بيت العنكبوت
اليوم : الخميس .
التاريخ : 16 / صفر / 1427هـ .
الموافق : 16 / مارس ـ آذار / 2006م .
المكان : مسجد الشيخ خلف ـ قرية النويدرات .
الزمان : بعد صلاة الظهرين .
أعوذ بالله السميع العليم ، من شر نفسي الأمارة بالسوء ، ومن شر الشيطان الرجيم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين .
اللهم صل علي محمد وآل محمد ، وارحمنا بمحمد وآل محمد ، وأهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد ، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد ، وأجمع بيننا وبين محمد وآل محمد ، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة يا كريم .
اللهم معهم .. معهم .. لا مع أعدائهم .
السلام عليكم أيها الأحبة ، أيها الأخوة والأخوات في الله ، ورحمة الله تعالى وبركاته .
قال الله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } ( العنكبوت : 41 ) .
معاني المفردات :
مثل : كلمة تسوية بين شيئين .
أولياء : جمع ولي ، ومصدرها الولاية .. بمعنى : التقارب الوثيق بين شيئين ، وتعني الصداقة والتحالف والإشراف .
العنكبوت : حشرة معروفة ، وهي أنواعا عديدة ، عرف منها العلماء ( حتى الآن ) ما يقارب العشرين ألف نوع ، لكل نوع منها خصوصيته من بين كل الأنواع ، تنسج من لعابها في الهواء بين الأشياء خيوطا رقيقة ليكون لها بيتا وتصيد به طعامها .
أوهن : أضعف .
الآية الشريفة المباركة ( العنكبوت : 41 ) تتضمن نقطتين أساسيتين .. وهما :
النقطة الأولى : أن الولي والملجأ والمرجع الحقيقي للإنسان في جميع الأمور والشؤون في الحياة هو الله ( جل جلاله ) وحده لا شريك له ، ويجب على الإنسان أن يتخذه وليا وأن لا يتخذ وليا غيره .
النقطة الثانية : أن كل ولي يتخذه الإنسان غير الله ( جل جلاله ) لا ينتفع الإنسان ( من الناحية الحقيقية ) بشيء من ولايته ، وتترتب على ولايته خسائر فادحة للإنسان في الدنيا والآخـرة .. على خلاف ما يريده الإنسان منها من جلب النفع ودفع الضرر . وضرب الله ( جل جلاله ) مثلا لتلك الولاية بيت العنكبوت . فالبيت إنما يتخذ للوقاية من الحر والبرد ومنع العدوان وغير ذلك من المنافع . وبيت العنكبوت ضعف ومكشوف ، فهو لا يصمد أمام أي هجوم ولو كانت هبة ريح أو زخة مطر ، وهو مكشوف ولا ينفع بشيء مـن المنافع التي يرومها الإنسان من البيت .. وكذلك الولاية لغير الله ( جل جلاله ) : فهي لا تدوم ، ولا يمكن الاعتماد عليها في مواجهة طوفان الحوادث ونوائب الزمان .. كما سيتضح بعد قليل .
ويتضمن تمثيل القرآني الولاية لغير الله ( جل جلاله ) ببيت العنكبوت تصويرا دقيقا وصادقا لحقيقة القوى التي يحتمي بها الإنسان ويتخذ منها أولياء من دون الله ( سبحانه وتعالى ) في الحياة .. فهي بحسب التحليل العقلي الدقيق والتجارب العملية : لا تملك قوة ذاتية ، ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، فهي لا تملك ( بالأولى ) لغيرها شيئا من ذلك.
والنتيجة : أن اتخاذ أولياء من دون الله ( العزيز الحكيم ) يدل على اختلال الموازين العقلية والعملية لدى أولئك المواليين ، وسطحية تفكيرهم في شؤون الحياة وقضاياها ، وضياعهم في ظلماتها .. بعيدا عن هدي العقل والدين . فهم مغرورون وضائعون ، لا يعرفون إلى أين يتوجهون ، ولا كيف يختارون ، ولا كيف يرتبون أمورهم على أسس صحيحة في الحياة .
يقول السيد قطب : ” وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض ، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم ، ويخشونها ويفزعون منها ، ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها ، أو يضمنوا لأنفسهم حماها !
وتخدعهم قوة المال ، يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة ، ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب ، ويسعون للحصول عليها ليسيطروا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون !
وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال ، وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول ، ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في محراب !
وتخدعهم هذه القوى الظاهرة ، تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول ، فيدورون حولها ، ويتهافتون عليها ، كما يدور الفراش على المصباح ، وكما يتهافت الفراش على النار !
وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة ، وتملكها ، وتمنحها ، وتوجهها ، وتسخرها كما تريد ، حيثما تريد .
وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد ، أو الجماعات ، أو الدول .. كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت … حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو ، ولا وقاية لها من بيتها الواهن ” ( الظلال . ج5 . ص 2736 ) .
والخلاصة : تفسد باتخاذ الأولياء من دون الله ( جل جلاله ) العلاقات والأفعال ، وينتشر الظلم والفساد والخراب والدمار في الأرض .
غايات الولاية لغير الله ( جل جلاله ) : إن اختيار القرآن الكريم في الآية موضوع البحـث ( لفظ أولياء ) له دلالات عظيمة وكثيرة في إثراء البحث ، فهي تشمل كل من اتخذ في أمر من الأمور أو شأنا من الشؤون وليا يركن إليه في مقابل ولاية الله ( جل جلاله ) . وهي ولاية لا حقيقة لها ولا أثر إيجابي فعلي لها في الحياة . لأن الله ( جل جلاله ) هو وحده الذي يمتلك الخلق والقوة والإيجاد والتدبير والنفع والضرر .. ولا يشاركه أحد في شيء من ذلك .
وسوف نتعرف فيما يلي على بعض غايات الولاية لغير الله ( جل جلاله )
الغاية الأولى ـ الرمزية : خص بعض المفسرين الأوثان بالذكر في تفسير الأولياء كأحد مصاديق الأولياء . لأن البعض اتخذها آلهة تعبد من دون الله ( سبحانه وتعالى ) برجاء جلبها المنفعة ودفعها الضرر . وهي في واقع الحال والحقيقة لا تنفع ولا تضر . وهذا ما تثبته الرؤية العقلية الفاحصة لحقيقة الأوثان ، وما أثبتته التجارب العملية والتاريخية ، حيث لم تحمي الأوثان الأقوام التي عبدتها من الهلاك . فمثل الذين يتخذون الأوثان أولياء من دون الله ( سبحانه وتعالى ) كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ، لو كانوا يعلمون .
فلسفة الولاية للأوثان : ونحن إذا رجعنا إلى القرآن الكريم وحاولنا أن نتعرف على فلسفة الولاية للأوثان ، نصل إلى نتيجة في غاية الأهمية .. وهي : أن الأوثان رمز لتجمعهم والتفافهم حولها من اجل مصالحهم المادية في الحياة .. وهي أشمل من الأصنام . فقد يكون الوثن مؤسسة أو حزب أو حكومة أو قائدة أو غير ذلك ، وذلك حينما يتخذها الإنسان رموزا يلتف حولها ويجعلها وسيلة إلى مصالحه بصورة بعيدة عن ولاية الله ( تبارك وتعالى ) وطاعته ورضاه .
قول الله تعالى : { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ } .
( العنكبوت : 25 ) .
فقد بين الله تعالى في كتابه المجيد وعلى لسان أنبيائه العظام ، بأن الغاية من اتخاذ المشركين للأوثان .. هي المودة بينهم ، ليس اعتقادا منهم واقتناعا بصحة ذلك ( في نفسه ) وأحقيته استنادا إلى الحجة والبرهان ، وإنما لأنها وسيلة إلى اجتماعهم ولأتلافهم وتعاضدهم مع بعضهم من أجل توصلهم إلى مصالحهم الدنيوية الفانية ، وإن كانت على حساب العقيدة الحقة والقيم الإنسانية الرفيعة ، غافلين عن المفاسد التي تترتب عليها في الحياة الدنيا ، والمصير الوخيم وسوء العاقبة والعذاب العظيم المترتب عليها في الآخرة ، ويستوي في ذلك الصنم والحزب والسلطة والقائد أو الإمام الذي لا يستمد ولايته من الله تعالى وطاعته .
لقد قام الدليل وأثبتت التجارب : بأن المال والعلم والأحزاب والقيادات والسلطة .. وكل شيء آخر ، لا تكون عزا حقيقيا للإنسان والمجتمعات ، إلا إذا قامت على أساس الولاية لله وحده لا شريك له ، وكانت مظهرا لطاعته وإرادته ومرضاته ، ودعامة للحق والعدل والخير والفضيلة التي أمر بها ، وسببا ( على ذلك الأساس ) لتمدن المجتمعات ونموها وازدهارها . فإذا انقطعت علاقتها بالله ( تبارك وتعالى ) تحولت إلى وسيلة للفساد والبغي والظلم والعدوان ونشر الخراب والدمار في الأرض .
والنتيجة : أن كل ما يتخذه الإنسان من وسائل لتحقيق المصالح الدنيوية بصورة بعيدة عن ولاية الله ( جل جلاله ) أي : لم تقم على أساس طاعته وابتغاء مرضاته وخدمة المصالح العامة الجوهرية للناس على ضوء دينه وهديه .. فهي من الوثن : سواء كانت : صنما أو حزبا أو سلطة أو قائدا من القادة الذين لا تلتقي ولايتهم بولاية الله ( تبارك وتعالى ) أو غير ذلك .
وقد حذر الله ( عز وجل ) من سوء عاقبة هذه الولاية المشؤومة التي لا حجة عقلية لها ولا برهان ، وليس فيها إحساس بالمسؤولية في التفكير والسلوك والمواقف أمام اللـه ( عز وجل ) ومتطلبات الحياة الفعلية ، وإنما تقوم على أساس الجهل والضلال والكذب والغرور والتقليد الأعمى والانجرار وراء الشهوات والانفعالات والمصالح الآنية وعدم التفكير العلمي والموضوعي العميق في حقائق الأمور وعواقبها . ويعلمنا الله ( تبارك وتعالى ) في تحذيره هذا : بأن المودة التي جمعتهم في الدنيا تحت ظل الولاية الوثنية على حساب العقيدة والمصالح الجوهرية للناس والقيم الإنسانية الرفيعة كالعدل والشرف والكرامة ، سوف تنقلب إلى تلاعن وتباغض وخصام في يوم القيامة ، ويكون مصير أصحابها والقائمين عليها إلى النار التي فيها الهلاك المؤبد ، ولا نـاصر ينصرهم ويدفع عنهم العذاب في ذلك اليوم العظيم .
وهذه الآية الشريفة المباركة : تنبهنا إلى جدية الحياة وما ينبني على ذلك من جدية في العقيدة والسلوك والمواقف ، لأن الحياة لم تخلق عبثا ، وإنما خلقها الله ( تبارك وتعالى ) بحكمته البالغة لغاية معروفة ومحددة ، وأن الله ( جل جلاله ) سوف يبعث الإنسان بعد الموت ، ويحاسبه في يوم القيامة ويجازيه على أعماله . ويجب على الإنسان أن يحكم العقل وينظر إلى الحياة ويتعامل معها على هذا الأساس الواقعي المتين ، وإلا فإن خسارته سوف تكون عظيمة جدا جدا في الدنيا والآخرة .
وفي الآية تقرير : بأن الذين يتخذون الأوثان ( بجميع أشكالها وأنواعها ) مودة بينهم في الحياة الدنيا ، لا يعطون الحياة والعقيدة والمواقف والسلوك ما تستحقه من الجد ، فيسترضي الصاحب منهم صاحبه على حسابها ، ويرى بأنها أهون من أن يخالف عليها صاحبه ، أو أنه يغير فيها تحت تأثير الخوف والطمع في تدافع الحياة ومواجهة المخالفين ، وهي في حقيقة الأمر والواقع الوجودي ، الجد والخطر الذي ليس بعده جد ولا خطر ، وهي لا تقبل تهاونا ولا استرضاء لأحد على حسابها ، ولا يليق بالعاقل الذي يحاسب لحقيقة الأمور وللعواقب والمصير أن يفعل شيئا من ذلك .
والخلاصة : أن كل علاقة وكل مؤسسة يجب أن تقوم على أساس الولاية لله ( عز وجل ) وطاعته وابتغاء مرضاته وخدمة المصالح الجوهرية العامة للناس على ضوء الدين والقيم والثواب ، وإلا فهي من الوثن ، وأنها سوف تكون حسرة على أصحابها والقائمين عليها في يوم القيامة ، وأن بعضهم سوف يلعن البعض الآخر في ذلك اليوم العظيم ، وأن مصيرهم إلى النار وبئس المصير ، ولا ناصر لهم ينصرهم في ذلك اليوم العظيم الذي تطير لهوله الألباب وتذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد ، ولا مخلص لهم في ذلك اليوم من عذاب الله إلا هو ( جل جلاله ) الذي كفروا بولايته الحق واتـخذوا الأوثـان ( الأصنام والأحزاب والسلطة والقادة أو الأئمة غير الإلهيين ) أولياء من دونه في الحياة الدنيا .
الغاية الثانية ـ ابتغاء العزة وتحقيق الأماني : حيث يتخذ الضعفاء والمهزومون أصحاب الثروة والطواغيت والمستبدين وقوى الاستكبار العالمي أولياء من دون المؤمنين ليكونوا لهم قوة يركنون إليها ، وقاعدة يرتكزون عليها ، وملجأ يلجأون إليه ، ويعتبرونهم المصدر الذي يعلقون عليه تحقيق أمانيهم ومطالبهم في الثروة والسلطة والجاه والنفوذ ، وكلها ( وفق التوجه المطروح ) مطالب وأماني جوفاء خالية من المضامين الإنسانية الرفيعة ، فيألفونهم ويرتاحون إليهم ويتعاونون معهم وينسجمون معهم في الأفكار والمشاعر والسلوك والمواقف ، ابتغاء المصلحة والنصرة والمنعة والعزة الزائفة ، فيطلبون منهم الرعاية والدعم والحماية والحظوة الجوفاء ، ولا يفعلون مثل ذلك مع المؤمنين ، متجاهلين ضلال أولئك وما ينتج عنهم من الفساد في الأرض ، وغافلين عن حقيقة أنهم لا يملكون ( لأنفسهم ولا لغيرهم ) نفعا ولا ضرا .. وهذه صفة أساسية من صفات المنافقين الكاذبين دون المؤمنين الصادقين .
قول الله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا } ( النساء : 139 ) .
ومن الواضح لكل ذي لب : أن اتخاذ أصحاب الثروة والطواغيت والمستبدين وقوى الاستكبار العالمي أولياء من دون المؤمنين ابتغاء المصلحة والعزة والمنعة ، يعتبر سلوكا خاطئ لا يقوم على أسس صحيحة من الناحية الفكرية والعملية ، لأنـهم من الناحية العملية ( وبحسب التجارب ) سوف يمارسون الإذلال لهم كما هو الحال ( دائما ) في أعوان الظلمة وعملاء الاستعمار . ومن الناحية الفكرية هم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياتا ولا نشورا ، وأن العزة والمنعة هي لله وحده مالك الملك لا شريك له ، فهي لا تطلب إلا من عنده ، ولا ينالها إلا أوليائه الصالحون من خلال التقوى والالتزام العملي بأحكام الشريعة المقدسة والقيم والثوابت الدينية ، والوقوف إلى صف المؤمنين الصادقين والمجاهدين في سبيل اللـه ( جل جلاله ) وإعلاء كلمته وصيانة الكرامة الإنسانية في الأرض من الانتهاك والتدنيس على أيدي المستبدين والمستكبرين .
يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير الآية المذكورة : ” إن هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تحذير للمسلمين بأن لا يلتمسوا الفخر والعزة ، في كل شؤونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ، عن طريق إنشاء علاقات الود والصداقة مع أعداء الإسلام ، بل إن عليهم أن يعتمدوا في ذلك على الذات الإلهية الطاهرة التي هي مصدر للعزة والشرف كله ، وأعداء الإسلام لا عزة لديهم لكي يهبوها لأحد وحتى لو امتلكوها لما أمكن الركون إليهم والاعتماد عليهم ، لأنهم متى ما اقتضت مصالحهم الشخصية تخلوا عن اقرب حلفائهم وركضوا وراء مصالحهم ، وكأنهم لم يكونوا ليعرفوا هؤلاء الحلفاء مسبقا ، والتاريخ المعاصر خير دليل على هذا السلوك النفعي الانتهازي القذر ” ( الأمثل . ج3 . 436 ـ 437 ) .
وأرى أن اتخاذ أصحاب الثروة والطواغيت والمستبدين وقوى الاستكبار العالمي أولياء من دون المؤمنين ابتغاء المصلحة والعزة والمنعة من عندهم ، يدل على التدهور الروحي والأخلاقي وضعف الشخصية ، فصاحبه أسيرا في شرك الخلق السيئ كالحرص والشح وفي شرك المصالح الآنية البعيدة عن التقوى والكرامة الإنسانية ، وهو إنسان يشعر بالضعف والعجز أمام الأحداث والتحديات والأشخاص من أصحاب القوة والسلطان والثروة ، ولا يملك الإصرار على الحق والعدل والكرامة أمام الباطل والظلم والرذيلة ، وهذا ثمرة من ثمار الخوف والطمع وضعف الارتباط بالله ( ذي الجلال والإكرام ) والانحراف عن منهجه القويم في الحياة ، مما يؤدي إلى سحق كرامة الإنسان وإيمانه وتقواه ، ويكون من الخاسرين في الدنيا والآخرة .
لقد عانت المجتمعات والدول الإسلامية الكثير من الخسائر والمصائب والنكبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على الصعيد الداخلي والخارجي ، بسبب الانحراف عن الدين والتخلي عن القيم والثوابت الدينية والوطنية ، والوقوع في حبائل الاستعمار والقوى العظمى ، والركون إلى الظالمين والحكام المستبدين .
وهناك حالات تستثنى مما ذكر .. منها :
الحالة الأولى ـ الاستعانة بالكفار المسالمين على الكفار المحاربين : وهي مقبولة عقلا وجائزة شرعا ، فقد حالف الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خزاعة مع أنهم كانوا مشركين ، واستعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه على حرب هوازن ، واستعان بيهود بني قنيقاع وخصهم بشيء من المال . ونقل الشيخ محمد جواد مغنية عن العلامة الحلي : ” أن جماعة من الفقهاء أجازوا الاستعانة بالكفار على حرب أهل البغي من المسلمين ، لأن الاستعانة بهم كانت لإحقاق الحق ” ( الكاشف . ج3 . ص40 ) .
الحالة الثانية ـ الصداقة العادية : وذلك من خلال الجوار والزمالة في الدراسة والمشاركة في المهنة أو التجارة وما إليها مما لا يمس الدين ، وهي مقبولة عقلا وجائزة شرعا . يقول الشيخ محمد جواد مغنية : : ” وهذه الصداقة جائزة أيضا بالإجماع . لأن مودة الكافر إنما تكون حراما إذا استدعت الوقوع في الحرام ، أما إذا لم تكن وسيلة للمعصية فلا تحرم ، بل قد تكون راجحة إذا عادت بالنفع والخير على بلد من البلدان أو أي إنسان كان ” ( الكاشف . ج3 . ص 41 ) .
والخلاصة : أن اتخاذ أصحاب الثروة والطواغيت والمستبدين وقوى الاستكبار العالمي أولياء من دون المؤمنين ابتغاء المصلحة والعزة والمنعة من عندهـم ، منهي عنـه شرعا ( بحسب أقوال الفقهاء ) وهو سلوك خاطئ لا يقوم على أساس صحيح علمي أو عملي ، ويدل على التدهور الروحي والأخلاقي للشخص ، ويؤدي إلى الخسائر والكوارث والنكبات على كافة الأصعدة ، وليس لمن يتجه هذا الاتجاه إلا خيبة الأمل والذل والخزي في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة .
الغاية الثالثة ـ طلب السلامة : حيث يتخذ الضعفاء والمهزومون أصحاب النفوذ والسلطة من الطواغيت والمستبدين وقوى الاستكبار العالمي أولياء على حساب الدين والمصالح العامة الجوهرية للعباد ( خوفا ) منهم على النفس والمال والأهل والأحباب بأن ينزلوا بهم المصائب والمحن ويخلقوا لهم المشاكل الصعبة في الحياة ، لأنهم يملكون القوة والمال والسلطة والنفوذ ، فيتنازل القوم الضعفاء لهم عن الدين والقيم والثوابت والمصالح العامة الجوهرية للناس ، ويقدموا لهم فروض الطاعة والعبودية ، ليحصلوا منهم على الفتات والأمن والسلامة والحماية غرورا ، فتضعف بذلك المواقف ، ويتمكن الطواغيت والظلمة والمستبدون من الشعوب ويتحكموا في مصائرهم ، وتفقد الشعوب الاستقلال والقدرة على تقرير المصير أمام القوى العظمى والاستكبار العالمي ، وتضيع المصالح الجوهرية العامة : الإسلامية والقومية والوطنية ، ويضيع معها الدين وتضيع الرسالات والقيم والثوابت الإنسانية والدينية والقومية والوطنية ، ويكون المواطنون وتكون الشعوب عرضة للاستضعاف والظلم والهلاك .
إن هؤلاء الضعفاء المهزومين : لا يتحركون من منطلق العقيدة والثوابت الإنسانية والدينية والقومية والوطنية والقيم ، وإنما يتحركون على وقع الجزع والخوف والرعب والجشع والحرص على المصالح الخاصة المادية والآنية التي تملأ قلوبهم ، فأظلمت لها نفوسهم ، واسودت أرواحهم ، وعميت أبصارهم ، فهم غافلون عن الله ( جل جلاله ) والآخرة ، ومتجاهلين الدين والقيم والثوابت ، وغير مبالين بمصالح الوطن والعباد الآخرين . وهذا مما لا يليق بالمؤمنين الذين يستمدون العزة والكرامة من الولاية إلى الله ( جل جلاله ) وطاعته والتوكل عليه في جميع شؤونهم وفي مكابدة المشاق والتكاليف المضنية والنهوض بالمسؤولية الرسالية ومواجهة الجبابرة والمستكبرين ودك حصونهم ومعاقلهم . وهو من صفات الانتهازيين المنافقين الكاذبين ، الذين يعانون من مرض الشك وعدم اليقين وعدم الثقة بالله ( جل جلاله ) وبوعده وبما عنده ، وينقصهم الوعي بالعقيدة وبطبيعة الصراع بين القوى في الحياة ، قوى الحق والباطل ، وقوى الهدى والضلال ، وقوى العدل والظلم ، وقوى الخير والشر ، وقوى الفضيلة والرذيلة ، وقوى النور والظلام .
إن هؤلاء الضعفاء المهزومون : يمثلون الأساس الأول للعدوان على الشعوب واستضعافهم في الأوطان ، وسلب حقوقهم وانتهاك كرامتهم ، وإعاقة تطبيق الإسلام والعمل به كمنهج شامل في الحياة ، وفقدان الشعوب للاستقلال وعدم قدرتها على تقرير المصير أمام قوى الاستكبار العالمي ، وهم شركاء لمن تولوهم في الإثم والعقاب يوم القيامة .
قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } ( المائدة : 51 ـ 52 ) .
يقول السيد قطب : ” قوة الله وحدها هي القوة ، وولاية الله وحدها هي الولاية ، وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل ، مهما علا واستطال ، ومهما تجبر وطغى ، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل .
إنها العنكبوت : وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت : ” وإن اوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ” .
وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى ، وللإغراء والإغواء . لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة ، وهم يواجهون القوى المختلفة . هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم . وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم .. وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله ، وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة ، وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير ” ( الظلال . ج5 . ص 2737 ) .
وفي الآية تحذيرات عدة .. منها :
التحذير الأول : التحذير من تأثير المجاملات على الفكر فتحرفه ، وعلى المواقف فتميعها . التحذير الثاني : التحذير من الاستسلام للثقة في الأجواء التي لا تدعو إلى الثقة وتعده نوعا من السذاجة وعدم الوعي بحقائق الأمور .
التحذير الثالث : التحذير من الاعتماد على الأعداء في تقرير المصير .
وقد أثبتت التجارب التاريخية والمعاصرة : أن الكثير من النكبات التي أصابت المسلمين هي بسبب تجاهل هذا التحذير القرآني العظيم .. والمطلوب : عدم اعتماد المؤمنين على احد سوى الله ( جل جلاله ) وقواهم الذاتية التي منحها الله ( تبارك وتعالى ) لهم في تقرير مصيرهم . وهذا لا يعني عدم الاستفادة من المساعدات والاتفاقيات المشروعة التي لا تأتي على حساب الدين والاستقلال .
وفي الختام : ينبغي التنبيه إلى أن تحذيرات القرآن الكريم من الولاية لغير الله ( سبحانه وتعالى ) تهدف إلى خلق الوعي والمناعة الداخلية للجماعات والشعوب الإسلامية في ظل الأوضاع المحلية والدولية المنحرفة والضاغطة عليهم ، لحمايتهم من الميوعة والذوبان في الغير ، ولكي لا تضيع الأمانة الربانية والرسالات التي حملهم الله ( تبارك وتعالى ) إياها في الحياة . وليس فيها أي توجهات عدوانية ضد الأبرياء والمسالمين أي كان دينـهم ومذهبهم .
أيها الأحبة العزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته