ومبادئها وثوابتها ، ويسعى لصياغة الواقع وتطويعه على أضوائها ، ويواجه كافة العقبات التي تقف في وجهه بقوة وثبات وبحسن التدبير للتغلب عليها حتى يهزمها ، ويقدم التضحيات اللازمة في سبيل تحقيق أهدافه الإسلامية المقدسة بنفس راضية مطمئنة إلى ثواب ربها ونصره . وهذا هو منهج الأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحين ( عليهم السلام ) وهـو المنهج الذي سار عليه الإمام الخميني ( رضوان الله تعالى عليه ) قبـل وبعـد قيـام الجمهوريـة الإسلامية في إيـران ، والمنهج الذي يسير عليه حزب الله المنصور في لبنان في التحرير والمقاومة .
المنهج الثاني : ينطلق من الواقع والنفس الذين يقع أصحاب المنهج أسرى إليهما ، ثم يحاولوا أن يوجدوا المبررات الشرعية لمواقفهم ليقنعوا أنفسهم والآخرين بها ، وليخلقوا التوافق بين إيمانهم وبينها . فهم يقبلوا بالمتاح والمتيسر على قاعدة ” ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ” وماذا نفعل .
فأصحاب هذا المنهج بدلا من السعي لتطويع الواقع وصياغته على أضواء العقيدة وأحكام الشريعة وقيمها ومبادئها وثوابتها من خلال الصبر وحسن التدبير وتقديم التضحيات اللازمة ( كما هو الحال في المنهج الأول ) يسعـون لتطويع أحكام الشريعة وقيمها ومبادئها وثوابتها بحسب مواقفهم الضعيفة أو المتهورة في الحياة . وهذا المنهج التبريري هـو منهج الضعفاء من المؤمنين ، وهو المنهج المسؤول عن تراكم الانحرافات والظلم والاستبداد والتخلف في المجتمعات والدول الإسلامية طوال التاريخ ، ولن تتغير أوضاعها ما دام العمل بهذا المنهج هو السائد لدى القيادات والزعامات الإسلامية الشعبية ، ولم تنتقل إلى العمل بالمنهج الإسلامي الأصيل ( منهج التكليف ) وهو المنهج الأول .
الموضوع الثاني ـ حاجة القيادة إلى إستراتيجية العمل : مما لا شك فيه أن نجاح القيادة الإسلامية في تحقيق أهدافها الرسالية يتطلب وجود إستراتيجية عمل واضحة لديها ، وبدون وجود الإستراتيجية يكون العمل تخبط أعمى لا يليق بالمؤمنين الذين لا يعملون إلا على بصيرة واضحة ، ولن ينجح العمل بدون إستراتيجية في تحقيق أهداف الرسالة . وقد روي عن أهل البيت ( عليهم السلام ) أن الله ( عز وجل ) أنـزل على الـرسول الأعـظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتابا فيه عمل كل إمام من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ومواقفه ، وأن كـل واحد منهم ( عليهم السلام ) كـان يدفعه إلى الإمام الذي بعـده ، ويفتح الخاتم الخاص به ويعمل بما هـو مطلوب منه بدقة ومهارة وحرفية .
عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنه قال : ” إن الله ( عز وجل ) أنزل على نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتابا قبل أن يأتيه الموت .. فقـال : يا محمد هذا الكتاب وصيتك إلى النجيب من أهلك .. فقال : ومن النجـيب من أهـلي يا جبرئيل ؟ فقال : علي بن أبي طالب . وكان على الكتاب خواتيم من ذهب ، فدفعه النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأمره أن يفـك خاتما ويعمل بما فيه ، ففك ( عليه السلام ) خاتما وعمل بما فيه . ثـم دفعه إلى ابنـه الحسن ( عليه السلام ) ففك خاتما وعمل بما فيـه . ثم دفعه إلى الحسين ( عليه السلام ) ففك خاتما فوجد فيه أن أخرج بقومك إلى الشهادة ولا شهادة لهم إلا معك واشري نفسك لله تعالى .. ففعل . ثم دفعه إلى علي بن الحسين ( عليه السلام ) ففك خاتما فوجد فيه : أصمت وألزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين .. ففعل . ثم دفعه إلى محمد بن علي ( عليه السلام ) ففك خاتما فوجد فيه : حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله ( عز وجل ) فإنه لا سبيل لأحد عليك . ثم دفعه إلي ففضضت خاتما فوجد فيه : حدث الناس وأفتهم وانشر علم أهل بيتك وصدق آبائك الصالحين ولا تخافن إلا الله ( عز وجل ) وأنت في حرز وأمان .. ففعلت . ثم أدفعه إلى موسى بن جعفر ، وكـذلك يدفعه موسى إلى الذي بعده ، ثم كذلك أبدا إلى يوم قيام المهدي ( عليه السلام ) ” ( الشيخ الصدوق . كمال الدين . ج2 . الحديث 15 من نوادر الكتاب ) .
والإستراتيجية تتضمن الأهداف الرئيسية ، ومنهجية العمل والأساليب التي تتبع لتحقيق الأهداف ، والخطوط الرئيسية التي تضبط الحركة ، والأدوات والوسائل التي تستخدمها الحركة لتحقيق الأهداف . ثم على القيادة أن تضع برامج العمل والخطط التفصيلية على ضوء الإستراتجية لتحقيق أهدافها ، وبدون البرامج والخطط التفصيلية لا قيمة عملية للإستراتيجية . ثم يأتي بعد ذلك التكتيك ، وهو يعني التعاطي مع المستجدات التي تطرأ على الساحة بما يناسبها من أجل المحافظة على الإستراتيجية والتمسك بأهدافها .. فالتكتيك يأتي لخدمة الإستراتيجية والتمسك بأهدافها وليس للتخلي عنهما . ومن الواضح جدا : أنه لا يوجد تكتيك بدون إستراتيجية ، فالحديث عن تكتيك بدون وجود إستراتيجية هراء لا قيمة علمية ولا عملية لـه.
الموضوع الثالث ـ تسليط الأضواء على جوانب من عمل الأئمة : يزعم بعض المؤمنين الأعزاء بأن بعض الأئمة ( عليهم السلام ) تعايشوا مع الظلم وسايروا الظالمين ، وهذه إساءة كبيرة إلى مقام الإمامة وحكمة الرب ( عز وجل ) ومخالفة للحقيقة وما جرى على أرض الواقع .
وفي سبيل دحض ذلك الزعم أسلط بعض الضوء على عمل الأئمة باختصار شديد .
أولا ـ على نحو الإجمال : نجح الأئمة ( عليهم السلام ) في تحقيق ثلاثة منجزات أساسية رغم شدة الإرهاب الذي مارسه الحكام والبطش بهم وبشيعتهم ومحبيهم .. والمنجزات هي :
المنجز الأول : بناء الكيان الشيعي كيانا قويا ومتماسكا وواسعا ، فقد كان الكيان الشيعي المبارك في أول عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كيانا صغيرا ، ومع بدأ الغيبة أصبح كيانا ممتدا على طول وعرض الساحة الإسلامية المباركة .
المنجز الثاني : التبليغ بأطروحة التشيع في بعديها السلبي والايجابي في كافة مجالات الفكر التي طرقتها الرسالة الإسلامية المباركة . وأعني بالبعد السلبي : نقض الأطروحات المخالفة لأطروحتهم ( عليهم السلام ) في كافة المجالات العقائدية والفقهية والأخلاقية والمفاهيم العامة . أما البعد الإيجابي فأعني به : التبليغ بالأطروحة التي يؤمنون بها في كافة المجالات العقائدية والفقهية والأخلاقية والمفاهيم العامة . فلم يقوموا ببناء الكيان الشيعي ككيان سياسي معارض للسلطة فحسب ، وإنما قاموا ببنائه ككيان عقائدي على أساس أطروحة عقائدية متكاملة ببعديها السلبي والايجابي شاملة لجميع مجالات الفكر الإنساني .
المنجز الثالث : بنـاء قيادات مؤهلـة لقيادة الكيـان ، وهي القيـادات التي كانت تعمل إلى جانبهم ( عليهم السلام ) ثم تسلمت قيادة الكيان في عصر الغيبة .
ومن البديهي لكل ذي لـب : أن هـذه المنجزات الثلاثة التي لا يختلـف اثنان في إنجازهم ( عليهم السلام ) لها ، لا يمكن أن تتحقق مع قبولهـم التعايش مع الظلم ومسايـرة الظالمين .. فهي منجزات لا يمكن أن تتحقـق إلا من خلال الرفض والمقاومة ، في ظل إستراتيجية عمل واحدة ، تـؤدي إلى تـراكـم المنجـزات لتحقيـق غايات وأهداف محددة ، وتكتيكات مختلفة تتناسب مع المستجدات في الساحة العامة .
ثانيا ـ بشيء من التفصيل : ولنبدأ بالإمام الصادق ( عليهم السلام ) حيث يقول البعض عنه ( عليه السلام ) بأنه استفاد من فترة الصراع بين بني أمية وبني العباس واشتغل بالتعليم ونشر علوم أهل البيت ( عليهم السلام ) ولم يشتغل بالسياسية لكي يأمن شر بني أمية وبني العباس معا ، ويتفرغ لتحقيق هدفه في نشر علومهم ( عليهم السلام ) .
فإذا انتقلنا إلى الإمام من بعده وهو ابنه الإمام موسى الكاظم ( عليهما السلام ) نجد بأنه قضى معظم فترة إمامته في السجن . فإذا كان الإمام الصادق ( عليه السلام ) قد قضى حياته في نشر العلم فحسب ولم يشتغل بالسياسية ، فإن النتيجة المتوقعة مع وجود الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) في السجن لهذه الفترة الطويلة ، أن يتشتت كيان الشيعة وتتبعثر صفوفهم يمينا وشمالا .
