التعريف بهارون: تصدي هارون (ع) لفتنة العجل

فلما جاء السامري ببدعة عبادة العجل الذهبي، وهي بدعة عجيبة ومؤسفة جداً، وتدل على ضعف منطق بني إسرائيل وإيمانهم، وتكشف عن شدة تعلقهم بعالم المادة والمال والذهب والفضة وزخارف الحياة الدنيا، على حساب قيم الفكر والروح، فتصدى لهم هارون (عليه السلام) وأدى ما عليه من الواجب والتكليف الشرعي في محاربة الضلال والانحراف، وبذل ما في وسعه من النصح والوعظ والإرشاد لهداية بني إسرائيل وردهم عن غيهم وضلالهم، قول الله تعالى {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}[1] أي: قال الوصي والخليفة بحق هارون (عليه السلام) لبني إسرائيل الذين عبدوا عجل السامري وسجدوا له حين جاء السامري ببدعته الضالة هذه قبل أن يرجع موسى الكليم (عليه السلام) إلى بني إسرائيل من الميقات الذي واعده ربه لمناجاته على جبل طور سيناء: يا قوم!! لقد ابتليتم ووقعتم في الفتنة، وخالفتم منطق العقل والفطرة والطبع السليم، وضللتم عن الدين الحق الحنيف، حين عبدتم العجل وسجدتم له من دون الله سبحانه وتعالى، الذي هو ربكم الحق، الذي تجب عليكم عبادته وطاعته والسجود له وحده لا شريك له، فهو الرحمن الرحيم بكم، الذي خلقكم وخلق كل شيء في الوجود سواه، وهو يرزقكم ويدبر أمركم وأمر العالم كله، ويدفع عنكم الضرر ويجلب لكم النفع، وقد أنعم عليكم بنعمه العظيمة، حيث كنتم عبيداً فحرركم، وكنتم متفرقين فجمعكم ووحدكم تحت رجل رباني منكم، وكنتم جاهلين فعلمكم وألقى إليكم نور المعرفة، وكنتم ضالين فهداكم إلى الدين الحق والصراط المستقيم، وإليه معادكم وعليه حسابكم وجزاؤكم على أعمالكم في يوم القيامة، لا هذا العجل الذهبي الذي صنعه السامري بيده وأعنتموه على صنعه، ثم دعاكم إلى عبادته والسجود له فأطعتموه، وهو جسد لا روح له ولا حياة فيه، ولا يضركم ولا ينفعكم بشيء، ولا يسمع كلامكم إذا كلمتموه ولا يجيب عليه، ولا يهديكم إلى طريق حق أو خير مادي أو معنوي فتسلكوه، ولا طريق باطل أو شر فتجتنبوه، فاسمعوا لي وأطيعوني فيما آمركم به وأرشدكم إليه، وفيما أنهاكم عنه وأحذركم منه، فأنا الوصي المؤتمن عليكم، فقد خلفني فيكم نبيكم وقائدكم الأعظم موسى الكليم (عليه السلام) وأوصاكم بطاعتي وحذركم من معصيتي ومخالفة أمري، وأنا نبي معصوم، وشريك لأخي موسى الكليم (عليه السلام) في الرسالة والقيادة، وطريقي هو طريق الحق والعدل والفضيلة والصواب، فلا تنقضوا العهد والميثاق وتخالفوا الدين والعقل والمنطق بمخالفتكم لي ومعصيتي، واتبعوني في عبادة الله الواحد القهار سبحانه وتعالى، ولا تسمعوا للسامري وتتبعوه، فترموا بأنفسكم في هاوية الهلاك والشقاء، فهو منافق ضال مضل ومفرط في الأنانية وتضخم الذات، وطاعته تؤدي بكم حتماً إلى الشقاء وسوء العاقبة في الدارين الدنيا والآخرة.

إلا أن عبدة العجل الضالين، لم يسمعوا من الوصي الناصح الأمين نصحه لهم ولم يستجيبوا لتحذيراته، ولم يؤثر فيهم المنطق المتين، والبيان الواضح، وحرارة الصدق والإخلاص في الوعظ والإرشاد، ولا أي شيء من هذا القبيل، وعصوه واضطهدوه وكادوا يقتلونه، وأصروا على الاستمرار في عبادة العجل لفرط حمقهم وسفاهة أحلامهم، إلى حين يرجع إليهم موسى الكليم (عليه السلام) ليروا رأيه، إن كان يقرهم على عبادة العجل الذهبي أو ينهاهم عنها!! قول الله تعالى: {قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ}[2] أي: أنهم لفرط حمقهم وسفاهة أحلامهم وضعف منطقهم وتخلف تفكيرهم، توقعوا بأن من الممكن أو الجائز أن يقرهم موسى الكليم (عليه السلام) على شركهم بالله سبحانه وتعالى والضلال البين، ويسمح لهم بالبقاء على عبادة العجل الذهبي وربما يسجد له مثلهم.

وعليه: فإنهم لم يكتفوا بمخالفة العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم ونداء الضمير، بل أعرضوا أيضاً عن نداء نبيهم وخالفوا الوصي والخليفة والقائد الهادي المهدي هارون (عليه السلام) الذي أمروا بالرجوع إليه وأوجبت عليهم طاعته واتباعه بحكم العقل والدين، قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[3].

وفتنة عجل السامري تسلط الضوء على خطورة الحركات الرجعية المضادة التي تسعى إلى الانقضاض على الثورات والحركات الإصلاحية وتحطيم نتائجها والرجوع بالأمة أو الشعب إلى الوراء، وذلك بدوافع التعصب الأعم للتراث، أو لتحقيق مصالح شخصية أنانية على حساب تاريخ الأمة أو الشعب ومصالحها الحيوية والجوهرية، وتعتمد لتنفيذ مخططاتها وتحقيق أهدافها الخبيثة على الجذور العميقة للنظام القديم والنزاعات المنحرفة والاستعدادات الشاذة والعناصر الانتهازية وفقاً لمستوى الضعف في الأمة، واستغلال الفرص الزمانية والمكانية المؤاتية. وتدل على أن التخريب والإفساد والإضلال، يمكن أن يحدث في الأمة المسلمة، وربما استطاع شخص منافق واحد كالسامري، يتمتع بالدهاء والمكر، ويحظى بثقة عامة الناس، أن يغوي ببدعه وأفكاره الضالة جماعات كبيرة أو طائفة كبيرة من الأمة ويجمعهم حوله، وينجح في تخريب كيانٍ عظيمٍ بذلت الأرواح والأنفس في بنائه وتشييده لسنين طويلة، خاصة إذا سرت في الأمة نزعة منحرفة أو استعداد شاذ ووافق الانحراف والضلال هوى الأكثرية ورغباتها، وساندته جماعة كبيرة من النخبة الدينية والفكرية والسياسية والمهنية الانتهازية، مما يوجب على قيادات الحركات الثورية والإصلاحية وجماهيرها الواعية، اليقظة والحذر الشديد، وضرورة التعرف على أشخاص المنافقين الخطرين وأدوارهم ودوافعهم، ومراقبة تحركاتهم، والمبادرة السريعة لإجهاض مؤامراتهم الخبيثة قبل أن تبيض وتستفحل.

 كما تكشف فتنة العجل عن الحاجة الضرورية المستمرة المواكِبة إلى مسيرة الأمة، إلى القيادة الواعية البصيرة، والإمام الهادي المهدي الذي بدونه تصبح الاستقامة على الدين الحق وتصحيح الانحراف المستشري والمتأصل في الأمة أمراً مستحيلاً.

كما تكشف الفتنة عن ضرورة تحصين القاعدة الجماهيرية العريضة بالوعي والبصيرة وقوة الإيمان، قول الله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[4] فلا يكفي لتحصين الثورة والإصلاح توفر القيادات والنخبة على الوعي والبصيرة، بل يجب أن ينتقل الوعي والبصيرة من القيادات والنخبة إلى القاعدة الجماهيرية الواسعة في سبيل تأمين نتائج الثورة والحركة الإصلاحية من الانقلاب عليها والعودة إلى الوراء. وفي الوقت الحاضر تكشف عن أهمية الدور الذي تلعبه الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في المحافظة على نتائج الثورة والإصلاحات، مما يعني ضرورة بنائها على أسس فكرية وسياسية ثورية وإصلاحية، وتعزيز الحالة التنظيمية المؤسسية، ووضع آليات واضحة لاتخاذ القرارات والإلتزام بها، وترشيد الحالة الشعبية وضبط حركاتها وفق قواعد رئيسية، مثل: التمييز بين الإمام والولي الفقيه وغيرهما، والتثبت من أهلية الرموز والقيادات الشعبية واستحقاقها للدور، وجعل الحق والمصير والمصالح العامة فوق الأشخاص، وأن الأشخاص يعرفون بالحق لا أن الحق يعرف بالأشخاص، والحذر الشديد من الغوغائيين والانتهازيين ونحو ذلك.

كما تدل فتنة عجل السامري على صعوبة التصحيح إذا سرى الانحراف والضلال في الأمة وتمكن منها، وأصبحت له رموزه ومرجعياته الفكرية والسياسية والاجتماعية، وربما أدى إلى الاقتتال وسفك الدماء، وضياع الثورة، وإعاقة مسيرة التقدم والتطور المعرفي والتربوي والحضاري، وربما احتاج التصحيح إلى بذل جهود وتضحيات جسيمة، ربما تفوق تلك التي بذلت في التأسيس والبناء، وإلى زمن أطول بكثير، وسبقت الإثارة إلى أن التصحيح يصبح أمراً مستحيلاً بدون وجود مرجعية هادية متفق عليها.

الجدير بالذكر أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» وهذا حديث متواتر روته مجامع الحديث عند جميع الفرق الإسلامية، منها: صحيح البخاري وصحيح مسلم، عن عدد كبير من الصحابة، منهم: عمر بن الخطاب، ومعاوية بن أبي سفيان، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبوسعيد الخدري، وابن عباس، وعبدالله بن مسعود، وأنس بن مالك، وزيد بن أرقم، وأبو أيوب، وأسماء بنت عميس، وأم سلمة، وغيرهم، ويدل الحديث على أن لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) جميع المراتب والمنازل المعنوية السامية التي كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عدا النبوة والوحي وله جميع المناصب القيادية العليا التي كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مثل: التبليغ عن الله تبارك وتعالى والحكم والقضاء، وله جميع الحقوق على المسلمين، مثل: الطاعة والاتباع والامتثال لأوامره ونواهيه، كالتي كانت لهارون (عليه السلام) في بني إسرائيل. وإن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو أفضل المسلمين بعد الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان هارون في بني إسرائيل، وأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو الخليفة مباشرة بعد الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان هارون في بني إسرائيل إبان غيبة موسى الكليم (عليه السلام)، وليس هناك من هو أصلح منه لهذا المنصب، ولا يجوز لغيره أن يتولى هذا المنصب مع وجوده، وأن طاعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) واتباعه هدى، ومعصيته ومخالفته ضلال، كما يدل على ذلك حديث الثقلين، قول الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»[5].

وقد اختلفت الأمة المسلمة بعد الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتل بعضها بعضاً، ووقعت في فتن عظيمة، ولا زال الاختلاف موجوداً ويتسع يوماً بعد يوم، وقد بلغ مدىً خطيراً في الوقت الراهن حيث تكفير المسلمين بعضهم بعضاً، وحدوث الاقتتال الدامي بينهم على أسس وأغراض طائفية، ولا سبيل لخروج المسلمين من هذه الأزمة البالغة إلا بالرجوع إلى سفينة النجاة، وهم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قول الرسول الأعظم الأكرم: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق»[6]. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم». وهذا ما سيحدث حتماً في آخر الزمان على يد الحجة المهدي (عجل الله فرجه الشريف) ولكن الطموح إلى حصول شرف السبق إليه قبل الظهور.


المصادر والمراجع

  • [1]. طه: 90
  • [2]. طه: 91
  • [3]. الملك: 10
  • [4]. يوسف: 108
  • [5]. صحيح الترمزي، جزء2، صفحة 8
  • [6]. مستدرك الصحيحين، جزء2، صفحة 343
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى