القوة المطلقة الإلهية
<وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ>
ثم أمره بأن يلقي ما في يمينه: <وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ>[1] وذكر اليمين مع أن الحال لا يختلف عملياً بين أن يكون إلقاء العصا باليمين أو بالشمال، للتنبيه من ذي العزة والجلال على القدرة والسيطرة والتمكن من جهة، وعلى اليمن والبركة من جهة ثانية، وأخبره (جل جلاله) بأن عصاه البسيطة سوف تبتلع بأمر الله (عز وجل) وقدرته غير المتناهية وبسرعة مذهلة وبحذق جميع ما صنع السحرة ولن تغادر منها شيئاً رغم كثرتها وعظمتها، وذلك لأن العصا التي في يده، تمثل حقيقة فعلية واقعية عظيمة، تقف وراءها قوة مطلقة غير متناهية، فوق الطبيعة وفوق قدرات الإنسان وطاقته، إذ ليس من الحقيقة إلا ما أراد وكيف أراد ومتى أراد وكم أراد، فإن أراد للعصا أن تكون عصا كانت عصا كما أراد، وإن أراد لها أن تكون حية كانت حية كما أراد، وإن أراد لها أن تكون حية عاجزة كانت حية عاجزة كما أراد، وإن أراد لها أن تكون حية فاعلة كانت حية فاعلة كما أراد وبالمقدار الذي أراد، ونحو ذلك، وعليه: فالعصا ليست هي المسألة المهمة في المعادلة القائمة في المبارزة بين السحرة وبين موسى الكليم (عليه السلام) وإنما المهم في المعادلة، هي إرادة الله (عز وجل) وأمره وقدرته الأزلية المطلقة غير المتناهية، فإذا أراد الله (عز وجل) شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، فهو الغالب على أمره. والقضاء على ما صنع السحرة وإبطال كيدهم مثلما يكون بالعصا، يمكن أن يكون بغيرها من الأشياء، وبشيء أصغر منها وأحقر، ويمكن أن يكون بإرادته كن «المجردة».
والذي جاء به السحرة رغم عظمته بما هو سحر، إلا أنه في الحقيقة والواقع أو بما هو في نفسه مجرد تمويه وخداع، أثروا به في خيال الناظرين ولا حقيقة له وراء ذلك الظاهر التمويهي، والحق يعلو في نفسه ولا يُعلا عليه، فلابد للحق الذي جاء به موسى الكليم (عليه السلام) من عند ربه (عز وجل) أن يعلو على الباطل والتمويه والخداع الذي جاء به السحرة وسحروا به أعين الناس؛ لأن المغالبة والمبارزة الجارية بين موسى الكليم (عليه السلام) وبين السحرة وبين فرعون وملئه، هي في الحقيقة والواقع مباراة بين القادر المطلق الذي تستمد منه الأشياء وجودها وصفاتها وحقائقها وأفعالها ولا تستقل عنه في شيء من ذلك، وبين السحرة الفقراء العاجزين في أنفسهم والمستمدين وجودهم وصفاتهم وأفعالهم من الله (جل جلاله)، والممتهنين صناعة السحر القائم على التمويه والكيد والخداع، ويريدون أن يبارزوا به قدرة جبار السماوات والأرض، وهذا لا يكون أبداً، وقد أدرك السحرة أنفسهم هذه الحقيقة منذ البداية، وأذعنوا لها حينما ثبت لهم بالدليل الصحيح والبرهان المستقيم.
وفي جميع الأحوال، لا توجد قوة في الوجود كله تستطيع أن تناهض قوة رب العزة والجلال المطلقة، وما فعله فرعون وما يفعله أضرابه من الفراعنة في مناهضة رب العزة والجلال ومحاربة أوليائه الصالحين، هو من السفاهة والحمق بمكان ولا يخضع لمنطق سليم.
ثم أشار رب العزة والجلال إلى قاعدة عامة وسنة كونية، فقال: <وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ>[2] أي: لا يصلح السحر مطلقاً مهما بلغ من المهارة والحذق في الفن والإتقان، ولا يصلح الباطل بما هو باطل أن يؤسس إلى حالة تربوية أو حضارية أو موقف ثابت يبنى عليه في أي مكان أو بقعة في الأرض وفي أي زمن من الأزمان؛ لأن السحر باطل يقوم على التمويه والتضليل والخداع وهو وهم لا حقيقة له ولا واقع، وكل باطل بما هو باطل غير مستمر، ولا يمكن أن يفلح في تحقيق البناء الصالح، والتأسيس لحالة ثابتة علمية أو عملية، تربوية أو حضارية؛ لأن البناء الصالح والحالة الثابتة العلمية والعملية، التربوية والحضارية، تبنى على الحقائق وليس على الأوهام والتخيلات، فالباطل وكل بنيانه المؤسس عليه زاهق لا محالة، ولا يستطيع أن يمحو الحق ويقضي عليه في منطق العقلاء وأصحاب البصائر النافذة، نعم قد ينجح أصحاب الباطل في تزيين أمور وهمية لا حقيقة لها، وتشبيهها بالحق والتشويش بذلك على الحق المبين عند البسطاء الذين لا يتوفرون على المنطق السليم والبصيرة الواضحة، ولكن ذلك لا يكون إلّا إلى حين من الوقت ثم يفتضح أمر الباطل وتنكشف حقيقته، فالحق يدافع عن نفسه بنفسه، ويظهر للعيان على المدى البعيد للجميع، ويمحق الباطل ويزهقه ويزيله عن الوجود، قول الله تعالى: <كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرض>[3] أي: شبّه الله سبحانه وتعالى الباطل وما يعرض إلى قلوب الناس وعقولهم من الشبهات عند وصول الحق إليها بالزبد الذي يطفو فوق سطح سيل الماء فيستره، أو ما يعلو من الخبث والتراب والشوائب فوق المعادن مثل: النحاس والحديد والذهب والفضة حين تذاب بالنار من أجل تخليصها من الشوائب وسكبها للزينة أو لأغراض الحياة العملية، مثل: أواني الطبخ وأدوات الصناعة والبناء والتعمير ونحوها، فالزبد يطفو فوق سيل الماء وفوق المعادن المذابة ثم يذهب ويتلاشى ويضمحل من تلقاء نفسه إذ يلقيه السيل على وجه الأرض، أو يلقيه الصانع عن المعادن المذابة، فالزبد في الحالتين: حالة سيل الماء، وحالة المعادن المذابة، ظاهرة سطحية عارضة لا فائدة فيها ولا أصل ولا ثبات لها ولا استمرار، يوجد ثم يذهب ويضمحل.
وفي المقابل ليبقى ما ينفع في ظهور الحياة وبقائها ونمائها وتطورها وما ينفع الناس عموماً في حياتهم على وجه الأرض من الماء والمعادن، كذلك الحال بالنسبة إلى الباطل والشبهات لافائدة فيها، ولا أصل لها ولا ثبات لها أمام الحق، فهي تطفو فوق السطح كالزبد، وتستر الحق إلى حين كما يستر الزبد الماء والمعدن، ثم يذهب ويضمحل بالبراهين الصحيحة؛ لأنها لا تملك القابلية للاستمرار في نفسها <إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا>[4] ولأن القلوب تستوحش منها وتنكرها وتجاهدها، ويبقى الحق وما ينفع الناس من العلم والقيم قائماً، ويرسخ بالبرهان الصحيح في العقول والقلوب والواقع العملي للناس في حياتهم، فلا يزال الباطل يزين أموراً ويشبهها بالحق في أوهام الناظرين، ولا يزال الحق يمحو الباطل ويبتلع ما فيه من كيد وخداع ومكر وتمويه حتى يحق الله الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، وهذه ضمانة ربانية وسنة كونية تطرب إليها قلوب عشاق الحقيقة وتطمئن إليها نفوس المؤمنين الموحدين.
وبعد التطمين الإلهي، فعل موسى الكليم (عليه السلام) ما أمره الله تعالى به، فألقى عصاه فتحولت من حينها إلى ثعبان حقيقي ضخم، فطافت في حركة إرادية حرة حول الصفوف، متميزة في ذلك عما ألقاه السحرة من الحبال والعصي، ورآها جميع الحاضرين فلم يشكوا في حقيقتها وماهيتها، ثم قصدت ما صنع السحرة من الحبال والعصي فابتلعتها كلها، وبعد أن أنهت مهمتها على أكمل وجه، ولم يبق شيء مما صنعه السحرة، ورأى الناس جميعاً ذلك بشكل واضح ومذهل، أخذها موسى الكليم (عليه السلام) بيده الشريفة المباركة فعادت عصا كما كانت، فظهر هنالك الحق وانتصر؛ لأنه ظاهر في نفسه، وزهق الباطل واضمحل وتلاشى؛ لأن الباطل كان زهوقاً في نفسه، وثبت بما لا يدع مجالاً للشك صدق نبوة موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) وصدق رسالتهما وأمانتهما، وقد تجلت للناظرين في المشهد ثلال حقائق رئيسية، وهي:
1. تحول العصا إلى ثعبان حقيقي ضخم.
2. ابتلاع العصا / الثعبان جميع ما صنع السحرة ولم تغادر منه شيئاً رغم كثرته.
3. عودة العصا إلى حالتها الأولى، أي: تحول الثعبان إلى عصا في يد موسى الكليم (عليه السلام) كما كانت من قبل.
وهذه الحقائق الثلاث المذهلة، شاهد على صدق نبوة موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) ورسالتهما وأمانتهما.