فإذا جئنا إلى الإمام من بعده وهو ابنه الإمام علي الرضا ( عليه السلام ) نجد أن المأمون قد أعطاه ولاية العهد ، وقال المؤرخون والسياسيون في تفسير ذلك ، أن المأمون أرادة أن يكسب ود الشيعة لأنهم أصبحوا قوة كبيرة .. أي : أن الشيعة بدلا من التشتت أصبحوا قوة ضاربة يحسب لها ألف حساب . وهذا يدل على أن الإمام الصادق ( عليهم السلام ) في الوقت الذي كان ينشر فيه علـوم أهـل البيت ( عليهم السلام ) كان مهتما بالتنظيم الحركي لصفوف الشيعة وتوعيتهم سياسيا ، بحيث أنهم كانوا قادرين على إدارة شؤونهم والاتصال بإمامهم وهو في السجن .
فإذا انتقلنا إلى الأئمة الثلاثة بعد الإمام الرضا .. وهم : الإمام محمد الجواد والإمام علي الهادي والإمام الحسن العسكري ( عليهم السلام ) نجد أنهم ( مع قصر أعمارهم ) قد قضوا حياتهم محاصرين في قصور الخلفاء ، ثم من بعدهم بدأت الغيبة وتسلم العلماء زمام القيادة للكيان .. وهذا يعني : أنـه لولا التربية الحركية والسياسية الحرفية من الأئمة ( عليه السلام ) لشيعتهم لتدهور كيان الشيعة وتبعثرت صفوفهم ، ولما كان في وسع الإمام الحجة ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) الغيبة وتسليم زمام القيادة إلى الفقهاء ( رضوان الله تعالى عليهم ) .
وفي الختام : أرجو من المؤمنين الأعزاء أن يكفوا عن الإساءة إلى مقام الإمامة وحكمة الرب ( عز وجل ) بزعم أن الأئمة ( عليه السلام ) تعايشوا مع الظلم وسايروا الظالمين .
الموضوع الرابع ـ علاقة القيادة بالجماهير ودورها في اتخاذ القرارات : وفيه نقاط عديدة .. أهمها :
النقطة الأولى : ينبغي أن نميز بين مصدر الشرعية للقيادة ومصدر القوة اللازمة لكي تمارس القيادة السلطة على الناس . فمصدر الشرعية للقيادة الإسلامية هو الله ( تبارك وتعالى ) أما مصدر القوة فهم الناس . وهذا يتطلب اعتماد القيادة على الناس لكي تمارس سلطاتها على المجتمع ، وبدون الناس لن تتمكن من بسط نفوذها .
النقطة الثانية : لا يوجد دور للناس في اختيار القيادة المعصومة .. أما في عصر الغيبة : فإنه يمكن أن يوجد دور للناس في اختيار الولي الفقيه ، وينشأ لهم حق المراقبة والمحاسبة والعزل ، وقد أثبت ذلك في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران .
النقطة الثالثة : لقد ميز القرآن الكريم بين أمرين ينبغي علينا أن نأخذ التمييز بينهما بعين الاعتبار ونحن نبحث في دور الجماهير في صناعة القرار .. وهما :
الأمر الأول ـ أمر الله ( تبارك وتعالى ) : وهو الأمر الذي لا يملك الناس فيه حق الاختيار بأي حال من الأحوال .
قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } ( الأحزاب : 36 ) .
ويشمل هذا الأمر تنصيب الإمام المعصوم ، وأن يكون اختيار القيادة العليا في عصر الغيبة من بين الفقهاء الجامعين لكافة الشروط ، والالتزام بالأحكام الشرعية في كافة مجالات الحياة وعدم مخالفتها بأي حال من الأحوال .
الأمر الثاني ـ أمر الناس : وهو الأمر الذي يعود للناس وعلى القيادة أن ترجع إليهم فيه بما لا يتعارض مع أمر الله ( عز وجل ) .
قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ( الشورى : 38 ) .
ولم يفرق بعض العلماء ( ومنهم في البحرين : سماحة الشيخ حميد المبارك في إحدى أوراقه التي نشرت على صفحات الانترنت ) في مسألة الرجوع إلى الناس في هذا الأمر بين المعصوم والفقيه . فما دام الأمر أمر الناس ، فتكليف القيادة الإسلامية ( المعصوم أو الفقيه ) هو الرجوع إليهم فيه ، ولهذا أمر الله ( تبارك وتعالى ) الرسول الأعظم الأكرم بأن يعمل بالشورى { وشاورهم في الأمر } وأن دور القيادة هـو التوجيه والإدارة للآراء المتعددة ، ثم اتخاذ القرار وفـق آليات محددة تتوافق مع مقررات الشريعة الإسلامية المقدسة .
أيها الأحبة العزاء
أكتفي بهذا المقدار
وأستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .